كتب بعض شبان العرب المتعلمين في مدارس الدولة العثمانية بالآستانة مقالات في الجرائد في موضوع هذا العنوان، ثم رأينا في كتاب (ثورة العرب) الذي صدر بالعربية من عهد قريب كلامًا مختصرًا مفيدًا في ذلك فنقلناه عنه؛ لأجل الاعتبار به وإثبات ما يحتاج إلى الرجوع إليه من تاريخ هذا الانقلاب الخطر. قال المؤلف تحت عنوان (المعول الاتحادي العظيم) ما نصه: أنشأ الاتحاديون جمعية تركية عظيمة سموها جمعية (ترك أوجاغي) - أي طائفة الترك أو العائلة التركية- وجعلوا غايتها محو الإسلام وتتريك العناصر العثمانية، ومركزها في الآستانة ومصاريفها من تخصيصات وزارتي الأوقاف والداخلية ومن المشيخة الإسلامية أيضًا وهي منتشرة في كل بلدة وقرية في الأناضول والقوقاس وتركستان وتراقية ومكدونية ولها أربعة فروع لكل منها مهمة خاصة به وهذه الفروع هي: أولاً: (ترك يوردي) - أي: المملكة التركية- ومهمته العناية بالآداب التركية بطرق شتى أهمها (تطهير) اللغة التركية من الكلمات العربية وجعلها لغة مغولية بحتة وتأليف الكتب القومية بهذه اللغة وتعليمها في المدارس ونشرها في البلاد التركية وكتابتها بحروف منفصلة لكي يبقى بينها وبين اللغة العربية أقل شبه [١] . ووظيفة أعضاء جمعية (ترك يوردي) مقاومة كل كاتب تركي أو غير تركي لا يرى رأيهم ولا يعتقد معتقدهم، ونشر الكتب القومية والأناشيد الحماسية بين الترك وتدريسهم التاريخ التوراني القديم وإفهامهم أن الترك أعظم أمة في العالم اختارتها الأقدار لسيادة الأمم. وقد جرى لهم حوادث عديدة مع فريق من عقلاء الترك أنفسهم كعلي كمال بك والدكتور رضا نور بك ولطفي فكري بك وغيرهم، فاتهموا هؤلاء بالخيانة وتهددوهم بالقتل، وقالوا: إن العنصر التركي يتبرأ منهم وأنهم من أصل يوناني وأنه لا وطنية لهم ولا قومية ولا شرف. ثانيًا: (ترك درنيكي) - أي: ثبات الترك- ومهمته بث الفكرة القومية في الترك العثمانيين وغير العثمانيين بشكل لم يسبق له مثيل في تواريخ الأمم [٢] . وأعضاء ترك درنكي من غلاة الاتحاديين وأشدهم كرهًا للعناصر ورغبة في تتريكها والقضاء على الفكرة القومية فيها. وهم على جانب عظيم من الهمة والنشاط، ولكن الغرور أعمى أبصارهم وأسدل ستارًا من الجهل على عقولهم فكانت ثمرة نشاطهم شرًّا على الدولة ووبالاً [٣] . ثالثًا: ترك بلكيشي- أي العلم التركي- ومهمة أعضائه ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة التركية القديمة، ونشر هذه اللغة بين الترك وبث الفكرة القومية التركية في تركستان والقوقاس وربطهما بدولة الاتحاديين برباط سياسي متين. رابعًا: (ترك كوجي) - أي: القوة التركية- ومهمته العناية بصحة الترك وتقوية أجسامهم ونشر الألعاب الرياضية بينهم. ويشترط للدخول في جمعية (ترك أوجاغي) أو في أحد فروعها أن يكون طالب الدخول تركيًّا وأن يدفع رسمًا شهريًّا، وأن يتعهد ببذل حياته ونشاطه وماله لإعلاء شأن الترك وبسط سيادتهم على الأمم الأخرى وأن يغير اسمه باسم توراني يُعرف به بين أصحابه، فمن كان اسمه أنور مثلاً صار يُعرف اليوم بين أصحابه باسم أيشلداق- أي: أنور بالتركية القديمة- ومن كان اسمه محمدًا أو سليمًا أو حسينًا أو سعيدًا صار اسمه اليوم تيمورًا أو جنكيز أو هلاكو أو غورز إلخ. وقد بدَّل كل الضباط الاتحاديين أسماءهم بأسماء تورانية، وكذا رجال الحكومة الحالية؛ لأنهم كلهم من جمعية (ترك أوجاغي) ويعرفون بين أصحابهم الترك بأسماء تورانية غير أسمائهم التي يعرفهم بها غير الترك. وقد أنشأت جمعية ترك أوجاغي وفروعها أندية عديدة في جميع المدن والقرى التركية لتدريس تاريخ الترك القديم ولا سيما تاريخ هلاكو وأوغوز وجنكيز خان وبث الفكرة التركية في الأمة التركية وجعلها تعتقد بتفوقها على الأمم الأخرى في كل شيء. وعينت هذه الجمعية ثلاثة أيام في الأسبوع لتعليم النساء التركيات التاريخ القديم وبث الفكرة العنصرية فيهن وحملهن على العناية بتربية أطفالهن تربية قومية تركية. وتبرعت وزارة أوقاف المسلمين أخيرًا بخمسين ألف ليرا عثمانية لجمعية (ترك أوجاغي) لأجل تأليف تواريخ مفصلة لهلاكو ووأغوز وجنكيز وتيمور لنك. وأندية (ترك أوجاغي) محرّم دخولها على غير الترك، فكل من يودّ أن يدخل إليها يجب عليه أن يُظهر للبواب ورقة عليها اسمه وتاريخ ولادته، وقد سعت جمعية ترك أوجاغي أخيرًا في ترجمة القرآن الكريم إلى التركية القديمة مع خطبة الجمعة والأدعية الدينية وغيرها مما يوجب الدين الإسلامي تلاوته باللغة العربية، وعزمت على نزع أسماء الصحابة من الجوامع لاعتقادها أن وجود هذه الأسماء العربية في الجوامع والأماكن المقدسة مما يُضعف الفكرة القومية في الترك. وليست المدارس العثمانية رشدية كانت أو إعدادية مَلَكية أو عسكرية إلا فروعًا من فروع جمعية (ترك أوجاغي) وكذلك جمعية الاتحاد والترقي وجميع الجمعيات السياسية والعلمية والدينية والأدبية التي تأسست في الآستانة والأناضول قبل الحرب الأوروبية وبعدها. وقد أدخلت الحكومة في برنامج مدارسها العالية ولا سيما المدرسة الحربية ومدرسة أركان الحرب في الآستانة درس تاريخ التورانيين وعلومهم الحربية وآدابهم ونظاماتهم، وعهدت إلى أحمد أغايف بك وخالد ضياء بك وحمد الله بك في إلقاء محاضرات يومية في هذه المواضيع على تلامذة المدارس الحربية ومدارس الحقوق والطب والهندسة وغيرها وترسيخ الفكرة التركية في نفوسهم. واستعاض التلامذة في جميع المدارس الابتدائية والإعدادية والعالية من الكتب العصرية بمجموعة (ترك يوردي) - المملكة التركية- وكتاب ترك قليجي- السيف التركي- وتاريخ توازن، وتاريخ تيمور لنك وهلاكو وجنكيز خان وغيرهم. وفي كل يوم يجتمع تلامذة المدارس الحربية في ساحات مدارسهم ويستلون سيوفهم وينشدون نشيدهم الوطني الذي يبتدئ بهذه الأبيات: جنكز خانك بايراغي ... آنلي شانلي صانلاندي آيت خانك بايراغي ... حربده بويله أكلاتدي
أي: لقد تموجت أعلام جنكيز خان في جو المجد والشرف وأرشدنا أعلام آيت خان إلى نهج هذا الطريق المجيد في الحرب. إلخ. والأغرب من هذا كله الدعاء الجديد الذي ألفته جمعية (تورك يوردي) وجعلت الترك يستعملونه في منازلهم ومدارسهم، وقد قررت أخيرًا استعماله في الجوامع في الآستانة والأناضول، وهذه ترجمته: (أيها الإله القادر على كل شيء أنعم على الترك بالصحة والعافية وأحسن إليهم بذئب أبيض [٤] واشملهم برعاية مولانا السلطان الأعظم. (وأنت يا مملكة توران الجميلة المحبوبة أرشدينا إلى الطريق المؤدية إليك؛ لأن جدنا أوغوز الكبير ينادينا. (أيها الإله القادر على كل شيء أنر طريق توران أمامنا، واجعل أمتنا كالورد الناضر واهدنا الصراط المستقيم) . *** الأناشيد الحماسية في الجيش أما الجيش العثماني فمعظم ضباطه وجنوده الترك من الاتحاديين ومن المنتسبين إلى جمعية ترك أوجاغي، وهم يحتقرون الضباط والجنود من أبناء العناصر العثمانية الأخرى ولا يسمون الدولة إلا الدولة التركية، وينفرون من تسميتها الدولة العثمانية لاعتقادهم أن البلاد العثمانية غير التركية ليست إلا مستعمرة فتحها الترك بالسيف. وهذا نموذج من الأناشيد الحماسية التي يتزعمون بها في الجيش: بزتر كزسن تركلكه أمانتسك ... هيج قورقمه هب أولورسي ويرميز ... أي: نحن ترك وأنت (يا آسيا) أمانة بيد الترك فلا تخشى شرًّا؛ لأننا نفديك بأرواحنا. أي ترك كنجي يتيشيرارتق أو يومه ... قوش كويلينك أمداديدورمه نه ... أي: انهض أيها الفتى فقد نمت طويلاً وأسرِع في الحال إلى إمداد بلاد أجدادك. جنكيز خانك بايراغي ... آنلي شانلي صانلاندي آيت خانك بايراغي ... حربده بويله أكلاتدي وقد سبقت ترجمته. انتقامي آله مزسك تركلك بزه نافله ... صوصتره لم بايقوشلري يتيشر بو ولوله ... أي: لا يحق لنا أن نُدعى أتراكًا ما لم ننتقم من أعدائنا. فلنسكت اليوم عن نعيقه وليكفنا ما سمعناه من الضجيج والنحيب. يورييالم أيلرى يه أتلاية لم طاغ تبه ... باطلاتالم بومبالري جانلر كيرسون يرلره أي: هلموا إلى الأمام فستنبط أمامكم الجبال والآكام وتتفجر قنابل الديناميت وتفغر الأرض فاها لابتلاع النواقيس والأجراس. آل بايراغك التنده انآ لرم يورودي ... كوك بايراغك التنده يكي توران بيودي ... أي: لقد سار أجدادنا إلى المجد تحت العلَم الأحمر الذي هو مصدر عظمة توران الجديدة. يورين طاغلر اينيسين التون اردوشان ويرسون ... آل بايراق! يا نعينلر اوزرنده يوكسلسك ... أي: سيروا لتنبسط الجبال وتكسبنا جيوش التاي [٥] الشرف فإن مجدنا سيشاد تحت العلم التركي على الأنقاض والحرائق. بزايغورز دونميز قونا غمز طاغ اوه ... تركز بزمدراسيا تركز هيمز ... أي: نحن سعداء فلا نرجع عن سيرنا إلى الأمام؛ لأن مسكننا الجبال والبِطاح نحن ترك وآسيا كلها لنا نحن أتراك أتراك كلنا. كيف يعلمون الأمة هذا نموذج من الأناشيد التركية الوطنية التي يترنم بها الترك في ميادين القتال على مسمع من جنود العرب وضباطهم. وإلى القراء نموذج من الخطب والدروس التي يلقيها على التلامذة العثمانيين في مدارس الدولة أساتذة من أعضاء جمعية (ترك أوجاغي) عينوا برواتب باهظة لتتريك أبناء العناصر العثمانية. قال أستاذ التربية العسكرية في المدرسة الحربية في الآستانة في درس ألقاه على صف الضباط بعد إعلان الحرب العثمانية بأيام ما خلاصته (أي خلاصة ترجمته) : (أود أيها السادة أن ألقي عليكم كلمة في غاية الأهمية بمناسبة الحوادث العظيمة التي وقعت في الغرب فأظهرت لنا معاشر الترك أمورًا لم تخطر في بالِنا من قبل وعِبرًا ينبغي أن نعتبر بها. فإن البلجيك الصغيرة تجاسرت على محاربة ألمانيا العظيمة ووقفت بجيش لا يزيد على مئة ألف جندي أمام أعظم جيش ذكره تاريخ بني البشر فحالت دون القضاء على حليفتها فرنسا. لذلك لا يسعنا نحن الترك أعداء البلجيك إلا أن نطأطئ رؤوسنا إجلالاً لها واحترامًا لجيشها الباسل. ولكن أتعلمون أيها الأصدقاء لماذا وقفت البلجيك تيار الجيش الألماني العظيم؟ وقفته لأنها كانت تحاربه باسم القومية وباسم الوطن. أوَ تعلمون لماذا عظمت فرنسا وإنكلترا وألمانيا ومدن العالم وصرن أعلى أمم الأرض مقامًا وأكثرها ثراءً؟ لأنهن خضن معترك الحياة باسم القومية لا باسم الدين. فعلينا أيها الأعزاء أن نظهر من الآن وصاعدًا أمام العالم بصبغة القومية المقدسة، وأن نضرب بالعصبية الدينية عرض الحائط. ونحن أيها السادة أتراك، وإني لأعجب من تسميتنا عثمانيين. فمن هو عثمان الذي ننتسب إليه؟ إنه تركي جاء من آلتاي واجتاح هذه البلاد بجيشه التركي فانتسابنا إلى أصله أشرف من انتسابنا إليه. ولقد خُدعنا بجهل أسلافنا في الماضي، فبئس الأسلاف الذين أنسونا قوميتنا، إنكم أيها الأعزاء ستلحقون بالجيش قريبًا وستكونون أساتذة جنودنا الأبطال. فعلموهم أنهم ترك وأنهم إذا حاربوا العدو من أجل الترك وتحت العلم التركي ينتصرون عليه ويحرزون ما أحرزته البلجيك من المجد والفخر. وتأكدوا أن التركية خير لنا من الإسلام وأن التعصب للجنسية من أكبر فضائل الهيئة الاجتماعية. فأجابه أحد ضباط العرب قائلاً: (تعلم أيها القائد أن للأمم الشرقية تقاليد لا يمكن الإغضاء عنها، وقد حفظت الجنسية العثمانية هذه التقاليد وكفلت سلامة الدولة إلى الآن. فتتريك العناصر العثمانية أو إنكار قوميتها عليها يؤدي إلى اضمحلال الدولة في القريب العاجل. فأنا أحتجّ على هذا الكلام وأقول بكل صراحة: إن الرابطة الإسلامية العثمانية هي الرابطة الوحيدة التي تربطنا بالترك. ولما كنت حضرتك تعلمني الآن أن هذه الدولة دولة تركية وأن هذا العلم الذي عهدت إليّ في الدفاع عنه هو علم تركي؛ أي: علم أجنبي عني فقد قضيت على قوتي المعنوية قضاء مبرمًا، وأخمدت كل عواطفي الوطنية؛ لأني أنا وأبناء العرب وجميع أبناء العناصر غير التركية لا تحارب في جنب الترك إلا لمقاصد متحدة وذبًّا عن حياض الإسلام والعثمانية) . فأجاب القائد قائلاً: (اعلم أن الحقيقة غير العواطف وأنك وإن تكن عربيًّا فأنت وعنصرك من تبعة تركيا. ألم يستعمر الترك بلادك؟ ألم يفتحوها بالسيف؟ إن العثمانية التي تتخذها حجة لك هي حيلة اجتماعية يستعملها الضعيف للوصول إلى غايته. أما الدين فلا شأن له في السياسة، وستنهض قريبًا باسم التركية وتحت العلم التركي ونترك الدين جانبًا؛ لأنه من الأمور الشخصية الثانوية، أما أنت وأبناء جنسك فعليكم أن تعرفوا أنكم تُرك وأنه ليس في العالم قومية عربية أو وطن عربي) [٦] . وقد احتج ضباط العرب الذين سمعوا هذه الخطبة إلى وزارة الحربية وطلبوا منها عزل القائد الأستاذ فلم تعبأ باحتجاجهم ولا أجابتهم إلى طلبهم، بل اتخذت التدابير اللازمة للتخلص منهم فقذفت بهم إلى ميادين القتال وعرضتهم لرصاص العدو بلا سبب إلا رغبتها في محوهم ليتسنى له بعد ذلك قتل الفكرة القومية في بلادهم. وهذه الرغبة- رغبة قتل العرب- قديمة العهد في الترك الاتحاديين. فقد عثر ضباط العرب سنة ١٩١٢ في بولاير على كتاب من أحد زعماء الاتحاديين إلى قائد اتحادي كبير جاء فيه (عرضوا العرب لرصاص العدو واعملوا على التخلص منهم؛ لأن قتلهم يفيدنا. أما الكُرد فاحتفظوا بهم؛ لأنهم يلزمون لنا في بلاد الأرمن) [٧] .