(س١ - ٥) من صاحب الإمضاء أحد علماء المسلمين في (إيبك - يوغوسلافيا) حضرة العالم الفاضل، شيخ الإسلام، مرشد الأنام، قطب المحققين، غوث المدققين، سيدي الشيخ رشيد رضا أدام الله بقاءه ونفعنا به وبعلومه والمسلمين آمين. (١) كيف كان السلف الصالح يصلون الجمعة؟ يعني كم ركعة من الرواتب للجمعة؟ يصلون قبل فرض الجمعة أربع ركعات، هل هذا من تحية المسجد أو من سنة الجمعة؟ وهل من السنة المؤكدة أن تصلي شيئًا بعد فرضها؟ أنا أريد منكم أن تتفضلوا بالجواب بالقرآن والسنة لا من أقوال أصحاب المذاهب. (٢) ما قولكم في رجل لم يكن مستطيعًا للحج فحج بدلاً عن غيره قبل أن يحج عن نفسه؛ لأنه ما كان مكلفًا به عند الحنفية، ثم رجع بعد الحج إلى وطنه، وما أقام في مكة لأداء مناسك الحج في السنة الآتية عن نفسه، فهل يكون مأمورًا ألبتة ومكلفًا به عن نفسه أم لا؟ (٣) أربع ركعات قبل العشاء، هل لها حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هذه؟ (٤) الاحتقان في رمضان هل يفسد الصوم أم لا؟ (٥) ما حكم الجعة في الشرع؟ وهل تُعَدُّ من الخمر أم لا؟ أقدم لفضيلتكم هذه الأسئلة راجيًا الجواب عنها بأسرع ما أمكن، وأسترحم جنابكم العالي قبول تحياتي واحتراماتي الفائقة الخالصة. ... ... يحيى سلامي (أجوبة المنار) (١) هل للجمعة راتبة قبلها وبعدها؟ سبق لنا بحث في هذه المسألة طال عهده، ونقول الآن: إنه لم يرد نص عن الشارع بطلب عدد معين من الركعات قبل الجمعة، والمعروف في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته لصلاتها فيبتدر المنبر فيؤذن بين يديه فيخطب فينزل فيصلي فينصرف إلا أن يتأخر لسبب غير الصلاة؛ ولكن وردت الآثار في التنفل قبلها، فكان السلف من الصحابة ومن بعدهم يبكرون في السعي إلى المسجد قبل الزوال فيصلي كلٌّ ما بدا له لما ورد في السنة من الترغيب في التبكير إلى المسجد وصلاة ما تيسر فيه، وكانوا إذا خرج الإمام إلى المسجد يقطعون الصلاة لما تقدم إلا تحية المسجد لمن دخله، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهما من دخل المسجد وهو يخطب. رواه الجماعة كلهم، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث جابر (رضي الله عنه) وفي رواية (وقد خرج الإمام) بدل (والإمام يخطب) متفق عليه. وجملة القول: إن صلاة النفل قبل الجمعة مأثور، ومن كرهه من العلماء بعد الزوال فليس له عليه دليل خاص، وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج عند الزوال فتنقطع الصلاة بخروجه إلا تحية المسجد - ليس نصًّا في اطراد ذلك، ومن قال: إن لها راتبة معينة كراتبة الصبح والظهر بحيث يُستحب قضاؤها إذا فاتت، لا يمكنه أن يأتي بنص يثبته أيضًا؛ وإنما قصاراه قياس الجمعة على الظهر. وأما الصلاة بعدها ففيه حديث أبي هريرة المرفوع (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات) رواه مسلم وأصحاب السنن، وحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة كلهم، وكان ابن عمر يفعل هذا لشدة تتبعه لآثاره صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان في المسجد الحرام؛ فإنه كان يصليهما فيه، وعلل بأن سببه رغبته في البقاء في المسجد مثلاً، وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل هاتين الركعتين بعد الجمعة، فالأفضل لمن ينصرف من الجمعة إلى بيته أن يصلي فيه ركعتين، أو أربعًا، وقال بعض الصحابة وفقهاء الأمصار: بل له أن يصلي ما يشاء؛ ولكنه ينوي بالركعتين الاستنان به صلى الله عليه وسلم، وبالأربع امتثال أمره الذي هو هنا للندب، وإن نشط للزيادة كان عاملاً بالترغيبات العامة في صلاة النفل. (٢) من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه: في هذه المسألة أقوال أقواها قول الجمهور: من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه وقعت حجته عن نفسه دون غيره سواء كان قبلها مستطيعًا أم لا، ودليلهم حديث ابن عباس فيمن سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عن شبرمة. قال (من شبرمة؟) قال: أخ لي - أو: قريب لي - قال: (حججت عن نفسك؟) قال: لا، قال (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والبيهقي، والراجح عند أحمد وابن المنذر والطحاوي وقْفه، ولا محل على هذا القول لبقية السؤال، فإن هذا الرجل قد سقطت عنه فريضة الحج، وقال أصحابه: إنه يجب عليه رد ما عساه أخذه من المال أجرة ممن حج عنه. وقال بعض الفقاء من الحنفية وغيرهم: إن حجه عن غيره صحيح فعلى هذا يجب عليه أن يحج عن نفسه إذا استطاع الحج بعد عودته إلى وطنه. (٣) راتبة العشاء: روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات) ومن حديث ابن عباس في حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل عند البخاري أنه قال: بت في بيت خالتي ميمونة ... الحديث، وفيه فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، وفي المسألة أحاديث أخرى ضعيفة يقويها تأييد الصحيح لها. (٤) الحقن في رمضان: الحقن في رمضان إذا كان تحت الجلد في اليد أو الرجل أو غيرهما كما هو المعهود في طب هذا العصر - فلا وجه للقول بإفطار الصائم به. وأما الحقن في البطن وهو المعهود من زمن لا نعرف أوله، فمقتضى قواعد الفقهاء أنه يفطر الصائم، بل غلا بعضهم كالشافعية فقالوا: إن كل ما يُدخله الصائم في جوفه أو غيره بإذنه من منفذ أو غير منفذ كالمسبار - فإنه يفطر به. ومن المعلوم أن الصيام الشرعي عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وفي معناه الاستمناء، وقد يكون امتصاص الدخان في معنى شرب الماء ونحوه لأن الأجسام الدخانية (الغازية) قريبة من الأجسام السائلة؛ ولذلك يسمى امتصاصها بالفم شربًا في العرف العام، وهي تؤثر في الأعصاب كتأثير السائلات المخدرة كالقهوة والشاي والمنبهة كالخمر، وتفيد متعاطيها شيئًا من قوة الغذاء، وحقن السائلات في الأمعاء معروف، وهو يكون تارة لتطهيرها من الفساد، وتارة لإزالة ما يعرض لها من القبض والجفاف، وقد يكون للتغذية والتقوية إذا كان في المعدة مرض يمنع من قبولها الطعام والشراب، فهو يقوم مقامهما في التغذية. وجملة القول: إن الصيام الشرعي معروف، والغرض منه معروف، ومفسداته معروفة، وكل ما يستحدثه الناس مما ينافيه ويكون كالطعام والشراب في إزالة الجوع والظمأ فحكمه حكمهما، وليس منه - فيما أرى - ما يكون من الحقن تحت الجلد لتقوية المريض على مرضه أو ضعفه، إذا لم تكن هذه التقوية كالتغذية والري، فإن كانت مزيلة للجوع والظمأ كالطعام والشراب فللقول بإفسادها للصيام وجه ظاهر، وإن كان الحقن لأجلها، يباح للمريض كما يباح له الأكل والشرب وعليه القضاء، وقد يقال: إنه لما لم يكن هذا الحقن أكلاً ولا شربًا ولا وقاعًا في حقيقته ولا في صورته ولا لذته، فهو لا ينافي حقيقة الصيام، ولا حكمته والغرض من فرضه وهو الإمساك عن هذه الشهوات الغالبة تعبدًا واحتسابًا لوجه الله تعالى وما يترتب عليه من تربية الإرادة واكتساب ملكة التقوى المشار إليها بتعليل فرض الصيام بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٣) . (٥) الجعة خمر يحرم شربها: الجعة هي الخمر الذي يُتخذ من نقيع الشعير المسماة عن الإفرنج (بالبيرة) والمشهور أنها من الأشربة التي يُسكر كثيرها دون قليلها، والتحقيق أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وإن كان لا يُسمى قبل بلوغه درجة الإسكار خمرًا كنبيذ التمر والزبيب ونحوهما (أي ما ينقع منه بالماء ليحلو) فإنه متى صار يُسكر كثيره دخل في عموم معنى اسم الخمر على التحقيق الذي بيَّناه في تفسير آيات المائدة في تحريم الخمر القطعي، وإن قلنا: إنه لا يدخل في عموم اسمها، كان تحريمه من باب سد الذريعة كتحريم ربا الفضل الذي هو ذريعة لربا النسيئة الذي من شأنه أن يتضاعف، وهو الربا القطعي المحرم بنص القرآن كما بيَّناه في تفسير آية آل عمران فيه. وقد بلغنا أنهم يصنعون في بعض البلاد جعة (بيرة) لأجل إدرار البول، لا تسكر لخلوها من الغول (الكحول) ، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، إذ هي كنبيذ التمر والزبيب (أي ما ينقع منهما في الماء) الذي كان يشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، حتى إذا ما تغير طعمه بطول المكث وخُشي تأثيره وإسكار كثيره تركوه، وهو الذي صار الفساق من الملوك والأمراء والأغنياء يشربونه بعد تغيره ووصوله إلى درجة الإسكار لمن أكثر منه، ووجدوا من شذوذ بعض فقهاء الكوفة ما جرأهم عليه، إذ قالوا: إن ما يُسكر كثيره لا يحرم منه إلا القدر المسكر، وتفلسف بعضهم فقال: إنما المحرم الجرعة أو الحسوة التي يحدث بها السُّكر دون ما قبلها، فاغتر بذلك المتهاونون حتى وقعوا في السكر، إذ لا يمكن لأحد أن يعرف الجرعة التي يحدث بها السُّكر، بل السُّكر لا يحدث بالجرعة الأخيرة وحدها؛ لأنها في ذاتها كالجرعة الأولى؛ وإنما يحدث بالمجموع فهو كله حرام، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في تفسير آيات المائدة فيراجعها من شاء (ص٥١-٥٥ ج٧ تفسير) .