أظن أن الصحف لا تأبى على نشر هذا النقد للشعر الجاهلي للدكتور طه حسين وأن ليس لأحد سبيل عليها إذا نشرته لأنه لا يتعلق بدينه ولا بإثبات كفره بما كتبه في الشعر الجاهلي ولا بإثبات أنه طعن في الدين الإسلامي الذي تقام شعائره في مصر فيكون مستحقًّا للعقوبة المنصوص عليها في القانون المصري، وإنما هو مناقشة هادئة علمية محضة في المنهج الذي اصطنعه الدكتور في البحث في الشعر الجاهلي يتبين منها: أهذا النهج الذي سلكه في البحث علمي منطقي يرضى عنه العلم؟ أم هو منهج خاطئ لا يحترمه العلم، يحتقره المنطق؟ ويرى أنه من المغالطات. إننا سنحاول ذلك وستكون النتيجة كما سيراها القارئ أن منهج الدكتور في البحث من ضلالات العقول ومغالطات الوهم، وأنه ليس يسلك هذا المنهج إلا الذين لم يمارسوا صناعة المنطق ولم يمرنوا على صناعة البرهان، وكانوا سطحيين في بحوثهم لم يتعمقوا إلى الغور ولم يبعدوا المرمى، وغرضنا من ذلك أمور ثلاثة: (أولها) أن تسقط دعوى الدكتور طه حسين بأن ما سلكه في البحث منهج علمي حديث، وأنه بذلك يحشر نفسه في زمرة العلماء حشرًا في عداد المخترعين والمبتكرين والمستكشفين، وليس يعلم إلا الله ما ينال هؤلاء العلماء من الأذى في مضاجعهم بانتساب الدكتور إليهم وحشره نفسه قسرًا في زمرتهم. (ثانيًا) أن أحمي شباب مصر من عدوى ذلك المنهج ومن أن يتأثروا الدكتور في طرائقه الفكرية؛ فإن مستوى البحث في مصر لما ينضج بعد وذيوع أمثال طرائق الدكتور مما يكون ضغثًا على إبالة. (ثالثها) أن يعلم الذين يدينون بالإسلام في مصر أن دينهم لم يصادمه علم ولا عقل كما يدعي الدكتور ويفتري، وحاشا الإسلام أن يصادمه علم أو عقل، وأنه إذا كان ثم ما يصادمه فليس العلم والعقل؛ وإنما هو الجهل المخزي والباطل الشائن والعقل الفجّ الذي لم يستكمل بعض شرائط الإنتاج سيسوء ذلك الدكتور طه حسين، ولا ترضيه ولكنني لست أتوخى رضاه ولا أتحرز من مساءته وإنما أتوخى رضى الحق وأتجنب مساءة الصواب، فأما من عداهما فلا علي أن يكونوا غاضبين وليس يدخل في غرضي أن يقتنع الدكتور طه حسين، فإنه ليس ممن يرجى منهم اقتناع فإنه ليس طالب حق وإنما هو طالب رواج وليس ممن يعنيهم الصواب وإنما ممن يعنيهم الربح فهو كالتاجر همه أن تروج بضاعته لا أن تنقد فيعلم جيَّدها من رديئها وكما أن التاجر إذا بصرته عيب بضاعته ناكرك وجاحدك كذلك الدكتور إذا ألمسته عيب ما يقول بيده جحد واستكبر؛ لأن ذلك يقف دون رواجه وربحه وإياهما يريد. إن الذي أفسد على الدكتور أمره اعتقاده أن أمته أمية فهو يلقي إليها مباحثه على عواهنها لا يعنى بتمحيصها ونفي الزائف عنها عالماً بأنه ليس عندها من ملكة النقد ما يبن عيبه ويظهر شينه وقد مد له في هذا الاعتقاد أنه يرى المعجبين برأية والمقرظين لعلمه مهما كان فيه من الباطل والخطأ. ألا فليعلم الدكتور بعد أنه ليس ينشر بحوثه في أمة وحشية متبدية كقبائل الزنوج وإنما هو ينشرها في أمة متحضرة متمدينة ضربت في العالم بسهم وأخذت منه حظًّا وأن بني قومه فيهم من ينقدون الآراء ويعلمون حقها من باطلها ويعلمون المغالطات مهما بولغ في تزيينها وأنهم لم تستعص عليهم نحل الفلاسفة ومعتقداتهم في الإلهيات والأخلاق والسياسة والاجتماع فنقدوها وعلموا زائفها من خالصها فكيف تستعصي عليهم آراء سطحية تتعلق بتاريخ أو شعر؟ وأنهم إن كانوا إن كانوا قليلاً ففي استطاعة هؤلاء القليل أن يبينوا لجمهرة الأمة عثرات الرأي وكبوات الأفهام. جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح نفى الدكتور طه حسين في الفصل الذي عنوانه (الشعر الجاهلي واللغة) وجود إبراهيم وإسماعيل وبناءهما الكعبة وهجرتهما إلى مكة وتعلم إسماعيل العربية من العرب العاربة الذين هم من قحطان وإن كان قد ورد ذكرهما في التوراة والقرآن، نفى ذلك الدكتور وليس له اختيار في هذا النفي؛ لأنه مضطر أمام الدليل القطعي والدليل الذي اضطره إلى ذلك هو أنه قد ثبت أن لغة قحطان أي لغة جنوب جزيرة العرب تخالف اللغة العربية التي يتكلم بها أهل الحجاز فنسبتها إلى اللغة العربية كالنسبة بين اللغة العربية وبين أي لغة سامية فإذا كانت هذه القصة صحيحة وكان إسماعيل وبنوه قد تعلموا العربية من القحطانية فكيف بعد ما بين اللغة العربية العدنانية واللغة القحطانية؟ نحن إذًا بين أمرين إما أن نقبل هذه القصة ونرفض ذلك الدليل القطعي أو العكس، ولا مندوحة تجوز رفض الدليل القطعي فلا بد من رفض هذه القصة وإنكارها والإذعان للدليل القطعي ننكرها بجملتها فلم يوجد إبراهيم وإسماعيل فضلاً عن بنائهما الكعبة وهجرتهما إلى مكة وتعلم إسماعيل العربية من القحطانية نحن مضطرون إلى ذلك وإن حدثنا القرآن والتوراة عنها فإن ورود هذين الاسمين فيهما لا يكفي لوجودهما التاريخي. هذا دليل الدكتور وسنبدأ في مناقشته قبل الدخول في تفصيلات المناقشة نذكر مقدمة ينبغي أن نتعلم وهي أن القرآن لم يعرض لحديث تعلم إسماعيل العربية من قحطان وإنما الذي عرض له وجودهما وهجرتهما وبناؤهما الكعبة وإنما الذي عرض لتعلم إسماعيل العربية من القحطانية هم مؤرخو اللغة وبعد فسنسلم للدكتور جدلاً كل ما قاله من البعد بين القحطانية والعدنانية بعداً يجعلهما لغتين مستقلتين ومن أنه لو تعلم إسماعيل من القحطانية لكانت اللغتان متفقتين أو متقاربتين. ولكننا نقول له: إن دليلك لا ينفي إلا أن إسماعيل تعلم اللغة العربية من القحطانين فأما وجودهما وهجرتهما إلى مكة وبناؤهما الكعبة وهي الأمور التي عرض لها القرآن فلا ينفيها ولا يتعرض لها، فمما يتفق مع دليلك أن يكون إبراهيم وإسماعيل قد وجدا وهاجرا إلى مكة وبنيا الكعبة وتعلم إسماعيل وأبناؤه العربية من غير القحطانيين من العرب الذين خلقهم الله يتكلمون العربية الحجازية التي بقيت إلى مجيء الإسلام فالدليل قطعي لا ينفي إلا شيئًا واحدًا وهو تعلم إسماعيل وبنيه العربية من القحطانية فمن الواجب أن يقتصر به على ذلك ولا يعدي إلى القصة جميعها فينفيها إذ لا منافاة بينه وبين بقيتها ومثل الدكتور في ذلك مثل من يسمع مؤرخين أحدهما يقول: إن اللورد كتشنر كان عميد الدولة البريطانية في مصر والآخر يقول: إنه كان عميدها في مصر ستة ١٩٢٠ فيقول: إن التاريخ يفيد أن اللورد كتشنر غرق زمن الحرب العظمى التي انتهت قبل هذا التاريخ فيما قاله المؤرخان كذب ولم يكن اللورد كتشنر عميدًا لإنكلترا في مصر وقتًا ما، كذب المؤرخين وكذب القصة جميعها ولو اتبع المنطق لنفي كونه عميدًا في زمن سنة ١٩٢٠ ولم يعد النفي إلى كونه عميدًا ولم يكذب المؤرخ الأول إذ لم يتعرض لتعيين الزمن وكذلك الأمر عندنا الدليل ينفي ما قاله المؤرخون من أن إسماعيل تعلم العربية من القحطانية فينفي به الدكتور القصة حتى ما ذكره القرآن من وجودهما وهجرتهما وبنائهما الكعبة مما لم ينفيه الدليل ولم يتعرض له ويكذب القرآن فيما قاله وهو لم يعرض لما نفاه الدليل وإنما عرض لغيره. فيا دكتور دليلك أقصر من دعواك أنت تدعي نفي وجود إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناءهما الكعبة وتعلم إسماعيل العربية من القحطانية، ودليلك إنما ينفي الأخير، وهو تعلم إسماعيل العربية من القحطلنية، فأما ماعدا ذلك فلا، ويسمي علماء المناظرة ذلك بمنع التقريب، والتقريب سوق الدليل على وجه يستلزم المطلوب ويقولون في مثل ذلك: إن التقريب غير مسلم، أي إنك سقت الدليل على وجه لا يستلزم المطلوب فمثلك مثل من ادعى أن هذا الشبح إنسان ويستدل على هذه الدعوى بأنه متحرك بالإرادة وكل متحرك بالإرادة حيوان، نعم، الدليل مسلم ولكنه لا يستلزم المطلوب وهو أنه إنسان. فالمنطق يأمرنا إذا نفى الدليل شيئًا أن نقصره على ذلك الشيء ولا نعد به إلى ما عداه وقد رأيت في مثال اللورد كتشنر كيف نخطئ إذا عدينا النفي إلى غير ما مقام عليه الدليل، ولو أردنا أن نصوغ دليلك في قالب منطقي لكان هكذا: لو كانت الحجازية أصلها القحطانية لما بعد ما بينهما هذا البعد لكنهما متباعدتان إذن فليست الحجازية أصلها القحطانية هذه النتيجة فقط، ولكنك تزيد فيها ما يأتي: لم يوجد إبراهيم وإسماعيل ولم يبنيا الكعبة ولم يهاجرا إلى مكة وهذا هوس ليس منطقًا. ويظهر أن الدكتور طه علم أن دليله لا ينتج تكذيب القرآن فيما ذكر فلم يرتب التكذيب على الدليل ولم يقل: وإذن. التي يستعملها دائمًا في كلامه، وقال فواضح جدًّا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية وهو بين شرَّين لا مفر منهما، إما أن يكون اجترأ على تكذيب القرآن في وجود إبراهيم وإسماعيل بدون دليل وليس بيده إلا قوله: فواضح جدًّا، وحينئذ تكون دعوى لا دليل عليها الدعاوى إن لم تقم عليها بينة لم يعبأ بها وإما أن يكون قد كذب القرآن بذلك الدليل قد علمنا أنه أقصر من دعواه ولا ينتج تكذيب القرآن. هذا وقد رأى القراء أننا لم نناقش الدكتور على قاعدة أن القرآن نص يقيني وهو حجة على كل ما خالفه، وإنما ناقشناه على قاعدة أنه نص تاريخي كنص أي مؤرخ من البشر تنزلاً منا، وبينا له أن دعواه لم تتم؛ لأن الدليل العقلي الذي استعمله لا ينهض فلم نلزمه بنصوص الدين لئلا يقال: إن ذلك لا يلزمه إلا المتدين وإنما ألزمناه بالأدلة العقلية المشتركة للإنسانية كلها من تدين منهم ومن لم يتدين. ولا يظن ظان أن أدلة الدكتور الحديثة تقف عند هذا الحد من العبث والبطلان بل إن لها لونًا أخر من ألوان العبث والبطلان وهو ما سنبينه. يزعم الدكتور طه أن قصة إبراهيم وإسماعيل موضوعة وضعها اليهود لغرض وهو أنهم كانوا يريدون أن يثبتوا القرابة بينهم وبين العرب ليعيشوا معهم عيشة راضية وقبلتها مكة لغرض سياسي وديني؛ لأنهم كانوا يريدون أن يتصل نسبهم بأصل من تلك الأصول الماجدة وقبلها الإسلام لغرض ديني وهو أنه يريد أن يثبت صلة بينه وبين اليهودية. هكذا زعم الدكتور وليس معه نص تاريخي يفيد ذلك وليس بيده إلا أن ذلك يمكن أن يكون قد كان وإذا تصور على هذا الحال كان منسجمًا ونحن نقول له: يا دكتور أن التاريخ لا يثبت بمثل ذلك وليس كل ما يمكن أن يكون قد كان يجب أن يكون قد كان ولا يثبت الأمر بأن هذه العلة يجوز أن تكون له وأن مثلك في ذلك مثل مؤرخ يأتي بعد مائتي سنة يقول يزعم المؤرخون أن أمريكا اشتركت مع فرنسا في حرب ألمانيا في الميدان الغربي وهذا باطل فأين أمريكا من فرنسا إن بينهما المحيط الأطلانطيقي على سعته القصة مكذوبة وقد اخترعها بعض الأمريكان ليقرب الشعبين الأمريكي والفرنسي بعضهم من بعض إن هذه القصة تفيد أنهما حاربا معًا جنبًا لجنب عدوًّا مشتركًا فهي تدعوا إلى تآلف الشعبين فقد وضعت لذلك وإن الذي يدعوا إلى أن توضع علوم الأوائل كلها موضع الشك ولا يثبت إلا ما قام العلم على إثباته لا يسوغ له أن يطلب منا الاقتناع بمثل هذه الظنون والأوهام وليس عنده من الحجة إلا أن ذلك يمكن أن يكون قد كان فيجب أن يكون قد كان اللهم إلا إذا كان يدعو إلى رفض تقليد الماضين إلى تقليده هو وإن قارئي كتابه يحتاجون إلى مقدار عظيم من البلاهة والغمارة حتى يقتنعوا بأمثال تلك الحجج التي هي كما قال الأول: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقًّا وكل كاسر مكسور إذا أراد الدكتور أن يقنع الأمة بكتابه فعليه أولاً أن يبدأ بإلغاء عقولها وعكس منطقها السليم وإحالة تلك العقول عن فطرتها حتى تكون على غرار عقله ثم يلقى إليها بعد أمثال تلك الأوهام وحينئذ تقنع بها وتصدق ويتم له ما يريد ولكن دون ذلك وينفق [١] . ألا لا يقولن الدكتور بعد اليوم: المنهج العلمي الحديث ولا البرهان العلمي ولا يتمسحن بأعتاب العلماء فقد أطلعنا القرأء على قيمة نهجه العلمي الحديث ومنطقه الجديد فعلموا أن ذلك ليس منطق العقلاء إنما هو منطق البله والأغمار والممرورين. وبعد فكتاب الشعر الجاهلي إنْ كان ألفه مؤلفه كتابًا في المغالطات وأمثلة على القياس الذي لم يستكمل شروط الإنتاج والأضرب العقيمة والحجة الخداج فهو كتاب جيد في بابه واف بالغرض الذي قصد إليه، وإنْ كان ألفه مؤلفه كتابًا في تاريخ الشعر والأدب فليسر من ذلك في قليل ولا كثير. ولو أن في بلدنا مجمعاً علميًّا منظمًا لحكمته بيني وبين الدكتور ولرضيت حكمه فيما رميت به دعاوي الدكتور من أنها دعاوي يقيم عليها أدلة أقصر منها تارة ويدعيها بدون برهان تارة ويثبت الشيء بأنه ممكن تارة أخرى ولكان من وراء ذلك التحكيم الخير العظيم، فإنه إذا حكم على تواريت خجلا وأرحت الناس من هذا النقد وأمثله وإذا حكم عليَّ الدكتور حمى شباب الأمة من التورط في آرائه وحماها أيضًَا من عدوى ذلك المنهج الخاطئ في البحث أما والبلد ليس فيها مثل المجمع فادعوا المشتغلين بالمنطق أن يبدوا آراءهم فيما بيني وبين الدكتور من خلاف، إنهم إن فعلوا ذلك خدموا العلم والحقيقة ومن أولى من هؤلاء بخدمة العلم المظلوم والحقيقة المهيضة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عرفة ... ... ... ... ... ... ... ... أستاذ بمعهد الإسكندرية (المنار) قد بينت في مقالي الذي نشرته في الجزء الماضي طريقة الدكتور طه حسين في البحث والاستدلال في قواعد كلية بسط الأستاذ الشيخ محمد عرفة غراب الكلام على اثنين منها وهما الدعوة بدون دليل والاستدلال بما لا يدل على المطلوب وهو ضرب من المغالطة الواضحة، وقد كبر من شأنها بتمنيه عرضها على مجمع علمي لو وجد أو بعرضها على المشتغلين بعلم المنطق ليعلم أيهما الخاطئ في البحث وحسبنا من علم الجمهور - أهل المنطق الفني ومن دونهم من أهل المنطق الفطري - بسفسطة الدكتور ومغالطاته أنه لم يدافع عنه أحد من الملاحدة ولا أعضاء جمعيته وحزبهم ولا قرضوه ولا أثنوا عليه كما فعل بعضهم بالدفاع عن علي عبد الرازق إذ كان أحذق منه في المغالطات والسفسطة. نعم، إن بعض التلاميذ والعوام قد يغترون بخلابته؛ فالواجب بيان ضلاله وإضلاله في مسائل الكتاب لا في الاستدلال عليها فقط. ((يتبع بمقال تالٍ))