(التي ألقاها في مجلس الجمعية الوطنية الكبيرة بأنقرة في جلسة ١٢ ربيع الأول - أول نوفمبر - التي أعلنوا فيها إسقاط الدولة العثمانية للإقناع بكوْن سلب المجلس السلطةَ من الخليفة موافقًا للشرع الإسلامي، وكان ذلك على إثْر إرسال توفيق باشا الصدر الأعظم برقيات إليه بطلب أعضاء من حكومة أنقرة ينضمون إلى الأعضاء الذي يختارهم الباب العالي لمؤتمر الصلح الدولي) . ماهية الباب العالي: أيها الزملاء: إن توفيق باشا - الذي يضيف إلى اسمه في الآستانة صفة غير شرعية - قد راجع القيادة العليا لجيوشكم ببرقية خصوصية سرية، ثم أردفها ببرقية صريحة تُفشي سر الأولى، وإذا ما فحصتم البرقية ألفيتموها ترمي إلى تهويش الرأي العام الإسلامي، وإضعاف حكومتنا الوطنية التي فازت في الدفاع عن قضيتنا المقدسة فوزًا فعليًّا وقانونيًّا إزاء الأعداء الذين كانوا يرومون محق استقلالنا، وقد اقتضت تلك البرقية العارية عن المعنى والمنطق تكرار حقيقة مؤيدة بوجود مجلسكم العالي، لا شك أن الحقيقة المندمجة في شكل إدارتنا هي أخْذ الشعب التركي بزمام أموره، وقيامه بمهام سلطنته الشعبية منذ ثلاثة أعوام، ودفاعه عن قضيته المقدسة، وقد أدى ظهور هذه الحقيقة إلى زوال باطل هو اجتماع سيادة الشعب وسلطنته في يد شخصٍ واحدٍ، أكرر هذه الحقيقة التي أقرها الشعب، وأقرتها الهيئة الجليلة المؤلَّفة مِن وكلائه تبعًا لإرادة الأمة مِرَارًا، وأرجوكم أن تتفضلوا بالإصغاء إليَّ بضع دقائق. حضرات الزملاء: لعلكم توافقونني على إلقاء نظرة سريعة قصيرة في التاريخ التركي والتاريخ الإسلامي توضيحًا للحقيقة. خلاصة تاريخية سياسية للتركية والإسلامية: إن في هذا العالم الإنساني أمة تركية عظيمة، يزيد عددها على مائة مليون على أقل تقدير، ولهذه الأمة مكان فسيح في التاريخ يضاهي مكانها على وجه الأرض، وإذا ما شئتم - أيها السادة - أمكننا أن نقيس هذا التاريخ بمقياسين: الأول خاص بالعهد الذي يتقدم التاريخ المدون، ومنه نعلم أن أول تركي ابن يافث بن نوح - عليه السلام - وليس لنا إلا أن نتسامح مع أول العهود التاريخية، التي كانت تتسامح في جمع الوثائق، إنما يمكننا أن نقول مستندين إلى أقطع الدلائل التاريخية المادية الجلية: إن الأتراك أسسوا دولاً عظمى في قلب آسيا منذ خمسة عشر قرنًا، وكانوا من العناصر التي تجلَّت فيها جميع أنواع القابليات الإنسانية، وقد قام بتأسيس تلك الدول التركية أجدادنا، الذين كانوا يرسلون سفراءهم إلى (الصين) ، ويتقبلون سفراء (بيزنطة) في عواصمهم. كذلك من المعلوم - أيها الزملاء - أن في العالم كتلة عربية، يتكون من قسمها الآسيوي كتلة متكاتفة، وقد ظهر من هذه الأمة العربية فخر العالم، والرسول الأعظم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. أيها السادة: إن الله واحد أحد عظيم، ونستطيع أن نقول - ناظرين إلى تجلِّيَات السنن الإلهية -: إن الناس يصح فحصهم، وهم في حالين، وفي عهدين: العهد الأول عهد الصبا والشباب البشري، والعهد الثاني عهد الرشد والكمال الإنساني، والإنسانية في عهدها الأول كالطفل وكالشاب تبتغي أن تشتغل بنفسها بالوسائل القريبة المادية، وقد اقتضت إرادة الله أن يبعث في الناس مَن يرشدهم إلى أن يتم وصولهم إلى الكمال؛ ولذلك أرسل فيهم من عهد آدم - عليه السلام - أنبياءَ ورسلاً لا يمكن عدّهم أو إحصاؤهم، إلى أن قام نبينا الأعظم بتبليغ آخر الحقائق الدينية والمدنية، فلم تبقَ حاجة إلى الاتصال بالناس بواسطة رسل؛ حيث قد وصلت درجة كمال النوع البشري إلى حد يصله بالإلهامات الإلهية رأسًا؛ ولهذا كان الرسول المجتبى خاتم الأنبياء، وكان كتابه أكمل الكتب السماوية [١] . وُلد - عليه الصلاة والسلام - قبل ألف وثلاثمائة وواحد وأربعين عامًا في يوم الاثنين من شهر أبريل - ربيع الأول قبل طلوع النهار، وقد شَبَّ، واكتهل قبل أن يُرسل، وكان وجهه نورانيًّا، وكلامه روحانيًّا، لا يفوقه أحد في رشده ورويَّته، بل يفوق الكل في صدقه وحِلْمه ومروءته، وقد امتاز محمد المصطفى بأمثال هذه الصفات الجليلة قبل بعثته، فاشتهر في قبيلته بلقب محمد (الأمين) ، وكان محبوبًا محترمًا موثوقًا به لدى الجميع قبل بعثته. بُعث محمد - عليه الصلاة والسلام - في سن الأربعين، وأُرسل في سن الثالثة والأربعين، فظل سيدنا فخر العالم يسعى عشرين عامًا، متكبِّدًا أعظم المشاقّ، محوطًا بأشد الأخطار، وقد ارتقى إلى أعلى عِلِّيين بعد أن بلغ الرسالة، وأتم تأسيس الإسلام، وها نحن أولاء في يومنا هذا - ١٢ ربيع الأول - ندرك ذِكرى ذلك اليوم؛ فقد ارتحل الرسول الأعظم إلى دار البقاء في مثل هذا اليوم بالتاريخ العربي، فلما ارتقى الرسول إلى الرفيق الأعلى اجتمع المسلمون الذين أرشدهم إلى الحق - وعلى الأخص أصحابه الكرام - وبكوا لفقده مُرَّ البكاء، وإنما أدرك أرباب الفطنة أن لا فائدة في هذا الحزن الذي تقضي به البشرية، فاجتمعوا للتشاور في اتخاذ التدابير التي يتسنى بها رؤية مصالح الأمة وإدارتها بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمعوا لينتخبوا أميرًا يخلف رسول الله، وقد كانوا يرون النبي الأعظم يحب أبا بكر حبًّا جمًّا، وأنه أشار في آخر أيامه بما أفاد أنه يبتغي أن يخلفه أبو بكر. آراء الصحابة في الخلافة: فكان المنتظر إزاء ذلك عقد اجتماع لانتخاب أبي بكر الصديق انتخابًا رسميًّا، ولكن الانتخاب لم يكن سهلاً إلى هذه الدرجة؛ حيث قامت المناقشات والمفاوضات الكثيرة، وحدثت الاختلافات العظيمة، وظهرت ثلاث وجهات نظر مهمة في أمر الانتخاب [٢] . الأولى: أن يكون الاستحقاق لمقام الخلافة بالكفاءة، والقدرة على إدارة مصالح الأمة؛ وعليه ينبغي أن تكون الخلافة في أقوى الأقوام - أو قال: القبائل - نفوذًا ورشدًا، وهذا رأي جمهور الصحابة [٣] . الثانية: أن يكون مَن نصروا الإسلام - إلى ذلك اليوم - أهلاً للخلافة، وهذا رأي الأنصار. الثالثة: التزام قوة القرابة، وهذا رأي الهاشميين. لم يتسنَّ ترجيح وجهة نظر من هذه الوجهات باتفاق الآراء لانتخاب الخليفة، فقام سيدنا عمر، وبايع أبا بكر الصديق منعًا لتشتت الآراء، فبويع له، ومن ذلك يتبين أن التأثيرات الشخصية هي التي أنتجت انتخاب الخليفة الأول لائتلاف الميول العامة تألفًا طبيعيًّا حول نقطة واحدة [٤] . والحق - أيها السادة - لا يصح لنا أن نظن أن هذه المناقشات الخاصة بالخلافة لا محل لها؛ فإن أمر الخلافة في الحقيقة أعظم مصلحة إسلامية، والخلافة النبوية إمارة تربط أهل الإسلام أجمعين، وتكفل اجتماعهم على كلمة الاتحاد. وقد قضت الحكمة الإلهية أن لا تنعقد إلا على السطوة والقوة [٥] ؛ إذ المقصد الأصلي منها دفع الفساد، وتوطيد أمان البلاد، وتنظيم أمور الجهاد، وتعهُّد المصالح العامة، وهذا كله منوط بالسطوة والقوة، تلك سُنَّةٌ الله في خلقه. من أجل ذلك كانت وجهة النظر الأولى التي عرضتها عليكم فيما سلف، والتي تجعل الخلافة في الأمة - ذات الحَوْل والطَّوْل - أرجح وأغلب وجهة [٦] ، وكان من الصواب أن يتقلد أبو بكر الصديق الخلافة بالتأثير. تأسست - بعد عهد السيادة النبوية - إمارة إسلامية باسم الخلافة على هذا المنوال، وقد حدثت الردة وبعض الحركات الرجعية بعد وفاة الرسول، فأخمدها أبو بكر، ووطد دعائم السلام، ثم توسَّل إلى توسيع حدود الإمارة الإسلامية، ولما أحس بدُنُوٍّ أجله تذكَّر ما وقع من المشاكل في أمر انتخابه، وانتخب عمر الفاروق بنفسه لمقام الخلافة، وعهد إليه بها، وقدمه للأمة. اتسعت البلاد في عهد (الفاروق) اتِّساعًا عظيمًا، وكثرت الثروة، ونمت نموًّا كان من شأنه - كما هي العادة - حدوث الأغراض الدنيوية بين الناس، وظهور الثورة والفتنة، حتى لقد كانت هذه النقطة تُزعج الفاروق، الذي كان يتذكَّر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد قال لخواصّ أصحابه: إن أمته سيظهر أمرها، وتهزم أعداءها، وتفتح اليمن والقدس والشام، وتقتسم خزائن الأكاسرة والقياصرة، وإنها ستشبُّ بينها الفتنة بعد ذلك، فتضل، وتغوى، وتسير سير الملوك السافلين، حتى لقد سأل الفاروق يومًا حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عن الفتنة التي تموج موج البحر، فأجابه أنه لا بأس عليه منها، وأن بينه وبينها بابًا مغلقًا، فسأله عمر: هل يُفتح هذا الباب أم يُكسر؟ ، قال له حذيفة: بل يُكسر، فقال عمر: إذن لا يُغلق بعدها أبدًا، وتأسَّف، والحق أن الباب كان يوشك أن يُحطَّم؛ إذ قد اتسعت البلاد الإسلامية، وكثرت الأعمال، وكان من العسير تعميم العدل الكامل في كل مكان بمثل تلك الإدارة، كان سيدنا عمر يفكر في ذلك، ويتدبر في نتائجه، ويضرع إلى الله أن يقبض روحه، ولقد سأله سائل - وهو يبكي يومًا - عن سبب بكائه، فأجابه: كيف لا أبكي، وأنا أخشى لو ضاعت شاة على نهر الفرات أن أُسأل عنها؟ ! أجل، إن الفاروق - رضي الله عنه - كان قد فهم حق الفهم أن الإمارة الموسومة باسم الخلافة غير كافية لإدارة دولة، وأن الفرد الواحد مهما اعتمد على فضيلته وقدرته ومهابته لا يستطيع إدارة دولة بأجمعها [٧] ؛ ولهذا السبب كان عمر لا يفكر في خليفة بعده [٨] ، حتى لقد قال لمَن أشاروا عليه بتولية ولده بأنه تكفي ضحية واحدة من بيت واحد، وخاطبه (عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه - إذ قال له: سأوليك الخلافة من بعدي - قائلاً: أَوَ تنصحني بقبولها؟ ! ، فأجابه: لا، فقال عبد الرحمن: والله لا أقبلها أصلاً. وقد كانت النتيجة أن توصَّل عمر إلى أحسن حل؛ إذ أحال إمارة الدولة ومصلحة الأمة إلى مجلس شورى [٩] ، فاجتمع أصحاب الشورى والشعب في المسجد، وهنالك قَرَّ رأيهم على تفويض الإدارة إلى خليفة انتخبوه. تولى سيدنا عثمان الخلافة، ولكن كان قد تحطَّم الباب الذي قضى عليه بالتحطم، وبدأ القيل والقال، وظهرت أمارات عدم ارتياح في أكثر الممالك الإسلامية. وقد وقف سيدنا عثمان موقف الضعف والعجز، حتى لقد دعاه (معاوية) - عامله على الشام - لصيانة حياته، فرفض (عثمان) ذلك، وأمر (معاوية) أن يرسل إليه جنودًا للمحافظة عليه، ولكن لم يتَّسع المجال لاتخاذ هذه التدابير، حيث قامت المناطق التي أعلن أهلها العصيان، وتقدَّمت المدينة، وحاصرت (عثمان) في بيته، ثم أراقت دمه، وهو بجانب زوجته. تولى الخلافة بعد ذلك سيدنا (علي) - كرم الله وجهه - بين ضوضاء عظيمة، ووقائع دموية، وقد تحطم الباب، والحق أن العراق واليمن وسورية والقطر الحجازي كانت بلادًا مختلفة، وإن كان يسكنها شعب واحد، وقد اضطر الخليفة في الحجاز أن يقف وجهًا لوجه إزاء والٍ يستند إلى القوة، حيث كان (معاوية) لا يعترف بخلافة (علي) - كرم الله وجهه - بل يتهمه بدم عثمان [١٠] ، فكان مما فعله الخليفة - المأمور بتنفيذ الأحكام القرآنية - قطع الحرب إزاء الجيوش الأموية، التي علقت القرآن على رؤوس رماحها، وتعهَّد الطرفان بقبول ما يقضي به الحَكَمان، كان سيدنا (علي) حاضرًا؛ إذ اجتمع مندوبه (أبو موسى الأشعري) مع (عمرو بن العاص) مندوب معاوية لتنظيم أمر التحكيم، فاعترض مندوب (معاوية) على ما خطَّه أبو موسى الأشعري من أن هذا تحكيم بين أمير المؤمنين علي ومعاوية، وطلب إلغاء عبارة (أمير المؤمنين) قائلاً: إنه لا يعترف بإمارته إلا مَن هم تحت أمره، فلا يعترف به أهل الشام، فوافق سيدنا علي على ذلك، والكل يعلم تلك الحيلة الدنيئة التي وقعت بعد ذلك بين مندوبي الطرفين، وهنالك بشَّر عمرو معاوية بالخلافة؛ إذ نجح في حيلته، كما أن عليًّا استمر يقوم بالخلافة، بعد أن تردد قليلاً فيما إذا كان يجب عليه أن يراعي حُكْم الحَكَم أم لا. يتبين من هذا أن اثنين من كبار المسلمين لم يترددا في التنازع باسم الخلافة، والتحارب من أجلها، وإراقة دماء شعب يتشيع لكل واحد منهما؛ رغمًا مِن أن الكل على دين واحد، والكل من أمة واحدة! تمكَّن الناجح في حيلته من هزيمة النزيه [١١] ، وإرهاق آله وعياله، وهنالك تحولت الخلافة إلى سلطنة إسلامية باسم الخلافة. فتحت الدولة الأموية فتوحات عظيمة، ولكنها لم تحي إلا تسعين عامًا طافحة بالوقائع الدموية من أولها إلى آخرها، وقد أسقطت الأمة العربية دولة بني أمية في عام ١٣٢، وأسست مكانها دولة أخرى هي الدولة العباسية، التي كان يلقب رؤساؤها بألقاب الخلافة، وكان هناك في الأندلس كذلك ملوك ظلوا يلقَّبون بألقاب الخلافة قرونًا، بالرغم من وجود الخلافة العباسية في العراق! أسلفت - فيما سبق - أنه كانت قد تأسست في أواسط آسية دولة تركية قبل خمسة عشر قرنًا، أي قبل هجرة الرسول الأعظم بقرنين ونصف، وقد اعتنق الأتراك - الذين أسسوا هذه الدولة - الدين الإسلامي قبل ألف سنة، ووسعوا بلادهم في اتجاه الشرق حتى الصين، وأقبلوا حتى سورية والعراق في عهد الدولة العباسية بصفتهم جنودًا، وقوَّوا نفوذهم في هذه البلاد التي تحت حكم الخلفاء العباسيين، وارتقوا إلى أسمى المقامات، وتولَّوْا قيادة الجيوش. وقد تأسست في القرن الرابع الهجري دولة تركية عظيمة باسم الدولة السلجوقية، فكان الأتراك - الذين يعملون باسم هذه الدولة - ينتشرون في بلاد القافقاس من جهة وبلاد إيران والعراق وسورية من جهة الجنوب، وبلاد الأناضول من جهة الغرب، حتى دخلت دولة الخلفاء العباسيين المقيمة في بغداد في دائرة نفوذ هذه الدولة، والحق أن هذه الدولة التركية مدَّت سلطانها إلى ما وراء النهر وخوارزم والشام ومصر وأكثر الأناضول في أواسط القرن الخامس الهجري، ووسعت حدودها حتى كاشغر ونهر سيحون إلى البحر الأبيض، والبحر الأحمر، وبحر عُمَان، بحيث كان الخلفاء العباسيون في بغداد تحت نفوذهم وإدارتهم، وقد جلس (ملكشاه) - الذي يمثل السيادة التركية - بجانب الخليفة المقتدي بالله، وتصاهرا [١٢] . أريد أن أحلل هذا المنظر وهذا الموقف قليلاً، لقد كان (الخاقان) التركي - الذي يمثل دولة تركية عظيمة - لا يرى بأسًا في المحافظة على مقام الخلافة وحدها، ولو رأى بأسًا في ذلك لكان في مقدوره أن ينزع تلك الصفة من الخليفة، وأن يضيفها إلى نفسه، أي أنه لو أراد (ملكشاه) لفعل في بغداد ما فعله السلطان سليم في مصر بعد خمسة قرون [١٣] ، بل إننا نرى (ملكشاه) لم يفكر إلا في أن يخلف المقتدي بالله مَن هو أصدق للدولة التركية، وأليق بمقام الخلافة، وقد ضغط على الخليفة المقتدي بالله لعزل ولده من ولاية العهد، وإقامة حفيده مكانه. والآن - أيها السادة - مقام الخلافة محفوظ، وبجانبه مقام السيادة والسلطنة الوطنية، أي الجمعية الوطنية التركية الكبرى، ولا شك أن هذين المقامين يقفان جنبًا إلى جنب وقفة أعلى وأسمى من وقفة الخلافة العاجزة الضعيفة إزاء ملكشاه؛ لأن تركيا الحديثة تمثلها الجمعية الوطنية الكبرى؛ ولأن الشعب التركي يتعهَّد ويتكفل بأن يكون سندًا لذلك المقام بجميع قُواه، من حيث هو واجب وجداني ديني [١٤] . لنتقدَّم في ملاحظتنا التاريخية بضع خطوات أخرى؛ حتى تتَّضح لنا ضرورة إدارتنا الحالية، ومقدار نفْعها للإسلام. أيها السادة: إن الأتراك الذي أسسوا في أواسط آسية دولاً على دول -قاموا بتأسيس دولتين عظيمتين، بلغتا أوج المدنية في غرب ذلك، هما الدولة السلجوقية الإيرانية والدولة السلجوقية الأناضولية، ومن المعلوم أن قونية كانت حاضرة الدولة السلجوقية الأناضولية، وأن هذه الدولة قد حافظت على حياتها حتى عام ٦٩٩، وبينما هذه الدول الإسلامية التركية المعروفة تسعى وتعمل - ظهر الفاتح جنكيز خان، وخرج من قارة قوروم سنة ٥٩٩، ووسع حدوده حتى بحر الصين وبحر البلطيق والبحر الأسود، وقد استولى حفيده هُلاكو خان سنة ٦٥٦ على بغداد، وقتل الخليفة العباسي المستعصم؛ وبذلك رفع الخلافة من وجه الأرض فعلاً. لقد رأى سيدنا عمر في حياته بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يُستطاع وقفُ تموجات الهيئة الاجتماعية، وفارق الحياة الدنيا مضطرب الروح! وأما سيدنا عثمان فقد سال دمه على صحف القرآن وسط الهجمات المقدرة، ولم يتمكن الإمام علي - كرم الله وجهه - من تقرير الخلافة في عهدته، ولا من المحافظة على حقوق آل بيت الرسول، والأمويون لم يستطيعوا المحافظة على الخلافة أكثر من تسعين عامًا، وقد اضطر الخلفاء العباسيون إلى قصر نفوذ الخلافة بين أسوار بغداد، وقد ذهب المستعصم آخرهم ضحية لهلاكو مع أولاده وعياله وثمان مائة ألف من المسلمين. وأما خلفاء الأندلس - الذين لم يتجاوز نفوذ خلافتهم قصر الحمراء بعد ضعف الخلافة العباسية - فكلنا يعلم عاقبة فاجعتهم في أوائل القرن الخامس الهجري، وقد أدت الوقعة الخطيرة التي قام بها (هلاكو) إلى إعدام الخليفة، ومقام الخلافة [١٥] . ولكن لم تمضِ ثلاثة أعوام على ذلك حتى التجأ إلى الحكومة المصرية (المستقر بالله) من آل عباس سنة ٦٥٩ هجرية، فاعترف ملك مصر بخلافته، وقد جاء من بعده ١٧ خليفة لم يكن لأحدٍ أدنى نفوذ أو تأثير رأسي، بل كان يُستخلف بعضهم بعضًا تحت حماية الحكومة المصرية، فلما تشتتت الإدارة السلجوقية أسست الأمة التركية الدولة العثمانية مكان الدولة السلجوقية عام ٦٩٩ هجرية، وقد وجد السلطان سليم عند دخوله مصر عام ٩٢٤ مَن يلقَّب بالخليفة عدا مَن قتلهم من ملوك مصر، فلم يتردد ذرة في أن بقاء صفة الخلافة في شخص عاجز يشين العالم الإسلامي، فاتخذها لنفسه على أن يجعل قوة الدولة التركية سندًا لها. أيها السادة: تأسست الدولة العثمانية عام ٦٩٩ هجرية، وتقلدت الخلافة عام ٩٢٤، فلم يمضِ على ذلك التاريخ خمسون سنة، حتى أتمت ثلاثة قرون من حياتها تدعى عهد الاعتلاء والانتصارات المتوالية، أما بعد ذلك فقد بدأ عهد الانحطاط، فصارت الحدود التركية تضيق كل يوم، وتنقص قوات الشعب التركي مادةً ومعنًى كل يوم، وتنزل الضربات الموجعة على رأس الاستقلال التركي، وتمحق أراضي المملكة وثروتها ونفوسها وكرامتها بسرعة مدهشة [١٦] . كانت البلاد منتبهة مستعدة لمعالجة أسباب مصائبها منذ قرون في لحظة واحدة؛ إذ كان التاريخ واضحًا للغاية، وكان الشعب قد بلغ أشدَّه وكماله؛ ليعمل لملافاة نتائج غفلته المؤلمة، التي أنسته نفسه من جراء اتخاذ واسطة وقوة لترويج أطماع الأشخاص الذي يريدون أن يتحكموا، وأن يتسلطنوا، وأن يستولوا، وأن ينتفعوا، وأن يستريحوا، وأن يتوغلوا في السرف والترف وأنواع الرذائل، وغير ذلك من المقاصد الدنيئة، هنالك لم يتردد الشعب في الحكم بأنه قد حان الوقت الذي يستعمل قوته ونفوذه المعقول والمشروع والإنساني. ولهذا هَبَّ الشعب التركي - الذي أسس دولة جنكيزية ودولة سلجوقية، ودولة عثمانية، وجرب جميع هذه الدول بالحوادث - فأسس في هذه المرة دولة باسمه وعنوانه، ووقف بإزاء المصائب التي بلي بها بقدرته وقوته التي فُطر عليها، فسلم الشعب جميع أموره وجمع السلطة الشعبية لا في شخص واحد، بل في مجلس عالٍ مؤلَّف من وكلائه الذين ينتخبهم جميع أفراده، وهذا المجلس مجلسكم الموقر، أي الجمعية الوطنية التركية الكبرى، التي تُدعَى حكومتها (حكومة الجمعية الوطنية التركية الكبرى) ، وليس هناك مقام سلطنة أو هيئة حكومة أخرى في البلاد. والآن قد يدور بالخلد سؤال عما يصير إليه أمر الخلافة بعد انهدام المقام الشخصي الذي يضيف لنفسه تلك الصفة؟ ! أيها السادة: لقد رأينا مقام الخلافة في بغداد في عهد الخلفاء العباسيين وفي مصر يعيش قرونًا بجانب السلطنة، مع انفراده عنها، وإن من الطبيعي جدًّا أن يكون مقام الخلافة بجانب مقام السلطنة الشعبية، مع فرق هو أنه كان على رأس السلطنة في بغداد ومصر شخص، وأما في تركيا فيجلس في ذلك المقام شعب، ثم لا يكون مقام الخلافة ضعيفًا عاجزًا ملتجئًا، كما كان في بغداد ومصر، بل سيتربَّع فيه شخص عالٍ، يستند على الدولة التركية [١٧] . وعلى هذا النحو سيزداد الشعب التركي قوة كل يوم بصفته دولة عصرية مدنية، وستتضاعف سعادته ورفاهيته وفهمه لإنسانيته ونفسه، كما أنه سيظهر في مظهر العزة والرفعة التي تشرح قلوب المسلمين أجمعين، ويجعله النقطة التي يجتمع حولها العالم الإسلامي بروحه ووجدانه وإيمانه. أيها السادة: لا نرى حاجة لإيضاح ما تعده الدولة التركية والجمعية الوطنية الكبرى وحكومتها من القوة والبركة والنجاة والسعادة للشعب التركي؛ فإن تجارب ثلاثة أعوام - وثمار تلك التجارب - كافية لإيضاح ذلك على ما أعتقد، وأما الفوائد التي تجنيها تركيا، ويجنيها العالم الإسلامي من مقام الخلافة بعد ذلك - فسيبرهن عليها المستقبل بكل وضوح. إن الدولة التركية الإسلامية ستكون أسعد دولة في العالم لكوْنها منبعًا ومنشأً لتجلِّي السعادتين! والآن أختم كلامي قائلاً إني أرى جميع الزملاء متحدين ومتفقين تمام الاتفاق في أساس المسألة التي نتباحث فيها، وتلك حال سارة توجب شكر الأمة وتبريك الجمعية المبجلة، لقد تُلي علينا تقرير مفصل من قبل، ولدينا تقرير آخر قُدم الآن، وكلاهما متحد في الأساس، فليس لدينا إلا أن نحرر ما ورد فيهما في شكل أصرح وألطف، ثم نحيلهما على رأي الجمعية الوطنية المبجلة، ونعلنهما بعد الحصول على رأيها، وبذلك نَحُول دون جميع الدسائس التي يدسها علينا أعداؤنا (انتهت الخطبة) . *** (المنار) إن المراد من هذه الخطبة السياسية جعْلها حجةً للجمعية الوطنية التركية في إسقاط الدولة العثمانية، وتأليف دولة تركية محضة بشكل جمهوري جديد، وإقامة هذه الدولة خلافة روحية للمسلمين بمعنى جديد لم يُعرف من شكله إلا أنها محصورة في بني عثمان، وأن الدولة التركية هي التي تنتخب خليفة تركيًّا عثمانيًّا، وتؤيده بقوتها، وتجعله - على حرمانه من سلطة الحكومة - أجلّ وأكرم من الخليفة العباسي الذي تغلب عليه سلاطين الترك في بغداد، والذي تغلب عليه سلاطين مصر، ولكن هذه التنظيرات التاريخية على ما فيها ليست حججًا شرعية على ما كان، وعلى ما يُراد الآن، وإنما هي مبنيَّة على قاعدة (الحق للقوة) ، ولا تحتاج الدولة التركية الجديدة إلى حجة غيرها، وليس السلجوقيون ولا الجراكسة، ولا غيرهما أولى بها منها، وهذه القاعدة هي التي تجرى عليها سياسة هذا العصر، وجميع الشعوب الإسلامية التي تعطف على الترك وتؤيدهم - فإنما تؤيدهم لأجل قوتهم الحربية، والتلذُّذ بأن شعبًا إسلاميًّا يقاتل الإفرنج المستذلين لهم قتال الأَكْفَاء، ويضطرهم بقوته إلى احترامه، والاعتراف بحقوق لدولته، لا لأجل الخلافة والخليفة، والبرهان القاطع على ذلك أنهم كانوا إلبًا واحدًا على محمد وحيد الدين لما ناوأ الكماليين، ولا تأثير في ذلك لما يقال من تنازُل الأسير العباسي للسلطان سليم آسره على الخلافة، التي لم يكن يملك منها إلا دون ما يملك وحيد الدين منها ومن السلطنة عندما فر إلى مالطة، فإن فقد الشعب التركي المسلم هذه القوة الحربية الممتازة - لا سمح الله بذلك - لم يعد أحد من المسلمين يبالي بأمره، أوجد فيه خليفة أم لا، فعليه إذن أن يوجد خلافة صحيحة أو يدَع. أقول هذا وأنا لهذه القوة ناصح أمين، ومؤيد لها في مكافحة أعداء المسلمين، وكنت أول مَن قاوم السعي لجعْل شريف مكة - الذي خرج على الدولة، ووالى أعداءها - خليفة للمسلمين، ونوَّهت بأعمال الكماليين، وفضَّلتهم عليه وعلى أولاده، ولكني لا أقول إلا ما أعتقد أنه الحق، ومنه أن الغازي مصطفى كمال باشا مخطئ فيما رمى إليه في خطبته من محاولة إثبات أن نظام الخلافة الشرعي غير صالح، ولا موافق لمصلحة الأمة، وأن سيدنا عمر علم بذلك، ومهد السبيل لنظام غيرها، بأمره بالشورى في انتخاب الخليفة بعده، ومخطئ في استدلاله على ذلك بعجز الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين عن إقامة تلك الخلافة، كما أخطأ في دعواه أن جمهور الصحابة جعلوا الخلافة تابعة لقوة العصبية الجنسية، ونتيجة هذا أنه مخطئ في حكمه المقصود بالذات من أن الحق أو الصواب ما فعله المتغلِّبون على الخلفاء الأولين من سلب سلطتهم، وجعْلهم آلهة للتبرُّك بلقبهم، وأن ذلك حجة لاقتداء الحكومة التركية الوطنية بهم، كل ذلك باطل واعتداء على الشرع نُفِّذَ بالقوة، ويمكن الآن أن ينفذ مثله بالقوة، ولكن لم يكن ذلك، ولن يكون هذا حقًّا، ولا خيرًا لمَن فعله، بل صدق على الجميع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإمارة، والحرص عليها بغير حقها، (نِعم المرضعة، وبِئست الفاطمة) رواه البخاري، وقد بيَّنَّا الحق في المسألة في مقالتنا التي نشرناها في هذا الجزء، وقد كتبنا إلى الغازي مصطفى كمال كتابًا، أشرنا فيه إلى الخطة المُثلى في إحياء مقام الخلافة، والانتفاع به، وذلك قبل وقوع هذا الحدث الأخير، الذي نرجو أن يصححوا خطأهم فيه بعد الصلح واستشارة علماء الإسلام الأعلام من جميع الأقطار. هذا، وإننا نتم السياق التاريخي - الذي بدأنا به - فنقول: التقرير الذي اعتُمِد وقرار الحكومة: ألقى الغازي مصطفى كمال باشا خطبته هذه في جلسة الجمعية الوطنية الكبرى التي عُقدت لإعلان إسقاط دولة آل عثمان، وحكومة الباب العالي بمناسبة برقيات الصدر الأعظم توفيق باشا، التي أرسلها إليه يطلب فيها إرسال مندوبين لمؤتمر الصلح يشتركون مع مندوبي الباب العالي، وأما التقريرات التي أشار إليها في الخطبة فقد اعتمد منها تقرير الدكتور رضا نور الموقَّع من ٦٨ نائبًا، وبُنِيَ عليه قرار الجمعية الآتي: وهذا نص التقرير: تقرير الدكتور رضا نور الموقع من ٦٨ نائبًا: (إن الدولة والأمة العثمانية قد نزلت بها أعظم المصائب من جهل السراي، والباب العالي، وإسرافهما منذ قرون، وقد كانت نتيجة ذلك أن تدهورت البلاد في مهاوي الانقراض. لكن الشعب التركي - المؤسس للإمبراطورية العثمانية، والمالك الحقيقي للبلاد - هَبَّ دفعة واحدة في الأناضول، ووقف في وجه أعدائه الخارجين، كما جاهد السراي والباب العالي اللذين اشتركا مع الأعداء في معاداته، وأسس الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة، كما ألَّف جيوشها، وحارب أعداءه الخارجين والسراي والباب العالي في أحرج الظروف؛ حتى وصل إلى يوم النجاة. أسس الشعب التركي قانون التشكيلات الأساسية؛ إذ رأى خيانة السراي والباب العالي، وأخذ السيادة من السلطان لنفسه بالمادة الأولى من ذلك القانون، كما أعطى الأمة جميع القوات التنفيذية والتشريعية بالمادة الثانية منه، وجمع كل الحقوق الملوكية في نفسه من إعلان حرب وعقد صلح وغير ذلك، بالمادة السابعة منه، فبناءً عليه قد انهدمت الإمبراطورية العثمانية القديمة منذ ذلك الحين، وتأسست مكانها دولة تركية وطنية، كما زال السلطان منذ ذلك اليوم، وتولى مكانه الشعب، فليس للهيئة الموجودة في الآستانة سناد شرعي غير أجنبي يمكنها أن تستند إليه، بل هي ظل زائل. أسست الأمة حكومة شعبية تحمي حقوق الشعب والفلاح، وتتكفَّل بسعادته مكان الحكومة الشخصية المؤسَّسة على تحكُّم جماعة النزق والترف؛ فلهذا نحار أشد حيرة؛ إذ نرى في الآستانة أولئك - الذين شاركوا العدو في معاداته للشعب التركي - لا ينفكُّون يتحدثون بحقوق الخلافة والسلطنة، وحقوق البيت الملكي، بل إنه يندر في التاريخ وجود وثيقة كبرقية توفيق باشا، من جهة غرابتها، ومخالفتها للواقع، وعليه فإننا نطلب اتخاذ القرارات الآتية: ١- قد انقرضت الإمبراطورية العثمانية مع مبدأ الأوتوقراطية. ٢- تأسست حكومة فَتِيَّة قوية وطنية باسم الدولة التركية مبنية على قواعد الحكومة الشعبية. ٣- الحكومة التركية الجديدة تقوم مقام الإمبراطورية العثمانية، وترثها - وحدها - في داخل حدودها الوطنية. ٤- حيث إن الأمة قد تولت السيادة بنفسها - بموجب قانون التشكيلات الأساسية - فالسلطة التي في الآستانة صارت إلى العدم، وانتقلت إلى التاريخ. ٥- ليس في الآستانة حكومة مشروعة، بل إن الآستانة - وما حولها - عائد للجمعية الوطنية الكبرى؛ ولهذا يجب تعيين الموظفين لها من قِبَل حكومة الجمعية الوطنية. ٦- الحكومة التركية تنقذ مقام الخلافة - الذي هو حقها المشروع - من أيدي الأجانب الذين وقعت الخلافة أسيرة في أيديهم ... ) . *** قرار الجمعية الوطنية وفي جلسة أول نوفمبر نشرت الجمعية الوطنية منشورًا وقرارًا باتفاق الآراء محصورًا في مادتين، هذه ترجمتهما: ١- إن الشعب التركي قد فوَّض للجمعية الوطنية الكبرى - التي تمثله تمثيلاً حقيقيًّا - جميع حقوق سيادته وحاكميَّته بمقتضى قانون التشكيلات الأساسية، بحيث تجتمع تلك السيادة والحاكمية في الشخصية المعنوية للجمعية - اجتماعًا لا يقبل تركًا، ولا تجزئة، ولا نقلاً إلى غيرها، كما فوض إليها استعمال تلك السيادة، وعدم الاعتراف بأي قوة أو هيئة لا تستند على الإدارة الوطنية؛ فلهذا لا يعترف بشكل أي حكومة في داخل حدود الميثاق الوطني إلا حكومة الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا، من أجل ذلك يعتبر الشعب التركي شكل الحكومة التي في الآستانة - والمستندة على السيادة الشخصية - منتقلة إلى التاريخ انتقالاً أبديًّا، ابتداءً من يوم ١٦ مارس سنة ١٩٢٠. ٢- الخلافة في آل عثمان، بحيث تنتخب الجمعية الوطنية الكبرى لها من آل ذلك البيت أرشدهم وأصلحهم علمًا وأخلاقًا، والدولة التركية سناد مقام الخلافة. ١ نوفمبر سنة ١٩٢٢. كلمة الدكتور رضا نور بك في الخلافة والسلطنة [١٨] لما وصل إلى الآستانة الدكتور رضا نور بك وزير الصحة والتعاون الاجتماعي في أنقرة، وأحد مندوبي الترك لمؤتمر لوزان في طريقه إلى أوربة - اجتمع به أحد الصحافيين، وسأله عن رأيه في الانقلاب الأخير، وعن نتائجه، فأجابه الدكتور بما نعربِّه هنا، وفيه القول الفصل؛ لأن الدكتور من زعماء هذه الحركة، وهو الذي قدم - بالاشتراك مع حسين عوني بك مبعوث أرضروم - تقريرًا إلى المجلس الكبير بفصل الخلافة عن السلطنة، فجرت المناقشة في مضمونه، ووافق عليه المجلس. قال الدكتور: (هذا هو التاريخ ماثل أمامنا، يحدثنا أنه كان في العصر العباسي خلفاء، ما تدخَّلوا في الشؤون الزمنية مطلقًا، ولا أكتمك أن الدول - التي يجمع خلفاؤها بين السلطتين الدينية والمدنية في أشخاصهم - تصير دائمًا إلى الفناء والانقراض [١٩] ، إذا فكرت في هذا الأمر - ضمن دائرة العلم والأصول الإدارية - يظهر لك أن القرار الذي أصدرناه بفصل الخلافة عن السلطنة منطبق على أحدث الأصول [٢٠] ، وسيقابل العالم المتمدِّن والعالم الإسلامي كله عملنا بالارتياح، وستظل الأمة والدولة التركية حامية لمقام الخلافة المُعَلَّى، وتتولى جيوش تركيا وحرابها الدفاع عنه. ولا يخفى أن الخلافة تكون دائمًا في الدول والأمم القوية القادرة على الدفاع عن بَيْضتها، وإعلاء كلمتها، فإذا ما استند الخليفة إلى حراب الترك يصبح ذا تأثير معنوي في العالمين الإسلامي والمدني) . المحرر: هل صدر قرار بفصل وكالة الشرعية - المشيخة الإسلامية - عن الوزارة، على أن تكون مرتبطة بمقام الخلافة أم لا؟ ، وهل يُنتظَر حدوث شيء مثل هذا؟ . الدكتور: لم يصدر شيء حتى الآن، وقد تُرك البحث في هذه الفروع مؤقتًا، على أن يُعاد إليها في فرصة ثانية، فيُفصل في أمرها. لقد أحدثنا انقلابًا تامًّا الآن، فهذا الانقلاب - الذي هو انقلاب الانقلابات - من أعظم الانقلابات التي عرفها التاريخ، فجاء عصريًّا تامًّا، ولم يبقَ لنا وقت نعالج فيه المسائل الثانوية. المحرر: ألا ترون أنه كان الأفضل تأجيل إصدار هذا القرار ريثما يُعقَد الصلح؟ . الدكتور: لقد وقع الانقلاب في الزمن الملائم، ولا يغرب عن البال أن هذا الأمر داخلي بحت لا علاقة له بالصلح الخارجي. ويلوح لي أن أهل الآستانة لم يدركوا تمامًا مزايا هذا الفصل، ولكنهم سيعلمون في المستقبل القريب أن فيه سعادة الإسلام وحياة تركيا. من الحقائق الثابتة أن الأمة التركية لا تعيش داخل إدارة امتزج فيها الدين بالدنيا [٢١] ، وليعلم أهل الآستانة أن الأمة التركية - ولا سيما قرويي الأناضول منها - لا يخضعون لسلطنة الأشخاص؛ فقد سئموا ذلك، ومَلّوه [٢٢] . اسمعوا خفقان قلب الأناضول، وأنصِتُوا إلى روحه التي تقول: إن الإنسان ليس متاعًا تجاريًّا يُقايَضُ عليه، وما هو بمملوك فيضحَّى لنيل الفخار وإرضاء الشهوات والمطامع، كنا نظن أن أهل الأناضول على شيء من الجهل والغباوة، ولكننا لما اضطررنا إلى التغلغل في أحشاء الأناضول، والتنقُّل في ربوعه، والاختلاط بأهله عن كثب - أدركنا أننا كنا على خطأ، وأن الأناضوليين يفكرون احسن منا، وينظرون إلى المسألة من أصلها. وبعد: فإنني أرجو أن أسألكم - بوجدانكم وعلمكم -: لماذا لا توافقون على الفصل بين الخلافة والسلطنة؟ ! ؛ فإننا لو رحنا نقلِّب صحف التاريخ العثماني لوجدنا أنه كان بين السلاطين مَن كانت له لحية مزخرفة يطلقها، ثم يحاول السير بين صفوف الأمة، وإجراء الحكم باسم الخلافة [٢٣] . المحرر: متى يكون انتخاب الخليفة؟ الدكتور: لا أعلم متى يكون ذلك، ومن المقرر أنه سيُختار الأرشد والأصلح من أبناء عثمان. المحرر: لا يخفى عليكم أن بين المسلمين دولاً وجماعات أُولي قوة وبأس، فإذا قامت إحدى هذه الدول غدًا، وقالت إنها ستختار الخليفة، فماذا نقول لها؟ ! الدكتور: يصعب جدًّا على هاتيك الجماعات الإسلامية انتزاع الخلافة من أيدينا؛ لأن الخلافة قائمة على القوة؛ ولأن فصلنا بين الخلافة والسلطنة موافق أيضا لأحكام الشرع الشريف [٢٤] ، وزِدْ على ذلك أننا لو نظرنا فيما له علاقة بالتاريخ الإسلامي من شؤون الخلافة - نجد أنه من الضروري لبقاء الخلافة في آل عثمان نيل موافقة العالم الإسلامي والهنود وسواهم من الأمم الإسلامية الأخرى على اتفاق في الرأي بهذا الأمر [٢٥] . ولما كانت الخلافة قائمة على القوة، وليس من المستطاع بقاء الخلافات الضعيفة فستظل الخلافة بأيدينا أبديًّا؛ لأننا نبذل دماءنا في سبيلها منذ عصور، والترك هم الذين أوصلوها إلى الهند والصين، وقاتلوا الأمم الأخرى دونها (؟ ؟) المحرر: مَنْ هو الأرشد والأصلح بين أبناء عثمان؟ الدكتور: يوجد على كل حال بينهم رجل يصلح للقيام بهذا الأمر. المحرر: ماذا سيكون لقراركم من التأثير في العالم الإسلامي؟ الدكتور: لا أظن أنه سيكون له أثر سيئ؛ فإن غايتنا - كما قلت آنفًا - هي سعادة المسلمين؛ ولأنه موافق لأحكام الشرع الشريف. المحرر: هل تفكرون في نشر بلاغ على العالم الإسلامي بما تم؟ الدكتور: لا أدري، ويجب أن تعلموا أن المسلمين كلهم متحدون معنا فكرًا، وقد ثبت ذلك في مواقف كثيرة، ولما قمت برحلتي الأخيرة في روسيا كان مسلموها يقولون لي: (إن الأناضول صار كعبة المسلمين) ! المحرر: هل حددتم أعمال الخليفة ووظائفه؟ الدكتور: لم يتم شيء من ذلك، ومن الممكن أن الخليفة سيقوم بالاشتراك مع وكيل الشرعية - شيخ الإسلام - بإدارة الأمور الدينية، على أنه بعيدًا عن ذلك فإن للخليفة في العالم أعمالاً كثيرة أخرى! المحرر: هل أبلغتم الخليفة الحالي شيئًا مما تم؟ الدكتور: لا أعرف! ، والذي أستطيع قوله هو أنه إذا لم يسأل مجلس أنقرة عما تم بشأنه فلا يبلغه المجلس شيئًا الآن اهـ. *** (المنار) لا شك في أن الدكتور رضا نور بك صاحب هذه التصريحات من أركان الجمعية الوطنية لحكومة أنقرة، وأن قراره التاريخي كان بترجيح رأيه، ورأي مَن سبق فأقنعهم به، ولكن حكمه على العالم الإسلامي عامةً - وعلى مسلمي الأناضول خاصةً - هو كأقواله في الشرع الإسلامي ليس مبنيًّا على شيء من العلم الصحيح. إن العالم الإسلامي يعطف على حكومة أنقرة في شيء واحد، وهو مقاومتها لسلطة الأجانب المعتدين عليها وعلى غيرها من الشعوب الإسلامية. وأما مسألة الخلافة وما قرروه بشأنها فمن المسلمين المصرح بالإنكار عليه والساكت المنتظر انجلاء الغمة، وما يكون بعد الصلح والمهنئ للخليفة الجديد المبايع له على أنه خليفة المسلمين وحاكمهم وصاحب السلطان عليهم، وإن سلب حكومة أنقرة لسلطته باطل؛ فهو غير نافذ شرعًا، ولم يشذ عن هذه الفرق إلا أفراد من المتفرنجين الذين يودون الانسلال من الحكومة الدينية، ومن كل ما هو من الدين، ولا قيمة لهم بين المسلمين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: ٨٨) . هذا، وإننا كنا قد رأينا برقية لشركة روتر فيما كان من الخلاف والمعارضة لتقرير هذا الدكتور في الجمعية الوطنية، ولا سيما مسألة الخلافة، فلم نحفل بها، ولكننا رأينا اليوم - ٢٩ ربيع الآخر - قبل طبع هذه الكراسة من المنار تفصيلاً لما كانت أثبتته تلك البرقية، نشرته جريدة الأهرام، فرجحنا نشره إتمامًا للوثائق التاريخية وهو: *** انفصال السلطنة عن الخلافة كيف وضعه مجلس أنقرة الوطني؟ ! حضرة الفاضل صاحب جريدة الأهرام ... نشرتم في جريدتكم مقالات مختلفة لأنصار فصل السلطنة عن الخلافة ولمعارضيها، فلا شأن لي في الزيادة على ما قيل؛ لأن فيه كفاية للمسلمين، ولكنني أريد أن أذكر في هذه الرسالة بعض ما اطَّلعت عليه عن الكيفية التي وُضع بها القرار، الذي قضى بفصل الخلافة عن السلطنة، مُستقيًا معلوماتي عن نشرتين، نَشر الأولى منهما لطفي فكري بك أحد المندوبين في المجلس الوطني الكبير، والمحامي الصحافي المعروف، ونشر الأخرى العالِم المشهور الشيخ بشير في نيكده، وهذه خلاصة ما ورد فيهما، أعرضه على طلاب الفائدة لمقارنته بما يعارضه، واستخراج حقيقة الواقع. وُضعت الفتوى بفصل السلطنة عن الخلافة بناءً على اقتراح قدمه الدكتور رضا نور بك - أحد مندوبي الترك في لوزان الآن - في ٣٠ أكتوبر الماضي إلى المجلس الوطني الكبير، ووقع عليه ستة وسبعون من زملائه، فجرى فيه بعض التعديل، وأُحيل إلى لجنة الأمور الشرعية في أول نوفمبر الماضي، وهذا المجلس عقد جلسة دامت ساعتين، وأسفرت عن وضْع قرار معارض له من جميع الوجوه. على أنه عندما طُرح الاقتراح على المجلس لقي معارضة شديدة، وكلما حاول أنصاره عَرْضه للتصويت - لإقراره بالأكثرية - كان المعارضون ينسحبون من الجلسة، فتعطَّل لعدم وجود العدد القانوني لإبداء الآراء، ولم يكن عدد الموجودين في المجلس يزيد على ٢٢ مبعوثًا، فأرسل الغازي مصطفي كمال باشا يستدعي أنصاره المتغيِّبين لأسباب مختلفة. ولكن المعارضة أخذت بالاشتداد، وكانت تتألف من حزبين قويين: أحدهما حزب الاتحاد والترقِّي، وعدد أعضائه خمسة وأربعون، والآخر حزب آخر تألف لهذه الغاية من أنصار قره واصف بك المشهور، وعدد أعضائه خمسة وتسعون. أما الاتحاديون فعارضوه؛ لأنهم وجدوا هذا الاقتراح فرصة سانحة للإيقاع بحزب الحكومة والحلول محله، وأما أنصار (قره واصف بك) فكانت معارضتهم مبنية على أسباب دينية وسياسية، لا محل لإيرادها هنا، فلما أعيا حزب الحكومة الأمر، ورأى أن المعارضين يكثر عددهم، وينسحبون كلما طُرح الاقتراح للتصويت، تصرف - كما تقول النشرتان المذكورتان آنفًا - تصرف حزب الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثان قبل الحرب، وذلك بأن طرح الاقتراع للتصويت، وطلب أن يبدي الموافقون آراءهم برفع الأيدي، فرفع الموافقون أيديهم، وقام ضجيج هائل في المجلس، إلى أن أعلن الرئيس أن الأكثرية قد حصلت! ، وأعلن انفضاض الجلسة، ولما عرف هذا الأمر استقال عبد الله عزمي بك وزير الشؤون الدينية، ولكن صدر إليه الأمر بأن يبقى في منصبه ريثما يتعين خلف له. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مُطالِع) (المنار) هذا التفصيل مؤيد لما ورد في بعض الأنباء الخاصة من أن الأكثرية في الجمعية العمومية كانوا معارضين للدكتور رضا نور زعيم الغلاة في هذه الفكرة التي يعتقدون أن وجوده في موسكو هو الذي قوى عزيمته عليها، ولولا أن الرئيس مصطفى كمال باشا أيده أخيرًا لرُفض اقتراحه نهائيًّا؛ وبهذا ظهر لنا سر ادعاء الرئيس في خطبته أن بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - حصلت بتأثير عمر الشخصي، لا برأي الأمة، وقد بينا غلطه - وإن شئت قلت مغالطته في هذا - في تعليقنا على الخطبة، ولكن لم يظهر لنا غرضه من هذه المغالطة إلا بعد وقوفنا على هذا الخبر. ونختم هذا الموضوع هنا بأن حكومة أنقرَهَ مؤيَّدة الآن بأعظم قوة عسكرية بلغتها طاقة البلاد، لها في عنقها مِنَّة الإنقاذ، فهي في حالة غير عادية، ولا يظهر شكل حكومة الشعب فيها كما هي إلا بعد إلقاء السلاح، وعوْد الجند إلى أعماله، وانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية انتخابًا سلميًّا اختياريًّا، وإلا بعد التروي والتشاور في مسألة الخلافة، ولا سيما مشاورة علماء الأقطار الإسلامية غير التركية فيها، وينبغي أن يُراعَى في هذا التشاور مَن يصلح له والله الموفق.