اختلف كتاب الجرائد الأوروبية وتبعتها الجرائد المصرية في شرح الحوادث المحزنة التي جرت في (قندية) أخيرًا، ثم اتخذت وسيلة لتعجيل القضاء على هذه الجزيرة المنكودة الحظ. وأحمد الله على أن جريدتكم الغراء قد دخلت الممالك المحروسة الشاهانية بإرادة سنية، إذ هي الجريدة الوحيدة الإسلامية التي يمكنها شرح حالتنا التعيسة وإيصالها إلى جميع إخواننا العثمانيين. ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع ونحن وإن لم نرد من شرح حالتنا رفع الشكوى إلى جميع قراء المؤيد؛ لأن مقامنا الآن لم يبق مقام شكوى ولا تنفع فيه الدعوى، إلا أننا نفرج كربتنا بشرح حالتنا؛ لأننا نعتقد أن جميع إخواننا العثمانيين سيتوجعون لمصابنا ويتألمون بآلامنا، ولذلك رأيت أن أوافيكم بالحقيقة كما هي ليتدبر من أراد أن يتعظ بحوادث الأيام، وليتذكر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قضى الله على جزيرة كريد أن تكون مأوى لدسائس ذوي الغايات السياسية أعداء الإسلام والمسلمين؛ إذ كبر عليهم أن تبقى جزيرة كبيرة مثل هذه الجزيرة في أيدي تلك الأمة التي يحسبونها الخصم الألد مدى الدهر، وبذلك جرت الفتن والثورات فيها منذ ثلاث سنوات، وكان شبوبها بأيدي أبناء وطننا المسيحيين الذين اتخذهم الأجانب خصوم الدولة آلات لتنفيذ غاياتهم السيئة في بلادنا، ولم تكد تشب نيران هذه الفتن في الجزيرة حتى أسرعت الدول الأوروبية الكبرى بسفنها ولها حجتان: الأولى: حماية المسيحيين في بلاد الدولة العلية من ظلمها، وهم الثائرون. والثانية: حماية الإنسانية والعمل لما فيه راحة النوع البشري الذي وقفت أوروبا نفسها على خدمته في مدى القرن التاسع عشر!! ولكن الدول نفسها وجرائدها وكل ذي مسكة عقل وشفة ولسان شهدوا - والله خير الشاهدين - على أن الفتن لم تزد نارها شبوبًا والإنسانية لم تهتك حرمتها، والنوع البشري لم ير العذاب المهين في عهد مثل ما كافح فيه مسلمو الجزيرة وشاهد جميع سكانها في ظرف السنتين اللتين تولت فيهما الدول الأوروبية إدارة شؤون كريد. والكريديون أنفسهم شاهدوا بأعينهم الأمور التي كانت الدول تجريها ضد بعضها في السر والعلن، وغاية كل منها أن تمهد لنفسها مستقبلاً ليس للأخرى في الجزيرة وهو السبب الوحيد في زيادة اضطراب أحوالها ومضاعفة خلل الأمور، وإن كانت للجميع وجهة واحدة هي اضطهاد المسلمين والتنكيل بهم في كل حركة أو سكون. وبعد ما طال المطال على هذه الأحوال - بل الأوحال - قرر أمراء بحرية الدول إنشاء لجنة عليا مؤلفة من خمسة أشخاص من مسيحيي الجزيرة للنظر في المحاكم وتدبير وإصلاح الأمور والمحافظة على الأمن العام ... والنظر في صرف ماهيات (الجندرمه) وكيفية تحصيل الضرائب المفروضة على الأهالي لهذه الغاية. والغريب أنه لم يكن لهذه الحكومة المؤقتة من وظيفة غير مطالبة المسلمين بالضرائب المفروضة على أملاكهم، مع أن أملاكهم هذه كانت محصورة في أيدي المسيحيين يتصرفون فيها كيف يشاءون. فما لم يجنوا ثمرته استأصلوه من جذوره قطعًا بالفؤوس أو حرقًا بالنيران، فضلاً عن الإيقاع بكل من يخاطر بنفسه ويخطر على باله أن يسعى لأخذ شيء من حاصلات أرضه. فقام المسلمون يشكون من هذا الظلم الفادح ويصيحون: يا للعدالة يا للإنصاف من هذا الجور والعسف! ولكن أهل العدالة كانوا قد وضعوا أصابعهم في آذانهم حذر صواعق النداء الحق، فازدادت بالمسلمين الحيرة وذهبوا فوجًا بعد فوج إلى سعادة أدهم باشا محافظ قندية ورفعوا له العرائض الطوال العراض أن يسمح لهم بالخروج إلى حقولهم ليتأتى لهم الحصول على شيء مما يسدون به بعض المطلوب منهم، فخاطب الأميرالية في ذلك فأعرضوا عنه كل الإعراض. وبينما المسلمون في الضنك الشديد بين هذه العوامل المختلفة إذ قرر الأميرالية طرد مأموري الأعشار المسلمين من وظائفهم، وعهدوا في أمر هذه المصلحة في قندية إلى رئيس هو من زعماء الثورة، وأحد صنائع الإنكليز المشهورين في الجزيرة واسمه (ألكسي) وعينوا له أيضًا سكرتيرًا وأمينًا للخزينة ونحو عشرين كاتبًا من المسيحيين، وأرسلوا الجميع إلى محل ديوان الأعشار مخفورين بجماعة من عساكر الإنكليز للمحافظة عليهم من جهة ولتسليمهم أزمة الأعمال من جهة أخرى. والقارئ يفهم من أول وهلة ما هو الغرض من هذا الانقلاب الذي يحتاج العمال معه في الوصول لمحل مأموريتهم إلى حراسة عسكرية وخصوصًا في ظروف كهذه. وعند ذلك اجتمع المسلمون حول الإدارة عزلاً من كل سلاح وعارضوا في تسليم زمام أحكامهم إلى أعدائهم الذين اختلسوا أموالهم وانتهكوا حرمة الدم والعرض بينهم. ولكنهم لم يكادوا يعارضون حتى جاءت فرقة من العساكر الإنكليزية تحت إمرة قائدها الكبير يصحبه ابن فيس قنصل إنكلترا ووكيل قنصل أمريكا في قندية. وقد أخذ هو وعساكره يعاملون المسلمين بكل أنواع التحقير والإهانة من سب وضرب، وطردوهم على ما هم فيه من الكدر وشدة التغيظ، يطلبون حقًّا ويدافعون عن أشرف حق للإنسان، وهو أن لا يكون خصمه حاكمه، وبذلك تمكن هذا القائد من طرد العمال المسلمين وغير العمال منهم، وتسليم مركز الحكومة للمسيحيين. أما المسلمون فقد تضاعف حنقهم وغيظهم وتجمهرهم وهو ما كان يطلبه ويعمل له ذلك القائد، ثم استقر رأيهم على إرسال أربعة أشخاص من كبارهم إلى القائد ليحتجوا على فعله، ولم يكد هذا الوفد يصل إلى باب دار الحكومة حتى أطلق عليهم الرصاص من العساكر الذين كانوا واقفين بجانبي الباب، عملاً بأمر قائدهم من إطلاق الرصاص على كل من يعود إلى دار الحكومة من المسلمين، فوقع الأربعة مضرجين بدمائهم وفارقوا الحياة شهداء بلا ذنب ولا جريرة غير كونهم ظنوا أن لدى القائد بقية رحمة وعدالة فقصدوه للاستنصاف من عمله بالشكوى إليه! ! وبديهي أنه لم يكن ينتظر من المسلمين الواقفين صفوفًا على بعد من دائرة الأعشار بعد أن رأوا إخوانهم يتخبطون في دمائهم سوى أن يغلبوا على صبرهم ويفقدوا الرشد وينادي بعضهم بعضًا: سلاحكم، سلاحكم، وهكذا كان. وبعد برهة وجيزة كنت لا ترى إلا أفظع المناظر وأشدها وحشة ورعبًا؛ لأن المسلمين المساكين تقلدوا السلاح خيفة أن يكون صدر الأمر بإطلاق الرصاص عليهم أجمعين، فبمجرد رؤيتهم على هذه الحال أطلقت العساكر الإنكليزية الرصاص عليهم وصارت الرجال تسقط عشرات عشرات على الأرض صرعى يتخبطون في دمائهم وهم كذلك كانوا يطلقون النيران على أعدائهم. أما المسيحيون فقد ظهر أنهم كانوا متقلدين الأسلحة مستعدين للحرب عند أول حادثة، وقد رأوا الفرصة التي لم يكونوا يحلمون بها، وصاروا في جانب صف العساكر الإنكليزية يطلقون الرصاص على المسلمين، علمًا منهم بأن هذه المذبحة عائدة مسئوليتها - أو شرف الافتخار بها - على إنكلترا وجيشها، وقد زاد اشتراك المسيحيين الكريديين في المذبحة مع الإنكليز هياج المسلمين وجعلهم يخاطرون بأرواحهم رخيصة في سبيل الدفاع عن شرفهم والانتقام من أعدائهم. وفي هذه الأثناء ظهر حريق في أحد بيوت المسلمين فاشترك الإنكليز والمسيحيون والنار التي أضرمها الثوار في هذه الفظائع ضد المسلمين. ثم ظهرت عدة حرائق أخرى من الجانب الذي كان الثوار ينحازون إليه مما أكد الظن بأن الموقد للنار هم الثوار ليشغلوا المسلمين بها - إذ هي في أملاكهم - عن القتال فيتمكن هؤلاء من الإنحاء عليهم. ومما يذكر هنا على سبيل تقرير الحقيقة التاريخية أن فريقًا من المسيحيين الثائرين كان يشترك مع الإنكليز وفريقًا آخر كان ينهب ويفتك ويهتك في حرمات النساء المسلمات في البيوت التي أشعلوا فيها النار. ثم انضم إليهم بعد ذلك بعض العساكر الإنكليزية. والخلاصة: أنه لم يكن فتك النار بالنساء والأطفال بأقل من فتك العساكر الإنكليز والثوار المسيحيين بالرجال جانبًا وبالأعراض والأموال جانبًا. وكنت ترى الطفل مضمومًا على صدر أمه والنار تلعب في أردانها، والثائر يقطع في أقراطها ويجذب في عقودها وأساورها، بل ويراودها عن نفسها! ثم يتركها على أفظع الحالات تتقلب في وسط النار وهي تحاول أن تقي ولدها بين أضلاعها فترى النيران بين جوانحها أشد عليه حرارة وسعيرا من نيران أشعلتها يد الطغاة الآثمين. ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، فإن القائد الإنكيزي لم يكفه ما شاهده الكريديون من عظم قوته البرية، فأراد أن يفتن ألبابهم بقوته البحرية، ولذلك بعث برسالة إلى قومندان إحدى الدوارع الإنكليزية الراسية بالميناء أن يطلق مدافعه على الجهات التي يحتمي فيها المسلمون، وهناك انصبت كرات المدافع عليهم كالصواعق واستمر إطلاقها زمنًا حتى بلغ عدد ما أطلق ستًّا وثلاثين كرة، وأترك للقراء حساب عدد الأنفس التي فتكت بها كرات المدافع في بيوت حشر فيها عشرات المئات، بل ألوف من المسلمين للاحتماء فيها، وقد ذهبت جملة عائلات برمتها شهيدة تحت ردم المنازل التي انهارت على الملتجئين إليها بحجة أنها كانت مأوى رؤساء الثائرين من المسلمين. وكان القائد العثماني يوالي الاحتجاج بعد الاحتجاج على القائد الإنكليزي الذي أوقف إطلاق المدافع بعد بلوغ ذلك العدد، كما أن الثوار المسيحيين اختبأوا وقتئذ حتى لا يظهروا أمام الجميع مشاركين للإنكليز في فعلتهم، ولكن من لنا بمن كان يقنع النار أن تقف عند حد بعد ما استطار شررها وملأ شواظ نارها الجو، وبعد ما استطالت في تدمير المنازل والأسواق، وقد أبى الله أن تنطفئ إلا بعد أن دمرت ١٦٢ منزلاً، فضلاً عن السوق الكبير المسمى (سوق الوزير) وقد التهمته النار برمته، ودامت مستمرة مدة ثماني ساعات حتى لم يبق فيه ما تلتهمه. أما القتلى والجرحى فقد بلغ عددهم في هذه الحادثة المحزنة ٢٩٢ نفسًا. ويا ليت القائد الانكليزي وقف عند هذا الحد أيضًا، فإنه طلب إخراج إحدى وأربعين عائلة من فقراء المسلمين من منازلهم لكونها واقعة على ربوة عالية خشية أن تثور فتنة أخرى ويتخذ المسلمون هذه المنازل العالية كمتاريس وملاجئ يطلقون منها النار أو يعتصمون فيها، فأخرجت تلك العائلات من ديارها ذليلة طريدة وسلطت على هذه الدور معاول الهدم، فسويت مع التراب، ولكن السكان شهدوا لذلك القائد الإنكليزي بالشفقة الإنسانية والرحمة البالغة إذ لم يكلف أصحاب تلك الدور بنقل أنقاضها على رءوسهم وأكتافهم!! وفرح هؤلاء بهذه النعمة الكبرى وأسرعوا إلى الشوارع التي يقيم فيها إخوانهم الذين أحرقت دورهم بالنيران فبقوا والأرض فراشهم والسماء غطاؤهم إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. هذه هي الحادثة التي سمتها الجرائد الإنكليزية (فتنة المسلمين في قندية) وطلبوا من أجلها تجريدهم من السلاح وعاقبوا اثني عشر منهم بحكم الإعدام أنفذوه على سبعة منهم في ١٥ أكتوبر الماضي وسينفذونه على خمسة آخرين، كما عاقبت أوربا المتمدنة الدولة العلية عليها بإخراج عساكرها من كل الجزيرة، كأنهم كانوا يريدون أن تشترك هذه العساكر مع العساكر الإنكليزية والثوار المسيحيين في قتال أولئك المسلمين، فلما لم تقم بهذا الواجب عليها لم يكن لها مقام في الجزيرة فلتشهد أوروبا وليعتبر المسلمون. شرحت لكم في مقدمة هذه الرسالة حادثة قندية المحزنة التي يسمونها (فتنة المسلمين) وهي الحادثة التي قضت على الجزيرة القضاء الأخير كما تعلمون. وأريد الآن أن أبين لكم الحالة التي آلت اليها الجزيرة بعد ذلك فإن الدول الأربع وهن إنكلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا قمن وقعدن وأرغين وأزبدن وآلين إلا أن تخرج العساكر العثمانية بحذافيرها أو ينزلن الصواعق المهلكات على رءوس المسلمين في الجزيرة، وبهذا المعنى رفع السفراء الأربعة في الآستانة العلية مذكرة جماعية إلى الباب العالي، وجرت المخابرات بينهم وبينه حتى انتهى الأمر إلى إجابة سؤلهم؛ لأن حكمة جلالة مولانا السلطان الأعظم قضت أن لا تزهق أرواح ألوف من أبرياء المسلمين في الجزيرة فدية لسلطة زائلة معها لا محالة. وسواء كان في استطاعة الدول الأربع تنفيذ ما أنذروا به الباب العالي أو لم يكن ذلك في إمكانهم، فإنه قد قضي الأمر واستلمت الدول الأربع بصفة مؤقتة أمس (٥ نوفمبر سنة ١٨٩٨) إدارة الحكومة في كل لواء. وفي مركز خانية على الخصوص. ومن جملة ذلك استلام الإنكليز إدارة متصرفية (قندية) ورفع العلم الإنكليزي على دار الحكومة بجانب العلم العثماني. وعين السير (شر مسايد) القومندان العمومي هنا المستر (ماكماهون) اليوزباشي محافظًا للمدينة وإنكليزيًّا آخر في رتبته حكمداراً للبوليس وآخر كذلك مديرًا للبلدية، وقد عزل جميع مأموري العدلية المسلمين وضباط وأنفار (الجندرمة) الأجانب (الأرناؤد) ومأمور الجمرك المسلم. وفي هذا اليوم أيضًا دخلت بقية العساكر العثمانية مع الطوبجية كافة آخذين معهم مدافع كروب الجديدة، وسائر مدافع البطاريات المستعملة، وستتوجه البيادة منهم إلى سلانيك والطوبجية إلى أدرنة. وكذلك علمنا من أخبار ريثميو أنه في يوم الأربعاء ٨ تشرين الأول سنة ٣١٤ انجلت العساكر العثمانية الموجودة في قرى (مارولا) و (إيلاطانو) و (يانوذي) و (انويا) و (خرومانستر) و (فيذينا) وخلفتهم فيها العساكر الروسية. وعندئذ أطلق الأهالي المسيحيون القاطنون بتلك الجهات العيارات النارية إعلانًا بفرحهم وسرورهم من تبدل الأحوال وصاحوا دعاء: لتعش أوروبا، لتحيا النصرانية، لتسقط تركيا (لا سمح الله) . وأفادتنا أيضا أخبار خانيا أن أميرالية الدول الأربع استلموا إدارات المالية والجمرك ودار الحكومة بالاشتراك ووظفوا في جميعها جملة من المسيحيين الكريديين وطردوا كل مسلم من وظيفته بحجة عدم الثقة بهم وعدم استئمان جانبهم. ومن هذا وذاك يعلم القراء أن الاحتلال في خانيا مشترك والسلطة كذلك مشتركة إلا أن النفوذ الفرنساوي فيها ظاهر على نفوذ بقية الدول الأربع. وسبب ذلك أن لإنكلترا اختصاصًا باحتلال (قندية) وانفردًا بالسلطة فيها، كما أن لروسيا اختصاصًا باحتلال (ريثميو) وانفرادًا بالسلطة فيها. والمسلمون في خانيا يشكون من كثرة إيذاء الفرنساويين لهم بالسفاسف من الأعمال، كرمي المؤذنين على المنارات بالأحجار، وكطرح القاذورات على أبواب المساجد، وكالعبث بألفاظ غير لائقة إذا رأوا امرأة مسلمة مارَّة وما أشبه، وكذلك المسلمون في قندية يشكون زيادة العسف والظلم في الأحكام والاضطهاد المتوالي والجبروت العالي. وقد أصدر المجلس العسكري الإنكليزي قراره بإعدام خمسة أشخاص من كبار المسلمين المتهمين في واقعة ٢٥ أغسطس وأعدموا فعلاً شنقًا في يوم الجمعة ١٧ تشرين الأول سوى السبعة الذين أعدموا قبل عشرة أيام من ذلك التاريخ. وتوجد الآن أربع محاكم عسكرية إنكليزية في قندية كل واحدة منهن مختصة بنوع من الجرائم - على زعمهم - لمحاكمة الذين تعدوا على عساكر الإنكليز أو المحتمين بالحماية الإنكليزية من سكان الجزيرة - وما أكثرهم الآن - وكذلك على مطلق مسيحيي الجزيرة. والغريب أن جميع التحقيقات الجارية هناك تؤسس وتبنى على قواعد شهادات المسيحيين الكريديين بدون وجود أحد من أعيان المسلمين أو من قبل الحكومة العثمانية. وإذا طلب أحد المسلمين شهودًا من أبناء ملته فيكفي في تفنيد شهادتهم أن يقال: إن الشهود أقارب المشهود له، بأي صلات القرابة، والعمدة في ذلك على تعريف المسيحيين الكريديين؛ لأنهم هم وحدهم الذين يستطيعون معرفة قرابة المسلم للمسلم بالجزيرة، وهذا منتهى العدالة الإنكليزية ومنتهى التمدن الأوروبي الذي رزءنا بمصائبه!! والخلاصة: أن المسلمين في جميع أنحاء الجزيرة أصبحوا حيارى، عليهم سمات الذل وصبغة الأحزان، لا يدرون ماذا يفعلون وقد ضاقت في وجوههم رحيبات الآمال، يعتدى عليهم بأنواع العسف والجور فلا يجدون لهم مناصًا إلا الاستسلام، وتهان نفوسهم ونواميسهم الأدبية فلا يجدون لهم نفقًا في الأرض ولا سلمًا في السماء يهربون منهما إلى غير هذه الدنيا الكدرة ... ويقال: إن هذه الإدارة المؤقتة تستمر مدة ثلاثة أشهر، ولا يبعد أن تستمر مثل مدة الحصار البحري الذي كانوا يقولون في أول الأمر أن أجله ثلاثة أشهر أيضًا، واذا قضى الله أن تحق على مسلمي الجزيرة كلمة الشقاء إلى الأبد ويعين البرنس جورج اليوناني حاكمًا على كريد لم يبق أمام المسلمين كلهم إلا الهجرة العمومية مخافة أن يلاقوا في أيامه الشؤمى أضعاف ما يلاقون من العذاب الهون في عهد إدارة الدول المتمدنة. بقي على القراء أن يعرفوا مآل (سودا) الآن، وأقول لهم: إن الاحتلال فيها مختلط مثل خانيا، وإن كان الاحتلال البري لروسيا. وأهم خبر عن (سودا) الآن: أن الدول الأوروبية مختلفة فيمن يستولي على ترسخانة (دار صناعة) هذه الميناء بعد إخلاء الحكومة العثمانية لها؛ لأنه حتى الآن لم يتم إخلاؤها. ولا غرو فمثل هذا الخلف كان منتظراً وسيستفحل أمره وتظهر النوايا الخبيثة متى طال الأمر على هذه الإدارة المؤقتة وكل آتٍ قريبٌ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ابن الشهيد في كريد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المؤيد)