آخر رمضان سنة ١٣٣٩ الحقائق الجلية في المسألة العربية من مقال: للعبرة والتاريخ للسيد محمد رشيد رضا رحمه الله
نصيحتنا للإنكليز والفرنسيس ومذكرتنا للويد جورج: نصحنا للإنكليز قولاً وكتابة فيما نعتقد أن فيه الخير لنا ولهم وللإنسانية، وكان آخر تلك النصائح مذكرة أرسلناها إلى مستر لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية منذ سنتين كاملتين، بينَّا له فيها أن ما كنا نصحنا به لرجالهم بمصر قد ظهر صدقه، وأن ما جروا عليه مع حكومتهم في المسألة العربية مخالفًا له كان هو الخطأ بما وقع في العراق وسورية ومصر والهند، وأن إنجلترا ستكون هي المغبونة بقسمة تراث العالم الإسلامي بين الحلفاء بعداوة الشرق وحسد الغرب لها، وأن عداوة أكثر من ثلاثمائة مليون من المسلمين احتقارًا لهم بضعفهم ليس من العقل والحكمة؛ لأنهم لا يكونون أضعف من ميكروبات الأمراض والأوبئة، وأنهم سيكوِّنون به اتحادًا إسلاميًّا يساعدهم فيه الروس والألمان يكون خصمًا لهم في زمن هم مستهدفون فيه لعداوة أكثر شعوب أوربا، وأن الخير لأمتهم في تأسيس الصداقة بينها وبين العالم الإسلامي باستقلال الشعوب العربية (وفي مقدمتها الشعب المصري) والتركية والفارسية جميعًا. ونصحنا لرجال فرنسا في بيروت بمثل ذلك بعد أن ذكرنا لهم ملخصه، ولم نطلب منهم إلا استقلال سوريا، وربح صداقة الأمة العربية كلها بذلك، واتقاء ما يقع عليهم من الغبن بعداوتها، ومنه أن سوريا لا تسلم لهم في المستقبل، وقد قال لنا موسيو ربيردوكيه سكرتير الجنرال غورو إن هذا الرأي جيد، وهو من الممكنات دون الخيالات، ولكنه يحتاج إلى تمحيص وتفصيل بين عقلاء الفريقين بكثرة البحث، ولا سيما في طريقة تنفيذه في الحال الحاضرة. الشريف فيصل في عهده الأخير بسورية [١] : ونصحنا للشريف الأكبر كما تقدم - ثم لنجله الأمير فيصل - فأما الأول فله خلق مطبوع معروف، فسهل على مخاطبه أن يعلم ما يقبله ويجازي عليه، وما لا يمكن أن يقبله، وأما الثاني فقلما يُعرف له رأي مستقر أو يثق مختبره بأنه أقنعه بشيء، وإن كان غير المختبر له يظن أنه أقنعه بكل شيء؛ للين عريكته، ولطف معاشرته، وكثرة مواتاته، وقلة معارضته، وكراهته مواجهة أحد بما يكره إلا إذا غلبه الغضب، وهو سريع الفيئة بعد الغضب، وقد عاشرته زهاء نصف سنة كنت ألفاه في أكثر أيامها، ولم أقف له على عقيدة راسخة في السياسة إلا استحالة إخراج فرنسا وإنجلترا من البلاد العربية الآن، ووجوب العمل مع إحداهما وخدمة البلاد بمساعدتها في ظل وصايتها، والاستعانة بموادتها على تخفيف وطأتها، على أنه لا يصرح بهذا تصريحًا جليًّا، وهذه نظرية كل من واتوا الأجانب هذا الطور، الذي نحن فيه كحقي بك العظم وداود بك عمون، فلا أرى فرقًا بينهما وبين الأمير فيصل والأمير عبد الله، وإن كان أتباع الأميرين يعدون هذين من الخائنين لأمتهم ووطنهم والأميرين من المحررين لها، ولعلنا نكتب مقالاً في ترجمة الشريف فيصل وسيرته في سوريا يجعل حقيقته ماثلة لكل قارئ. جاء الأمير فيصل سوريا من فرنسا (في ٢٣ ربيع الآخر سنة ١٣٣٨) ، ١٤ يناير (سنة ١٩٢٠) وهو يعتقد أنه باتفاقه مع كليمنصو على قبول الوصاية الفرنسية مع تخفيف شروطها قد خدم سوريا أجل خدمة؛ ولكنه لم يستطع أن يقنع حزبه الخاص بذلك، وهو الذي عمل له كل شيء، وحاول أن يؤلف حزبًا من المحافظين يستعين به على ذلك، وكان ذلك حزب عبد الرحمن بك اليوسف الفرنسي النزعة، الذي سمي بالحزب الوطني؛ ولكنه لم يستطع مساعدته والاستعانة به بعد أن تعرف إليه وتنكر لحزبه، وظل سلطان الحزب الأول عليه أقوى من سلطانه على الحزب على ما أوقع فيه من الشقاق، فالحزب هو الذي منعه من العودة إلى أوربا، وحمله على قبول إعلان استقلال سوريا، وجعله ملكًا عليها، وأرضاه بجعل ملكها إرثًا في ذريته، وبجعل الراية الحجازية راية لسوريا، مع زيادة نجم أبيض في الزاوية الحمراء التي هي رمز علم شرفاء مكة فيها، وجعل القواعد التي بنى عليها المؤتمر السوري إعلان الاستقلال قائمة على أساس الاعتراف بأنه قد حارب الترك من قبل والده مع جيوش الحلفاء لأجل تحرير البلاد العربية وتحقيق استقلالها الذي كان ينشده أحرارها، وأرادوا أن يكون هذا حجة على الحلفاء؛ ولذلك عززوه بتصريحات وزراء الحلفاء التي كانوا يفوهون بها في أيام الحرب كما تقدم بيانه من قبل، وقد كان الواضعون لقرار المؤتمر من أعضاء حزب الاستقلال السوري قد عرفوا الحقائق في هذه الشئون؛ إذ زالت تلك الظلل والغواشي التي كانت تحجبها عن أبصارهم، ثم عرفوا كل أحد بعد رفض الحلفاء التصديق على الاستقلال وما كان من أعمالهم العسكرية والإدارية في سوريا الجنوبية والشمالية، يدل على ذلك ما كان يلقى في المؤتمر السوري العام بدمشق من الخطب في إنكار تلك الأعمال والطعن فيها، وما كان بين المؤتمر وبين الملك فيصل ووزارتيه مما علم به بعد. ولقد علم الذين قاموا بدعوة إعلان الاستقلال وتهيئة أسبابها ومقدماتها بعد ممارسة الحوادث أن فيصلاً قائد الحلفاء موكول إليه حفظ الأمن في المنطقة الشرقية إلى أن يفرغوا من إبرام ما يريدون من أمر مستقبل البلاد، وأنه قوة رسمية ومالية، فإن الإنكليز كانوا يدفعون له راتبًا، وكانوا يعطونه حصة المنطقة الشرقية من جمرك حيفا، وصار الفرنسيس يعطونه مثل ذلك من جمرك بيروت بعد الموادة، وقطعوه عند المحادة، وأنه يائس من الاستقلال التام الناجز وإن كان أولى من غيره بحبه، وأنه لين سلس، كان في أول العهد يسير في البلاد كما يشاء البريطانيون، ثم جاءها أخيرًا من فرنسا يدعو إلى الاتفاق مع الفرنسيس، فأرادوا أن يستفيدوا بما أوتي من قوة وضعف بما أرادوا من اغتنام فرصة الحرية التي نالتها المنطقة الشرقية باسمه وتحت قيادته بإعلان الاستقلال التام لسوريا المتحدة بجميع مناطقها؛ ليجعلوا الحلفاء تجاه أمر واقع بصفة مسالمة لهم، معترفة بفضلهم وملكية قائد من قواد حلفهم، فإن ساعد القدر على قبولهم ذلك فهو المراد وإلا فإن حال البلاد معهم بعده لا يخشى أن يكون شرًّا مما كان قبله، وذلك أنهم حينئذ ينفذون الاستعمار الذي سموه انتدابًا بالقوة العسكرية، فيكون وجودهم فيها مخالفًا للحقوق الطبيعية والأساسية ولمعاهدة الصلح الكبرى وما فيها من عهد عصبة الأمم المصرح فيه بأن البلاد المشروط في استقلالها قبول الانتداب يجب أن يكون لأهلها الحق الأول في اختيار الدول المنتدبة وشكل الحكومة التي ترضاه، وبهذا يكونون غاصبين، ويكون للبلاد الحق الذي لا يرد في معارضتهم عند كل فرصة ممكنة، وأما إذا قبل الانتداب باختياره فإنه يكون قد قتل نفسه بيده. مجمل ما كان بعد إعلان الاستقلال: أعلن الاستقلال بصفة نادرة المثال، وبلغ أمر إعلانه للدول فجعله الخلفاء محلًّا للنظر وكان جواب إنجلترا لفيصل أنها تعترف له بصفته حاكمًا على رأس حكومة مستقلة؛ لكن يجب أن تقرر الصفة الرسمية في مؤتمر رسمي، ودعته إلى حضور مؤتمر (سان ريمو) فتردد أولاً؛ لأن الرأي العام لم يرتح إلى سفره، وفي مقدمته المؤتمر السوري الذي كان يلح عليه بوجوب الاستعداد للدفاع عن البلاد وتؤيده جميع الأحزاب، ثم اقتنع الأكثرون باستحسان السفر بعد إلحاح إنجلترا به وقد طلب من الجنرال غورو في ٨ يوليو (تموز) تعيين سفينة تقله إلى أوربا، فأجابه بأنه يجب عليه قبل سفره أن يجيبه إلى مطالب طلبها منه، من أهمها: إباحة استعمال الخط الحديدي من رياق إلى حلب لنقل الجنود الفرنسية والذخائر الحربية، وأنذره أنه إذا سافر قبل تنفيذ هذه المطالب من طريق آخر فإن فرنسا تكون حرة في أعمالها، ولم يقبل تفويض النظر فيها إلى لجنة مختلطة من العرب والفرنسيس والإنجليز حسب الاتفاق مع الرئيس (كليمانصو) . إنذار الجنرال غورو للملك فيصل: ثم أرسل إليه الجنرال غورو في ١٤ يوليو إنذاره المعروف، الذي صرح فيه بمطالبه الخمسة، وهي: الاعتراف بالوصاية الفرنسية على سوريا بلا شرط ولا قيد، وتسليم الخط الحديدي المذكور آنفًا للسلطة العسكرية الفرنسية، وإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية وجعل عدد الجيش المتطوع كما كان في العام الماضي، وتسريح سائر الجنود ومعاقبة المجرمين المؤسسين للعصابات والمحرضين على فرنسا، وقبول ورق البنك السوري الذي أسسته فرنسا بجعله نقدًا وطنيًّا رسميًّا، وجعل آخر موعد لإجابة هذه المطالب نصف الليل الذي ينتهي به اليوم ١٨ من الشهر. لم يكن في وسع الملك فيصل المبادرة إلى إجابة المطالب؛ لأن المؤتمر السوري العام والأحزاب السياسية كلها كانت غير راضية منه ولا من حكومته لعدم قيامها معه بما يجب من الاستعداد لحفظ الاستقلال والدفاع عنه؛ ولذا اضطروه إلى إسقاط وزارة علي باشا الركابي، ثم رأوا أن وزارة هاشم بك الأناسي التي خلفتها لم تكن أقوى منها فحاولوا إسقاطها، ولما شعروا بهذا الإنذار الذي أعقبه الضعف والإهمال وسوء الإدارة اشتد هياجهم وسخطهم، وسرى الهياج إلى سائر طبقات الأهالي الذين اندفعوا إلى الاستعداد للدفاع عن البلد، وصاروا يطعنون في الملك فيصل جهرًا، ويتحدثون بالإيقاع به حتى أنه وضع من كان لديه من الجند الحجازي حول داره لحمايتها، وسعى إلى الجنرال غورو ملتمسًا منه تعديل مطالبه فأبى. وفي غرة ذي القعدة - ١٧ يوليو كتب إلي رئيس الوزارة بأن الملك يرغب أن ألقاه مع جميع أعضاء المؤتمر في داره مساء، فأجبنا الطلب وقابلناه مع وزرائه، فشرح لنا الحرج الذي وصلت إليه حال البلاد، وتهيج العوام بغير عقل، وخذلان إنجلترا له حتى لا يرجو منها أقل مساعدة، كما أبرق إليه محمد بك رستم من لندن، وأن للحكومة حججًا على الجنرال غورو لا تستطيع الإدلاء بها في أوربا، وله عليها حجج بعضها حق وبعضها باطل ينشرها حيث شاء. ثم طلب من الأعضاء أن يكتب إليه كل منهم برأيه على حدة في كتب مختومة، وعاهدهم على أنه يعمل بها ولا يُطلع أحدًا عليها، فانصرفوا وهو يحسب أن سيكتبون، ولكنهم لم يكتبوا إليه، وعدوا اقتراحه خداعًا يريد أن يحتج به على قبوله للمطالب الفرنسية، ويجعل التبعة على المؤتمر. ثم إن المؤتمر عقد في (٣ من ذي القعدة ١٩ يوليو - تموز) اجتماعًا سريًّا غير رسمي، تبارى فيه الخطباء في الطعن في الحكومة؛ لاعتقادهم أنها قررت التسليم بمطالب الجنرال غورو، ثم عقدوا جلسة رسمية اكتظ مكان المستمعين بحاضريها من الوجهاء ورؤساء الأحزاب وأعضائها، وقرروا فيها بالإجمال أن قرار المؤتمر التاريخي المتضمن لاستقلال سوريا ووحدتها ورفض الهجرة الصهيونية وملكية فيصل قرار واحد إذا نقض بعضه نقض كله، وأن كل حكومة تقبل الوصاية لا تكون حكومة شرعية، وأنه لا يعتد بمعاهدة لا يقبلها المؤتمر وقد طبع هذا القرار ونشر في العاصمة. وفي اليوم التالي (٤ من ذي القعدة ٢٠ يوليو) أصدر أمره بتأجيل عقد المؤتمر شهرين؛ لأن المجالس النيابية تقفل في مثل هذه الحال الحربية، وقد قرأ وزير الحربية الأمر على منبر المؤتمر، وكان معه رئيس الوزارة، وانصرفا واجمين ممتقعين. وكان بعض الأعضاء يريد عدم امتثال هذا الأمر فأقنعتهم بأن هذا خير للمؤتمر، وأني سررت به، ولولاه لاقترحت على الأعضاء أن يقرروا ذلك من تلقاء أنفسهم؛ ذلك بأن دمشق كانت في أشد الهياج والسخط على ملكها ووزارته؛ سواء في ذلك الأحزاب والجماعات والأفراد، وكلهم يرجون من المؤتمر ما لا قبل له به، وما ثم إلا إلزام الملك والوزارة برد إنذار الجنرال غورو والدفاع عن البلد إن هوجمت بغيًا وعدوانًا K، أو إسقاطهم وإقامة حاكم عسكري مفوض (دكتاتور) يدافع عن البلاد بكل الوسائل الممكنة، ولا يوجد في البلد من هو أهل لنوط ذلك به، والثورة الداخلية غير مأمونة، وكل ما يترتب على ذلك من الغوائل يكون حينئذ في عنق المؤتمر الذى لم يأت إثمًا، ولا ادخر في الخدمة وسعًا، وقد أصبحت الأمة كلها راضية عنه بعد أن كادت الدسائس تغيرها عليه، وإنني علمت أن التجنيد الإجباري الذي قررته الحكومة بضغط المؤتمر وإلحاحه قد كان عملاً سوريًّا، وأنها لم تقصد به إلا إيهام الأمة ما يرضيها وإيهام فرنسا ما يحملها على التساهل فيما تطلبه ويطلب منها! انفض المؤتمر، وكانت المراسلة بين الملك فيصل والجنرال غورو على قبول مواد إنذاره متصلة، فلما أصر على قبولها كلها أمر الملك قبل كل شيء بتسريح الجيش السوري من ثكناته ومواقعه الحربية، وأهمها مضيق مجدل عنجر الحصين في طريق جيش الجنرال غورو الزاحف على الشام، فسرح الجيش بغير نظام، فترتب على ذلك نهب الأسلحة والذخائر وإحداث ثورة في شوارع دمشق، وهاج الشعب هياجًا شديدًا، وكثر التصريح في الشوارع بالهتاف للمؤتمر، وبسب الملك فيصل وأبيه، والتحدث بخيانته ووجوب قتله، وقد اضطرت الحكومة بمن بقي عندها من الجند لحفظ الأمن أن تقاوم الثورة بالسلاح، حتى إنها استعملت المدافع الرشاشة في ذلك، وقتل كثيرون، قيل ٥٠، وقيل ٧٠، وجرح كثيرون، قيل ١٥٠. قبلت الحكومة برياسة الملك فيصل جميع مطالب الجنرال غورو، ومنها قبول الوصاية بلا شرط ولا قيد، فأصبحت بذلك ساقطة مع ملكها غير شرعية بقرار المؤتمر المذكور آنفًا، ثم إنها علمت في اليوم التالي لتسريحها الجيش (وهو ٢١ يوليو) أن جنود الجنرال غورو زاحفة على دمشق، وعلمت بعد المراجعة بين الملك وبينه أن حجته على الزحف أن جواب القبول تأخر عن موعده، وهو الساعة الثانية عشرة من نصف الليل، وكان قد أصدر أمره للجيش بالزحف، ولا يمكنه إيقافه بعد، وقد احتل المواقع الحصينة كمجدل عنجر، وهي تقول إنما كان الذي تأخر وصوله إليه هو ما طلبه من التفصيل لأمر التسليم بعد أن وصل إليه البلاغ الرسمي بقبول الشروط في عاليه، وأن سبب تأخر برقية التفصيل إقطاع السلك البرقي باستعمال الجيش الفرنسي له. عظم الخطب على فيصل ووزرائه لما رأوا أنهم سلموا بقبول الوصاية مع تلك الشروط المخزية؛ ليدفعوا الاحتلال عن دمشق، ويبقوا فيها متمتعين في ظل الوصاية وخدمتها بما كانوا عليه بعد أن قالوا في عدم إمكان قبولها ما قالوا من المبالغات ونبز فيصل من يقبلها بأقبح الألقاب، وعلموا أنهم خسروا كل شيء، وظهر لهم أن العقل والكياسة في التسليم أن يكون آخر ما ينفذ من الشروط تسريح الجند، فصدر الأمر لباقي الجيش بالتوقف عن الانسحاب، فوقف غربي (خان ميسلون) ووقف الجيش الفرنسي الزاحف وراءه على بعد مرمى القنابل منه، وجعلت هذه فرصة لاستئناف المفاوضة في إيقاف الزحف على دمشق، وتولى ذلك ساطع بك الحصري (وزير المعارف) فسافر إلى الجنرال غورو، فلم يلق نجاحًا. وفي يوم الخميس (٦ من ذي القعدة - ٢٠ يوليو) زار فيصل وزارة الحربية، وكلم جموع المتطوعة، وحثهم على الجهاد، وكلم جميع الزعماء ورؤساء الأحزاب، وبلغهم أنه أعلن الحرب رسميًّا، ونشر ذلك في الجرائد، وصلى الجمعة في يومها في الجامع الأموي، وصعد المنبر بعد الصلاة، وحث الناس على الجهاد معه لحماية الدين والوطن، فقال كثير من الناس: إنه يريد بهذا استعادة مكانته، وكان الناس في هياج عظيم وإقبال على التطوع، وبذل كل ما يلزم للمدافعين من طعام وذخيرة، ولكن الوقت لم يعد يتسع لعمل مفيد. ثم ذهب فيصل مساء الجمعة (إلى الهامة) وجعلها مركز قيادته، وبلغنا أنه أرسل أمتعته الخاصة وذخائره إلى (درعا) وأن الحكومة أرسلت أوراقها ودفاترها إليها أيضًا، ثم إنه ذهب في مساء السبت إلى محطة الكسوة بمن معه من وزرائه وخواصه، ومنهم بعض الشبان، وأرسل إليه طعام العشاء من دار عبد الرحمن بك اليوسف، وذلك بعد انتهاء معركة خان ميسلون التي قتل فيها وزير حربيته يوسف بك العظمة، وفرقت الطيارات شمل من كان معه من العسكر النظامي ويقال إنهم كانوا زهاء خمسمائة جندي، وعاد في المساء جميل بك الانشي حاجبه الأول، وكان ذهب مع موسيو كوس، الذي كان ضابط الارتباط الفرنسي في دمشق، وصار بعد الاحتلال رئيس البعثة الفرنسية للانتداب مدة من الزمن إلى الجنرال غورو للاتفاق معه باسم الملك على صفة دخول دمشق، وقد عاد معه في سيارته مبتهجًا مسرورًا. وفي صباح يوم الأحد (٩ من ذي القعدة - ٢٥ يوليو) رأيت نوري باشا السعيد فأخبرني أن الجيش الفرنسي يدخل الشام بين الساعة ٩ والدقيقة ١٠، ويعسكر في (المزة) من ضواحي البلد، وأن الملك يدخلها الساعة ١٠ ونصف، ولكنه لم يدخلها إلى منتصف ليلة الاثنين، وألف وزارة جديدة من الموالين أو الميالين إلى فرنسا، رئيسها علاء الدين بك الدوربي، وقد كانت عودته إلى دمشق من الغرائب. ورأيت نوري باشا في صباح الاثنين أيضًا فأخبرني بأن القائد الفرنسي قبل الوزارة الجديدة، وأنهم لا يعترفون بالملك، فقلت له: وكيف عدتم به إلى العاصمة؟ قال: لم يكن هذا برأيي، وإنما هو رأي جماعته الذين ورطوه، وفي مقدمتهم الدكتور فلان - وفي يوم الثلاثاء بلغته السلطة المحتلة وجوب الخروج من الشام قبل نصف الليل. بلغني ذلك بعد العشاء، فذهبت إلى داره لوداعه على ما كان وقع من الجفاء بيننا من قبل الإنذار الفرنسي، الذي لا علاقة له بالمودة الشخصية، فوجدت في الدار أفراد من الشرطة، بلغني أنهم حرس على أثاث الدار؛ لئلا يؤخذ شيء منها! ومكثت معه نصف ساعة أعجبني فيها صبره وأمله، وكان ذلك في الساعة الحادية عشرة ليلاً، وقد خرج بعد وداعي له بنصف ساعة، وحمله قطار خاص بمن معه إلى درعا. يوسف بك العظمة: ولا بد لي من كتابة كلمة في هذه الخلاصة التاريخية بشأن يوسف بك العظمة، الذي كنت معجبًا بما أوتي من الذكاء والنظام والهمة والنشاط والوطنية وحسن السلوك، منذ عرفته معتمدًا للحكومة العربية في بيروت إلى أن عين وزيرًا للحربية باقتراحي وسعيي مع بعض الإخوان: استبد يوسف بالعمل في وزارة الحربية، وكان يكتم أعماله حتى عن رئيس الوزارة، بل يعمي الأمر إلا على الملك فيما أظن، ولما اشتدت الأزمة سألته: هل هو مستعد للدفاع؟ قال: نعم! إذا وافق الملك، وإذا خالفناه نخشى أن يلجأ إلى الأجانب. ولما عين يس باشا الهاشمي قائدًا لموقع العاصمة عقب الإنذار، أظهر للوزارة ما فيها من النقص، أي على خلاف ما كان يقول، ثم إنه وافق الوزارة على قرار التسليم بما طلب غورو. بعد هذا كله رأيته في بيت الملك مع الوزراء فكلمته وحده كلامًا شديدًا، وذكرته ببعض كلامه، فقال ووجهه ممتقع كوجه الميت: إنني مذنب، وأتحمل تبعة عملي، وكدت البارحة أنتحر من الغم، فلا تزد علي. ولما خرج إلى الدفاع بمن بقي معه من بقايا جيشه تزين ولبس ملابسه الرسمية، ووطن نفسه على الموت، فكان شرفه الذي امتاز به أنه لم يقبل أن يعيش ذليلاً، بل أراد أن يكفر بدمه عن ذنب التقصير المبني على الثقة والغرور. كان فشل هذه المدافعة بخان ميسلون أمرًا جليًّا لا يجهله مثله ولا مثلي ممن لا يعلم من الحرب شيئًا؛ ولذلك رغب إليَّ الكثيرون أن أخطب في المتطوعين وفي بعض المساجد في الحث على الدفاع، فامتنعت، كما أبيت مرارًا أن أخطب في الاحتفالات السياسية، وقلت لبعض الخواص: إنني لا أغش أحدًا، ولا أستطيع أن أقول في هذا المقام ما أعتقد؛ لأنه يضر الآن ولا ينفع، وقد نصحت للعاملين في كل شيء في وقته، فلم يفد. على أن ما اندفعت إليه الأمة من أمر الدفاع شريف ولا بد منه. خلاصة آراء فيصل والأمة وغورو: وخلاصة الخلاصة أن فيصلاً كان يعتقد أن الوصاية على البلاد أمر مقضي، وأنه لا يمكن إيجاد قوة وطنية تحفظ الاستقلال، فكان لذلك يجتهد في إرضاء كل ذي مكانة وتأثير إلى أن يضع الحلفاء القرار الأخير الذي كان يرى أنه قادر على السعي إلى جعل وطأة الوصاية فيه خفيفة؛ ولذلك لم يهتم بأمر الاستعداد للدفاع بتنظيم قوى العشائر ولا بالجيش النظامي، ولم يكن يعتقد أنه يهاجَم هذه المهاجمة، فلما هوجم لم يجد بدًّا من الخضوع، فهو لم يستعد للقتال ولو دفاعًا، وما اضطر إليه من إيجاد جيش دفاعي جيش منظم بادر إلى تسريحه عند الحاجة إليه، وقد أعلن الحرب في الوقت الذي كان يفاوض في أمر التسليم، وهو لا يزال يرى أن رأيه كان هو الصواب، وأن كل ما خالفه خطأ، وأنه أخطأ بعدم الاستعداد لتنفيذ ما كان يراه بالقوة. وقد صرح بخطته وعمله مرارًا في أوربا، وبلغنا أنه يريد أن ينشر فيه كتابًا رسميًّا. وأما زعماء الأمة الذين خالفوه فقد بينا أنهم علموا بعد طور الاختبار أن الدولتين شرعتا في تنفيذ ما اتفقنا عليه من استعمار بلادهم، فالأولى أن تقاومهم الأمة بالحجة وبالدفاع عن نفسها إذا هاجموها بالقوة؛ ليكون مركزهم فيها مركز المغتصب، وقبول الانتداب يجعله شرعيًّا. وأما الجنرال غورو فكانت سياسته إخراج الشريف فيصل من سوريا مهما تكن حاله؛ لأنه ناصبهم، وأغرى العصابات والعشائر بهم، وصار له نفوذ في البلاد يمكن أن يكون خطرًا عليهم في كل وقت، ولا سيما إذا اشتد الخلاف بينهم وبين إنجلترا التي يعدونه من صنائعها المخلصين لها، فهو قد حارب الأمير فيصلاً، القائد الحجازي الذي يعده أجنبيًّا عن سوريا لإنقاذ سوريا من نفوذ دولة الحجاز، ولو باسم الانتداب والوصاية الفرنسية، وعد ما أخذه من السلاح والذخائر الحربية غنيمة حربية، وكل ذلك بين ظاهر في الأقوال والمكتوبات الرسمية. الطور الأخير للمسألة العربية: إن ما تفاقم على الدولة البريطانية من معضلات المشكلات المالية والسياسية والاستعمارية والاجتماعية وأعبائها دون حل عقدها أو عقدة منها قد اضطرها إلى ترك جزيرة العرب لأمرائها، مع اصطناع ما أمكن اصطناعه منهم، والتمهيد للتدخل الاقتصادي والفني بالتدريج، ثم الاستعانة بأوليائها - ملك الحجاز وأولاده - في سوريا وفلسطين والعراق، بعد الإعراض عنهم، وعدم المبالاة بصراخ جريدة القبلة بمكة بالاستعطاف والاستعانة والتذكير (بالعهود والوعود والنجابة والحسيات البريطانية) وعدَّ حليفها الملك الخروج عن مرضاتها مساويًا للردة والخروج من رحمة الله تعالى، وتمثله في ندائها بقول الشاعر: فإن كنتُ مأكولًا فكن أنت آكلي والغرض الأول من هذه السياسة والإدارة المؤقتة تخفيف النفقات عن كاهل دافعي الضرائب في بريطانيا العظمى إلى أن تنحل عقد المشكلات وتؤسس وسائل القوة في داخلية البلاد العربية بأقل ما يمكن من النفقة، والثاني دفع إغارة العرب من وراء الأردن على فلسطين، ومساعدتهم لأهلها على اليهود الصهيونيين، والثالث إخضاع العراق والاستعانة بحكومته الجديدة على مقاومة الترك وحلفائهم من مسلمي الشرق وبولشفيك الروس إذا أصروا على تنفيذ فكرة الجامعة الإسلامية ومقاومة الاستعمار الإنجليزي في البلاد العربية والعجمية. وبلغنا أنهم أعادوا الراتب الشهري لملك الحجاز بعد دعوة ولده فيصل الأخيرة إلى لندن، فجعلوه ١٨ ألف جنيه أو٢٠. عمل وزير المستعمرات بمصر وفلسطين: جاء مستر تشرشل وزير المستعمرات البريطانية مصر في شهر مارس الماضي، ونظر في مسألة حظائر الطيران فيها، وقابل فيها الوفد العراقي الإنجليزي، الذي استحضر لأجل الاتفاق معه على أمور العراق المالية والعسكرية، ثم سافر إلى فلسطين فآذن أهلها بدوام السلطة الإنجليزية على البلاد، وتنفيذها لوعد بلفور بجعلها وطنًا قوميًّا لليهود، وقابل الشريف عبد الله بن الحسين ملك الحجاز، وجعله حاكمًا لشرق الأردن بالتبع لحكومة فلسطين، واستمداد السلطة من معتمدها السامي، وأعطاه من القوة العسكرية والطيارات ما يمكنه من إخضاع كل من يشذ من عرب تلك البلاد عما يراد بها، وتأمين ما تنشئه السلطة البريطانية فيها من أسباب المواصلات ووسائل القوة، وأولهما محطة التلغراف اللاسلكي وحظيرة الطيارات، ويلي ذلك مد السكة الحديدية العسكرية من فلسطين إلى العراق، وقد قرروا إعطاءه حصة جمرك حيفا للداخلية، وهي ١٢٠ ألف جنيه في السنة. ختم المقال بالتفاؤل بالمآل: وأختم هذا المقال بقولي: إنني مؤمن يرى اليأس من روح الله والقنوط من رحمته كفرًا، وإنني لا يمنعني التشاؤم وسوء الظن في الطامعين من عمل ولا سعي، فأنا لا أزال أرجو إقناع الدولتين المقتسمتين لبلادنا الهاضمتين لحقوقنا بأن الخير لهما وللمدنية وللإنسانية أن يتركونا أحرارًا في بلادنا حاكمين في شعوبنا، وأن يساعدونا على ما نريد من عمران بلادنا بما نطلب المساعدة عليه، ويكتفوا منا بالمنافع الاقتصادية والأدبية. ومن سوء الحظ أن كان سعيي السابق مع غلاة المستعمرين منهم، وأرجو أن أوفق للسعي مع أحرار المنصفين منهم، وهم ولله الحمد كثيرون. وأود لو يعلم هؤلاء الأحرار حقيقة أمور الشرق من أحرار أهله، ولا يكتفوا ببلاغات السياسة الاستعمارية وما يختزله أهلها من أقوال مديري المخابرات لهم. أود لو يعلم أحرار فرنسا الكرام أن ملك الحجاز وأولاده لا يمثلون الأمة العربية، بل السواد الأعظم من العرب ومن مسلمي الأعاجم غير راضين عنهم، وأنه ليس من مصلحة فرنسا معاداة هذه الأمة في هذا البيت منها، ولا بجعلها خصمًا للترك، وأنه لا يمكن أن تنال دولتهم عطف العالم الإسلامي مع مقاومتها للعرب. وأود لو يعلم أحرار إنجلترا ومنصفوها المستقلون ذلك فلا يغتروا باستخدام مستعمريهم لأهل هذا البيت، ويظنوا أنهم هم الذين يخضعون لهم هذه الأمة ويرضونها باستعمار بريطانيا لبلادهم، على أن الأيام ستعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. وأود لو تعلم الشعوب العربية أن الانتداب الذي فهموا معناه لم يصر أمرًا مقضيًّا، وأن عصبة الأمم لن تكون ألعوبة بيد المستعمرين، وأن الرجاء في استقلالهم واستقلال أمثالهم وبناء قواعد الصلة بين الشرق والغرب على أساس العدل وتبادل المنافع من غير سيطرة ولا سيادة للمستعمرين على المستضعفين رجاء قوي يزيده العلم به والسعي إليه قوة، ولا بقاء للعمران بدونه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: ١٧) . وأود لو يعلم قادة الأمة العربية وكبراؤها أنهم لو جمعوا كلمتهم في هذه الفرصة لأسسوا لأنفسهم وحدة حلفية يحفظ بها استقلال كل منهم، ويعود به مجد الأمة العربية، وتحيا حضارتها الشريفة التي فاقت حضارة جميع الأمم بجمعها بين الرفاهة المقصودة من الحضارة وبين الفضيلة، ولكنهم أجابوا داعي شيطان التفريق وتعزيزه لهم بالمال والمآل: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء: ١٢٠) ولم يجيبوا داعي الوحدة وهو داعي الله تعالى، الذي يدعوهم باسم الله تعالى لما يحييهم، فهذا وقت الوحدة الداخلية أمام الدواهي الخارجية، لا وقت فضّ مشكلات حدود البلاد، ولا تحكيم العصبية الدينية والمذهبية، وليعتبروا بإخوانهم الترك، الذين قضت عليهم معاهدات الحرب بالزوال والمحق، كيف تحولت حالهم بجمع الكلمة والدفاع عن البيضة، إلى أن صار الحلفاء القاهرون لهم ولأحلافهم الذين كانوا أقوى وأعز منهم يعدونهم خطرًا عليهم، ويتسابقون إلى الاتفاق معهم أو التزلُّف إليهم، ولكن الترك قد وُجد فيهم الزعيم الذي جدد لهم الفخار، ولم يوجد في العرب إلا الزعيم الذي سهل عليهم الخزي والعار {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ} (الحشر: ٢) .