للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المناظرة بين أهل السنة والشيعة

قد اطلع قراء المنار في الجزء الثامن (م ٣١) على الكتاب الذي نشرناه
للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين من أشهر علماء الشيعة الإمامية في هذا
العصر الذي يطلب المناظرة، وعلى إجابتنا إياه إلى طلبه وما اشترطناه فيها، وقد
جاءنا بعد ذلك الرسالة الآتية منه، فإذا هو لم يلتزم فيها الشروط، فكان لنا أن
نطلب منه حذف ما ليس من الموضوع الذي حددناه، وإن كان يمت إليه بنوع من
أنواع القرابة أو المناسبة، وإذا به يظن فيَّ الظنون، ويفتح له بابًا من النقد يقبله
الكثيرون، وإنني أنشر له هذه الرسالة على كون أكثرها خارجًا من دائرة
الموضوع، ومنتقدة من عدة وجوه، وإعلانًا عن كتابه بالإحالة عليه وبيان
موضع بيعه ورخص ثمنه؛ ولكنني أعلق عليها تعليقًا وجيزًا أعود فيه إلى تحديد
موضوع المناظرة، ولا أقبل بعده كلمة تخرج عن حدودها، وهذا نص
رسالته:
الرسالة الأولى للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد جرت مناظرة بيننا وبين الأستاذ العلامة الإمام حضرة صاحب مجلة المنار
الغراء، ونال كل منا صاحبه بما جرحه، فرأينا أن ذلك يحول دون الغرض الذي
يؤمه أهل الدين والعقل من إحقاق الحق وجعله الضالة المنشودة لهم، فكتبت إليه
راجيًا منه فتح باب في المجلة تذكر فيه المسائل الهامة بين الطائفتين ورأي كل
منهما ودليله.
فحقق رجائي وكان عند حسن ظني وأتحفني بكتاب ملأه حنانًا وغيرة على
الدين وأهله، ولا عجب إذا جاء الشيء على أصله وخرج الجوهر من معدنه.
وأرجو ببركة هذه المجلة ونية صاحبها أن نقف على فوائد جمة ونهتدي إلى
كثير مما خفي علينا علمه ومعرفته، فنحن بلسان أهل الحق والفضل نشكره شكرًا
جزيلاً.
ودع عنك قول بعضهم: دعوا البحث فيما يتعلق بالدين والمذهب وهلم إلى
التعاون على توحيد الكلمة وجمع الأمر قبالة المستعمرين.
فإن ذلك لغو من القول، وخطل من الرأي، وكأنها مقالة من لا يرى الإسلام
دينًا، ولا يرى أن هناك حياة أخرى خالدة غير هذه الحياة؛ وإنما يرى الإسلام
رابطة قومية وجامعة سياسية، فهو يدعو إليها ويحض عليها. وهذه الدعوى لا
تجدي نفعًا عند من يرى الإسلام دينًا ويتقرب إلى الله سبحانه بنصرته ومعاداة من
يمسه بسوء.
فالدواء الناجع إذًا لتوحيد كلمة المسلمين وضمهم تحت راية لواء واحد هو
سعي عقلاء العلماء - أي علماء الدين - من كلتا الطائفتين إلى محل الخلاف
وفحصه وإزالته بالبرهان، وإصغاء كل منهما لحجة الآخر، وتحكيم أهل الفضل
والإنصاف، ولا ينبغي وضع هذا العبء على كاهل العلماء فحسب.
بل على العقلاء ممن يهمهم أمر المسلمين القيام مع العلماء مراقبين سيرهم في
المناظرة؛ فإن الحق لا يخفى على طالبه، وإنني لا أنكر أن يكون في علماء
الطائفتين من تهمه نفسه، ولا يميل إلى الاتفاق لما اعتاده من التعصب الأعمى،
فعلى العقلاء من كلتا الطائفتين رفض أولئك والتنبه لهم.
وليت شعري كيف يمكن الاتفاق بين هاتين الطائفتين قبل دفع سبب الخلاف.
إن الشيعة من المسلمين يرون أن من أرسى قواعد الإسلام وأقوى دعائمه
موالاة أهل البيت والاهتداء بهديهم والعمل برأيهم وحديثهم، وأن المنحرف عنهم،
النابذ لحديثهم، المهتدي بخلاف هديهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن أبناء
السنة من المسلمين منحرفون عنهم بنبذهم علمهم وحديثهم وإعراضهم عن مذهبهم
فهم على غير سبيل المؤمنين.
وإن المسلمين من أهل السنة يرون أن أرسى قواعد الإسلام وأوثق عراه
موالاة أصحاب رسول الله جميعهم والعمل بكل ما حدَّثوا به؛ لأنهم حملة الدين
وحفظة الوحي ومبلغوه إلى الأمم، فالمنحرف عنهم التارك لحديثهم غير متبع سبيل
المؤمنين، ويرون أن الشيعة منحرفون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم لتركهم حديثهم وانقطاعهم إلى أهل البيت، فهُم على غير سبيل المؤمنين.
فعلى هذا كيف يشترك المتمسكون بالدين منهما بالعمل بإخلاص ونصح ما لم
يقع التفاهم بينهم؟
فلو أن شخصين متعاديين سارا في طريق واحدة لم يُجْدِهما نفعًا إظهارهما
المجاملة، وقول كل واحد منهما لصاحبه: دع العداء بيننا جانبًا، وهلم فنلكن يدًا
واحدة على من سوانا؛ فإن ذلك غير مستطاع لهما، واعتمادهما في التعاون على ما
أظهراه من المجاملة والاتفاق غرور وأمانٍ باطلة، فلو ظفر بهما عدو لهما على هذا
الحال، ثم استعان بكل واحد منهما على صاحبه لأعانه.
فعلى هذين الرفيقين أن يقتلعا سبب العداء من عروقه، ويعترف كل واحد
منهما لصاحبه بما جناه ويعطيه بيده ليأخذ بحقه حتى يرضى، وعندها تذهب
الشحناء، ويحل محلها الود والإخاء.
أما أنا فهذه يدي رهن بما أقوله معطاة لمن يريدها وما توفيقي إلا بالله.
علم علي وعمر رضي الله عنهما بالدين والقضاء
ذكرت مجلة الشبان مقالاً، وهو أن عمر كان أعلم الصحابة بالدين وأفقههم
فيه [١] ، وردته مجلة العرفان بقولها: إن هذا منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أقضاكم علي) وقوله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) ولقول عمر: (لولا علي لهلك
عمر، ولا بقيت القضية ليس لها أبو الحسن) وردَّ الأستاذ العلامة صاحب المنار في
الجزء الرابع من المجلد (٣١ ص٢٩٥) هذه الأدلة وعنون المسألة بهذا العنوان.
وحاصل الرد أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الحديثين غير صالح
للاستدلال به لعدم صحة ما روي، وعلى فرض صحته لا دلالة فيه على المطلوب؛
إذ كون علي أقضى لا يمنع أن يكون عمر أعلم؛ لأن القضاء - أعني فصل
الخصومة - لا يحتاج إلى كثير علم [٢] ؛ وإنما يحتاج إلى ذكاء وفطنة، فبين الأعلم
والأقضى عموم وخصوص من وجه، وكذلك جعل علي عليه السلام باب مدينة
العلم لا يوجب الحصر؛ لجواز أن يكون للمدينة أبواب كثيرة منها علي عليه السلام،
ومنها عمر رضي الله عنه ومنها غيرهما، وكذلك قول عمر إنما جاء على نحو
التواضع. ثم أطال البحث في أحوال الرواة لهذين الحديثين وتضعيفهما.
أقول: ما أحسن المناظرة إذا كانت بآدابها، وصحت نية أربابها، وكان الحق
ضالتهم، والبرهان قائدهم.
ولنغضي عما في هذا الجزء من الشتم والتجهيل كما تضمنته رسالة ابن تيمية،
ومقالة الأستاذ التي عنوانها (السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما) فإنها كتبت قبل
الصلح والمسالمة.
وقبل الخوض في البحث نقدم بيانًا يعلم منه مناظرنا كيف يسير معنا في
المناظرة.
رأي الشيعة في الخلافة:
إن المسلمين من الشيعة يرون أن الخلافة أصل من أصول الدين كالنبوة،
وأن نصب الخليفة واجب على الله عقلاً من باب اللطف كوجوب إرسال الرسول،
ويرون أن الخليفة لا بد أن يكون أكمل أهل زمانه في جميع فنون الفضل كالنبي،
وإن امتاز النبي صلى الله عليه وسلم عندهم بأمور كثيرة، ويرون أن الخليفة بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي أمير المؤمنين عليه السلام فهو أفضل أهل
زمانه.
رأي السنة في الخلافة:
إن المسلمين من السنة لا يرون الخليفة بهذه العظمة، فهي عندهم فرع من
فروع الدين، فيجب على المسلمين أن يختاروا من بينهم خليفة ولا يشترطون
امتيازه عن غيره في الفضل والصلاح، ولعل أكثرهم لا يشترط فيه الصلاح
والعدالة.
فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن الشيعة حين ينكرون أن يكون أحد من الصحابة
أفضل من علي عليه السلام أو مساويًا له إنما هو لمنافاته لأصل الدين وقاعدة
المذهب عندهم، وقد فرغوا من إثباته بالحجج القاطعة والبراهين العقلية والنقلية،
وألَّفوا في ذلك الكتب المطولة، فمن يجهل رأيهم في الخلافة ولم يطالع ما كتبوه في
ذلك مع وفوره وقرب مناله، يظن أن ذلك منهم غلو في علي وانحراف عن غيره،
وليس كذلك.
إن العالِم الشيعي ينظر إلى التفاضل بين علي عليه السلام وعمر رضي الله
عنه كأهم مسألة دينية، والعالم السني ينظر إلى التفاضل بينهما كمسألة تاريخية،
وحيث كان البحث في التفاضل من الوجهة الدينية يحتاج إلى البحث في أصل
الإمامة وهي مسألة ضافية الذيل، فسيحة الأرجاء لا تسعها هذه العجالة - فلنبحث
الآن عنها من الوجهة التاريخية، ونعرض ما عندنا في ذلك على أهل الفضل
والإنصاف.
إنني وأيم الحق لم يكن يختلج في صدري أن أحدًا من أهل الفضل يقدم أحدًا
من الصحابة على علي عليه السلام في العلم أو يساويه فيه، وكنت أرى أن هاتين
الصفتين - أعني الشجاعة والعلم - قد كملتا فيه وامتاز بهما عند أوليائه وأعدائه، وأن
صفة العلم فيه أظهر من صفة الشجاعة لسبقه فيها سبقًا بعيدًا.
هذا كتابه قرآن العارفين وفرقان السالكين تتجلى آياته وتتلألأ أسراره، وما
أخال حضرة الأستاذ يرتاب فيه كغيره بعدما أورده أستاذه - ذلك الحبر الكبير النمير -
العذب من مشاربه، وأوقفه على تلك الإلهيات عن عجائبه.
إننا لعمر الحق أبعد المسلمين عن العصبية وأقربهم للاتفاق، وأحبهم
للإنصاف، وما الحيلة في ترك ولاء هذا الرجل - أعني أمير المؤمنين عليًّا - وقد
تجلى لنا تقدمه في الفضل على كافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقه
لهم فيه سبقًا بعيدًا، وإننا لنعجب لبعض العلماء من إخواننا السنيين كيف لا
ينصفوننا في علي عليه السلام ولا يرون رأينا فيه، وما لنا لا نعجب، وإنما هذا
الفضل له أخذناه منهم، ورويناه عنهم.
فمن عدم إنصافهم ما ذكره هذا البعض من أن عمر أعلم الصحابة ومنهم علي
عليه السلام، وهنا موقف الحيرة، فإن سكتنا كان ذلك إقرارًا منا بالخطأ وفساد
المذهب، وإن أوضحنا الحق في المسألة ونصرنا رأينا قامت القيامة علينا ورُمينا
بالرفض والغلو والتعصب على أكابر الصحابة.
لكننا نؤثر إحقاق الحق ونحتمل في سبيله كل مكروه، ولعلنا لا نعدم من أهل
الفضل والإنصاف أنصارًا ومحكِّمين.
اعلم أيها الأخ المنصف أن لنا على تفضيل علي على عمر رضي الله عنه
وعلى كافة الصحابة رضي الله عنهم براهين قاطعة من طريق العقل ومن طريق
الرواية. أما من طريق العقل فيحتاج ذلك إلى معرفة الزمان الذي تلقيا فيه ذانك
التلميذان العظيمان - أعني عليًّا عليه السلام وعمر رضي الله عنه - العلم عن
معلمهما أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقداره، ومنزلة كل واحد منهما من
الفطنة والذكاء، وعندها تصدر الحكم غير مرتاب:
زمن إسلام عمر رضي الله عنه:
أسلم عمر رضي الله عنه في السنة السادسة من بعثته صلى الله عليه وسلم
وعمره ست وعشرون سنة، فعليه يكون قد قطع مرحلة من عمره في غير طلب
العلم لا يُستهان بها، فإذا أضفت إليها ثلاث سنوات لم يلق عمر فيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، وذلك عند حصار قريش لبني هاشم وبني عبد
المطلب في شعب أبي طالب رضي الله عنه، تراه قد خسر أكثر رأس ماله الذي
يتجر به الإنسان في كسب العلوم والمعارف وذلك ظاهر.
لأن الزمان الذي يستفيد منه المرء ويتعلم به هو زمان الصبا والشبيبة، وبها
تكون القوة الذاكرة والحافظة في منتهى النمو والنشاط والاستعداد لتلقي العلوم
والمعارف.
وما سمعنا بمن طلب العلم عند بلوغ هذا السن - أعني تسعًا وعشرين سنة -
وبرع فيه، وإن كان ثمة أحد فهو من شواذ الطبيعة، ومنكر ذلك مكابر وحائد عن
طريق الإنصاف.
خصوصًا في الصدر الأول أعني زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم، فقد كان الاعتماد على الحفظ والذاكرة، ولم تكن يومئذ
المعلومات تُدوَّن ليؤمَن تفلتها وضياعها، فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا وأقواهم ذاكرة،
ولولا حرص التابعين على حفظ الحديث وتدوينه لما وصل إلينا من علمهم شيء.
ولقد كنت زمن شبيبتي أتعجب من كل من يقول: نسيت، فإني لم أكن لأنسى
شيئًا سمعته أو قرأته، وبعد بلوغي الثلاثين انقلب الأمر وأصبحت أعجب ممن
يحفظ ولا ينسى، ولم يبق في ذاكرتي غير ما استُودع بها زمن الصبا والشبيبة،
وما شكوت هذا الداء لأحد من أبناء جيلي إلا وشكا لي نفس ذلك الداء الذي أشتكيه.
ويؤيد ذلك ما روي في سيرة عمر رضي الله عنه أنه لبث في حفظ سورة
البقرة وتعلمها اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا [٣] .
ولم يكن عمر رضي الله عنه يُعرف بالصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
والاتصال به قبل إسلامه ليستفيد من علومه.
زمن تعلم علي عليه السلام:
لا يرتاب أحد ممن راجع أحوال الصحابة وقرأ تاريخ حياتهم في أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ضم عليًّا إليه وأخذه من أبيه وهو ابن أربع سنوات [٤] .
وهذا هو أول الزمن الذي يتأهل الغلام فيه لتعلم مبادئ العلوم وتلقي بذور
الأخلاق الطيبة والطباع الفاضلة، ويا ما أسعد ذلك الغلام الذي يظفر بمثل ذلك
المعلم في مثل ذلك الزمان، وينقطع إليه عن أبيه وأمه وإخوته وكل أبناء جيله، ثم
لا يفارقه مدة حياته بخ بخ لهذا الغلام.
ومن يستطيع تحديد ما استفاده ووعاه قلبه وطبعت عليه نفسه من العلوم
والأخلاق؟
وقف القلم ههنا بعد نخوته معترفًا بالعجز عن هذه المهمة من التحديد، فأين
ربانيو هذه الأمة والراسخون في العلم منهم عن تحديدها وبيان مقدارها؟
مِل بنا نحو تلك الخلوات التي كان يكون بها مع معلمه صلى الله عليه وسلم
قبل بعثته. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته قد تيمه الوجد وأورثه
ذلك وحشة من الناس وأنسًا بالخلوات والانقطاع عن هذا الخلق المتعوس المتردد
في دياميم الجهل والشقاء، النائي عن الخير والسعادة، فكان يجاور في كل سنة
بحراء ومعه هذا الغلام الشهرين والثلاثة، يريض تلك النفس الزكية ويؤهلها
لوصل ذلك الحبيب الذي هام به.
وكان علي عليه السلام يهيم بذلك الحبيب كهيام معلمه، ويشاركه في خلواته
به وأنسه بقربه وتلقي فيوضاته وألطافه لا ثالث لهما.
فأين الأصحاب رضي الله عنهم عن تلك المراتب السامية من هذه المكاشفات
والمشاهدات لخالقهما التي كانت تتجلى في قلبيهما وتتلألأ على (طور سينا نفسيهما)
ولا نعجب بعدها من أمر هذا الغلام كيف فارق أهله وإخوته وأترابه وانقطع إلى
معلمه ولم تمل به الحداثة إلى الأخذ بنصيبه من اللعب واللهو وهو منتهى لذة
الأحداث وقصارى رغبتهم.
فلقد ملئ قلبه بحب خالقه ولم يبق فيه فراغ لسواه، فسبحان واهب العطاء
يختص بكرامته من يشاء، أتظن رعاك الله أن ساعة من الزمن كانت تمر على هذا
التلميذ بغير فائدة من ذلك المعلم الحريص [٥] على التعليم.
فلو ادَّعى مدعٍ كهذا التلميذ بعد وفاة معلمه أنه وارث علمه، أتكون دعوى غلو
ومجازفة أم دعوى حق وإنصاف؟
وقد تبين مما ذكرنا أن عليًّا عليه السلام تعلم العلم من رسول الله صلى الله
عليه وسلم زمن الصبا والشبيبة بخلاف عمر رضي الله عنه، وأن عمر ابتدأ بالتعلم
من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بعد أن سبقه وتعلم قبله بخمس عشرة
سنة على أقل ما روي من عمره يوم بعثته وهو عشر سنين، وأما على ما روي من
أن عمره يوم البعثة كان خمس عشرة سنة فيكون قد سبقه بعشرين سنة، فما يقال
لهذا التلميذ الذي دخل المدرسة وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسع وعشرين سنة، ولم
يكن [٦] معروفًا بحدة الذهن وتوقد القريحة، ثم صحب تلميذًا شابًّا قد تعلم قبله
بخمس عشرة سنة وداما يتعلمان مدة حياة معلمهما، فهل يجوز في أحكام العقول
عند أهل الفضل والإنصاف أن يلحق الكهل بذلك الشاب ويفوقه بالعلم والمعرفة،
خصوصًا إذا كان الشاب أقوى فطنة وأكثر ملازمة وانقطاعًا إلى المعلم؟ كلا
ثم كلا.
وهذا لعمري من البديهيات الأولية. واعلم - رعاك الله أيها الأخ المنصف -
أننا هنا لا نعتمد في تفضيل علي عليه السلام على كافة الصحابة رضي الله عنهم إلا
على أمثال هذه البراهين القاطعة والأمور المحسوسة، التي سجلها التاريخ وأوضحها
البحث والتنقيب والتدبر، أما الأحاديث التي وردت في فضله عليه السلام فإنما تذكر
تأييدًا واستظهارًا قبالة الخصم، وهذه طريقتنا في الأصحاب رضوان الله عليهم، لا
نعتمد في فضلهم وصلاحهم على ما روي فيهم حتى نرى ما دُوِّن لهم في التاريخ من
الأعمال، فإن كان ثمة عمل يؤيد ما روي فيهم آمنا وصدقنا، وإلا اتَّهَمْنا الراوي ولم
نؤمن بحديثه.
ولسنا بحمد الله ممن يبخس الناس أشياءهم، بل نعطي كل ذي حق حقه،
وننعت المرء بما هو فيه، إن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وجهة كان يؤمها،
وغاية كان يسعى إليها هي من أشرف الغايات وأعلى المقاصد.
ألا وهي إعزاز الإسلام وإظهار أبهته وعظمته وتفخيم سلطانه، فمن ذلك يوم
أسلم قال: (لا يُعبد الله بعد اليوم سرًّا) فكان المسلمون بعدها يصلون ظاهرين.
ومنها أنه أشار بأن يتخذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا يمتاز به عن
أصحابه ليعرفه الغريب والوافد، ولا يحتاج إلى أن يسأل عنه؛ فإن في السؤال عن
العظيم ما لا يخفى.
ومنها أنه أشار بأن تحجب نساؤه صلى الله عليه وسلم ليكون لها الميزة عن
سائر النساء، ولقد قال لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى
شخصها في ملأ من الناس: (لو أُطَعْتُ فيكن ما رأتكن عين) .
ومنها أنه أشار بقتل الأسرى يوم بدر حتى لا تقوم لقريش بعدها قائمة؛ فإن
الأسرى كانوا هم الرؤساء والقادة، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يأذن له بقتل كل من يداهن في دين الله، وكان شديد الحرص على قتل أبي سفيان
لما رآه من شدة كيده للإسلام، وكان يوم الحديبية شديد الإنكار للصلح قال: يا
رسول الله، ألسنا بالمؤمنين؟ فقال: نعم، فقال: أليسوا بالمشركين؟ فقال: نعم
فقال: كيف نعطي الدنية في ديننا؟ حتى سكَّن أبو بكر من هيجانه فقال له: (والله
إنه لرسول الله) فقال عمر: وأنا أعلم والله أنه لرسول الله، فقال له: إذن فالزم
غرزه.
وهذه الأعمال ما نشأت إلا عن نية صالحة، وحرص شديد على إعزاز
الإسلام وتشييد سلطانه، ولو أردنا ذكر الأعمال التي قام بها أيام خلافة أبي بكر
رضي الله عنه وأيام خلافته التي أعزت الإسلام وأرست قواعده ونشرت على
البسيطة أعلامه، وطبقتها بسلطانه - لضاقت عنها بطون الصحف واستغرقت زمنًا
طويلاً، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرًا.
النبطية (سوريا) ... ... صاحب الكلمات ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... عبد الحسين نور الدين الحسيني

(المنار)
يؤخذ من هذه الرسالة الفصيحة الصريحة المجردة من لباس الرياء والتقية
أن كاتبها يعتقد ما يأتي:
١- أن توحيد كلمة المسلمين واتفاقهم على الدفاع عن دينهم المشترك وعن
أنفسهم، وعلى حقوقهم السياسية والوطنية وغيرها - يتوقف على زوال الخلاف
المذهبي بين أهل السنة والشيعة، برجوع أحدهما إلى مذهب الآخر الذي هو سبيل
المؤمنين عنده، ومن لم يتبعه يكون غير متبع لسبيل المؤمنين، وأنه يجب على
الآخر حينئذ عداوته في الدين، وعدم الاتفاق معه على شيء ولو كان دفع عدو لهما
كليهما، بل إن شأنهما أن يعين كل منهما عدو الآخر عليه، وكذا عدوهما كليهما،
أي أن مظاهرة عدو الدين والوطن والاتفاق معه، أولى من مظاهرة عدو المذهب
والاتفاق معه.
٢- أن الوسيلة الموصلة إلى هذه هي سعي علماء الدين من الفريقين إلى
إزالة أسباب هذا الخلاف بالبرهان، وإصغاء كل منهما إلى حجة الآخر في
المناظرة، وتحكيم أهل الفضل والإنصاف بينهما فيما لا يتناصفان فيه.
فأنا قبل الدخول في هذه المناظرة، أقول: إن أهل السنة ينكرون توقف
الاتفاق على ما ذكر، وإن العقلاء من جميع الأمم ينكرون إفضاء المناظرات الدينية
والمذهبية إلى رجوع أهل المذهب الذي يغلب عالمه في المناظرة إلى مذهب الغالب
كما يعلم بالاختبار في جميع العالم، ويؤيده فينا أن المناظرات بين الفريقين قد
كثرت وتعددت في الأجيال الماضية وفي جيلنا مرارًا لا يحصيها إلا الله تعالى، وقد
أُلِّف فيها كتب كثيرة من بسيط ووسيط ووجيز، فلم تزد السواد الأعظم من الفريقين
إلا تعصبًا لمذهبه وصدودًا عن مذهب الآخر، فكانت مفرقة لا جامعة ومبعدة لا
مقربة؛ وإنما تفيد المناظرات أفرادًا من مستقلي الفكر في طلب الحق، غير
المقيدي الفكر والوجدان بالإذعان لمذهب معين لا ينظر إلى غيره إلا بعين العداوة
والبحث عما يفنده به ولو بالتأويل والتحريف وترجيح مذهبه عليه بمثل ذلك،
وبالأقيسة المؤلفة من الخطابيات والشعريات المبنية على الظني وما دون الظني من
الروايات، ووصفها بالبراهين العقلية، كما يراه قارئ هذه الرسالة في تصوير
مناظرنا لتلقي علي عليه السلام للعلم من النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة
وبعدها بأنه كان كتلقي تلاميذ المدارس الفنية الدنيوية للفنون فيها بحفظ المتون
والقواعد الرياضية من حساب وهندسة ومساحة وفلك، واللغوية والعقلية والتشريعية،
ثم حكمه بأن السابق إلى هذا التلقي يجب بحكم العقل أن لا يدرك شأوه اللاحق،
وفي هذا البحث من الأغلاط الدينية والتاريخية والعقلية والمنطقية والطبيعية ما لا
يمكن بسطه وإيضاحه إلا في صفحات كثيرة أو رسالة مستقلة، وسأشير إلى المهم
منه بعد.
وإنما غرضي الآن أن أحتج على صحة ما اشترطته عليَّ السيد المقترح
للمناظرة من وجوب الاقتصار في المناظرة على مسائل الخلاف الأساسية، وهي
ثلاث:
(١) موالاة أهل البيت النبوي، وأهل السنة يوجبون هذه الموالاة بما يفهمونه
ويرونه موافقًا لهدي الشريعة.
(٢) موالاة أصحاب الرسول، وأهل السنة يوجبونه على غير الوجه الذي
(٣) الخلافة، فيجب تحرير موضع الخلاف فيها أولاً، وتحديد طريقة
الاستدلال عليها ثانيًا، والاتفاق على طريقة التحكيم في الخلاف والمحكمين ثالثًا.
بيد أنني أحب أن أعلم قبل هذا هل يوافق كبار علماء الشيعة في سورية
والعراق والهند وإيران مناظري الفاضل على قوله: إنه لا يمكن الاتفاق بين أهل
السنة والشيعة على شيء من المصالح الإسلامية السياسية والوطنية والأدبية
المشتركة المنفعة إلا إذا اتفقا قبل ذلك على رجوع أحدهما إلى مذهب الآخر فيما
اختلفا فيه من المسائل الأساسية، وإلا كان دين كل منهما يقضي عليه بعداوة الآخر
على الوجه الذي قاله هذا العلامة الشجاع منهم والتعليل الذي علله به؟
إن هذا رأي لم نسمعه من غيره؛ ولكن سيرة الشيعة وتاريخها قد يؤيده ويدل
عليه، وإنه لأصرح رجل عرفته فيهم؛ ولذلك كبرت منزلته في نفسي على ما
أعتقد من خطئه وأغلاطه، وإن ما قرأته من كتابه (الكلمة الأولى) يدل على أنه
رجل شعور ووجدان، لا رجل تجربة وبرهان، ولولا ذلك لم يعقد أوكد الأيمان، أنه
لولا علي بن أبي طالب عليه السلام، لقُتل رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام،
ولما بقي في الأرض إسلام، ثم إنه يسمي في رسالته هذه كتاب نهج البلاغة بالقرآن
والفرقان، ويقول ما يراه القراء في شرط الاتفاق وزوال الشنآن.
فأقترح على مناظري العلامة، وعلى زميلي الأستاذ صاحب مجلة العرفان أن
يأخذا لي تصريحًا من علماء الشيعة المشهورين في جبل عامل وغيره من سورية
والعراق في رسالة السيد عبد الحسين ولا سيما شرطه هذا، بل أكتفي برأي علماء
جبل عامل وحدهم في ذلك، ونشر ذلك عنهم في مجلتي المنار والعرفان، وسأرد
في الجزء الآتي على هذه الرسالة على كل حال.
((يتبع بمقال تالٍ))