أول مَن نهض لنشر التعليم وتعميم التربية في مسلمي الهند هو الرجل العظيم (السيد أحمد خان) مؤسس مدرسة (دار العلوم الشرقية الكبرى) . نظر هذا الرجل المجدد في شؤون بلاده فرأى أن الوثنيين قد سبقوا المسلمين في العلوم والمعارف والعمل والكسب، وفي نتائجها من الثروة الواسعة والعزة الرافعة، وسائر ما أسأره (أبقأه) الإنكليز لأهل تلك البلاد من سلطة ومنفعة، رأى هذا كما يراه كثيرون من أهل البصيرة، ولكن أشعة بصره تخطَّت المعلولات إلى العلل، وانتقلت من العلل إلى كشف علاج الأمراض التي منت أفكار المسلمين بالسكون، وألسنتهم بالسكوت، وأيديهم بالشلل، وأرجلهم بالقزل، حتى باتوا بلا علم ولا عمل - نظر نظرة حكيم، فاهتدى إلى الصراط المستقيم، وما هو إلا تعميم التربية والتعليم. كم من عالم لا يعمل بعلمه، وكأيِّن من طبيب لا ينفع مريضًا بطبه،ولكن السيد أحمد خان علم فعمل، وطب لمن حب فنفع وأفاد، وهدى إلى سبيل الرشاد. كان زيت هذا الرجل في مشكاة نفسه الزكية صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فلما زار إنكلترا ورأى ما فيها من الجد والكد، مسته نار الغيرة، فاشتعل نورًا على نور، واعتزم من ذلك الحين على إنشاء مدرسة جامعة في وطنه تشابه إحدى المدرستين الكبيرتين في إنكلترا (كلية كامبردج) أو (كلية أكسفورد) فرجع إلى وطنه بلسان خاطب وسعي دائب، يذكر ويحذر وينذر ويبشر، فقابله قومه بالسخرية والاستخفاف، وكثر في شأنه اللغط والإرجاف، سنة الله في المصلحين مع المفسدين، وفي المحقين بين الواهمين، وفي العالمين لدى الجاهلين، وفي الأنبياء والمرسلين مع الأمم الكافرين، ولكن الرجل لم يثنِ عزيمته عن الإيضاح والإيجاف ما قوبل به من الاستخفاف، ولم يبالِ بعدم المساعدة والمؤازرة، فبدأ بالعمل على نفقة نفسه، فحمل ذلك بعض عشيرته الأقربين وأصحابه الصادقين، على أن يساعدوه ويعضدوه، فانتشر رأيه رويدًا رويدًا، كما هو الشأن في كل مشروع مفيد، وكان هو المبدأ لهذه النهضة الحاضرة في الهند، والمفيض لروح التربية والتعليم على جثمان مسلمي تلك الممالك. أسس مدرسته الشهيرة (دار العلوم الشرقية الكبرى) في مدينة (عليكره) من أنحاء الهند الشمالية الغربية في سنة ١٢٨٩ هـ ١٨٧٢ م، وفي سِنِيها الأولى لم يرد إليها إلا قليل من الطلبة، ولم يكن فيها إلا بعض الأساتذة الوطنيين، ولم يأتِ عليها بضع سنين حتى تحولت إلى مدرسة كلية جامعة، وتلامذتها اليوم يكادون يبلغون بضع مئين، وأحضر لها بعض الأساتذة والمعلمين من الأوروبيين، وقد تخرج منها شبان بارعون في جميع الفنون، وهم موضوع فخر البلاد الهندية، وموضع أملها ورجائها في تعميم التربية الفاضلة والتعليم الصحيح مع الاستغناء عن الأجانب. مات السيد أحمد خان من نحو ثلاثة أشهر، فكان لمصابه رنَّة أسف في تلك الديار، وطيَّر البرق نعيه إلى سائر الأقطار، ولقد أبَّنه بعض الفضلاء عند جدثه، فقال كلمة جليلة نقلتها الجرائد وحفظها التاريخ، كلمة كانت أبلغ نعت للفقيد، وأحسن تعريف له وهي قوله مشيرا إلى القبر: (هذا قبر أمتنا) ولعمري إن ذلك المفرد العَلَم هو الذي يصح أن يقال فيه (يا مفردًا هو في أثوابه أمم) لأن من أوجد الأمة وأحياها كان هو إياها. عظُم قدر الرجل في نفوس قومه بعد فقده، ولا يزال يعظم وينمو بنمو تعاليمه وانتشارها، ولا يعرف أقدار الرجال العظام في حياتهم إلا الأمم العالمة الراقية أعلى مراقي التمدن، كذا أفادنا التاريخ القديم والحديث. اتفق مسلمو الهند العارفون بقدر الرجل الذين قدروا الروح الذي أفاضه على الأمة بخطبه وسعيه حق قدره - على إنشاء مدرسة جامعة مشابهة لمدرسته تسمى باسمه، وتكون تذكارًا لحياته الطيبة واعترافًا بفضله، وتألفت جمعية لتنفيذ المشروع سميت: (جمعية أحباء المرحوم السيد أحمد خان) وقد بعث كاتب سر الجمعية (السكرتير) رقيمًا إلى جميع أعيان المسلمين وفضلائهم الدين يعرفون فضل الفقيد يدعوهم فيه إلى مد ساعد المساعدة للجمعية، افتتحه بالثناء الأوفى على فقيد الملة والوطن، مصرحًا فيه بمعنى قول الشاعر: هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل ثم قال: (ولكننا لا نرتاب في أن الحركة الفكرية والنهضة العلمية، اللتين أوجدهما المرحوم السيد أحمد خان لا يعتريهما سكون ولا سقوط ما لم يفاجئنا الدهر بحادث غير منتظر، ومن أعظم واجباتنا وأقدسها أن نعمل بكل ما في إمكاننا لإتمام مشروعاته الجليلة، والسير على منهاجه في أعماله) . ثم ذكر أن أول من اقترح هذا العمل المفيد هو السيد قطب أحمد خان، وأن مليون روبية (مائة ألف جنيه) تكفي لإنجازه، واستنهض همم الشبان الأذكياء لتأليف اللجان في جميع المدائن والقرى للحض على الاكتتاب، وخصص بالذكر الشبان الذين تخرجوا من مدرسة (عليكره) وحتم على جميع الجرائد الإسلامية موالاة الكتابة في الموضوع والتحضيض على الاكتتاب، وأوجب على رئيس الجمعية وكبار أعضائها المؤسسين التجوال في البلاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وصرح بأن على الجمعية أن تقبل قليل التبرع وكثيره، مع الشكر والامتنان، ليتمكن مجموع الأمة من الاشتراك في هذا المشروع الشريف. ولقد لبى الهنديون النداء بكل رغبة وحمية، فانبرت جرائدهم للكتابة، وفصحاؤهم للخطابة، وعامتهم وخاصتهم للإجابة، انتهازًا للفرصة، واغتنامًا للنهزة، فعسى أن يقتدي بهم المصريون وسائر العثمانيين، فيلتفتوا إلى هذا الأمر الذي هو كل أمر وهو (التربية والتعليم) والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم.