للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(سياسة إيطاليا بمطامعها في بلاد المسلمين)
دولة إيطاليا تحاول مجاراة الدول الاستعمارية، ولكنها تجهل الاستعمار فتسلك
إليه غير طرقه، وتأتيه من غير أبوابه. ومن المعروف المشهور أن لها طمعًا
قديمًا في ولاية طرابلس الغرب العثمانية، وقد علمنا في هذه السنة أن أطماعها قد
تعلقت بولاية اليمن، وأنها منذ زمن غير قريب تدس الدسائس إلى إمام الزيدية فيها
لتقوي عزيمته على محاربة الدولة العلية، وتتوهم أنها تدخل اليمن في ظلمات هذه
الفتنة، فلا يفطن لها أحد. وإن طمعها في اليمن لأدل على جهلها بطرق الاستعمار
من طمعها في طرابلس الغرب، لا لأن عرب اليمن أشجع وأمرن على الحرب من
عرب طرابلس، ولا لأن الزعيم الديني الذي في اليمن سياسي حربي بالفعل،
والزعيم الديني (وهو السنوسي) الذي في صحاري طرابلس ليس كذلك - بل
لأن اليمن والحجاز صنوان، فالدولة التي يستقر سلطانها وقوتها في اليمن تكون
خطرا متصلاً بالحجاز، فأول من يتألب عليها إذا كانت غير مسلمة عرب الجزيرة،
ويجب على جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض أن يكونوا عونًا لهم بكل ما
يستطيعون؛ فكأن دولة إيطاليا بطمعها في اليمن تهدد المسلمين بهدم الكعبة،
والقضاء على الإسلام في حرم الله تعالى وحرم رسوله (صلى الله عليه وسلم) .
ومع هذا ترى لبعض خدم هذه الدولة وسائل سياسية تضحك الثكلى؛ يراد
فيها غش المسلمين وإقناعهم بأن إيطاليا محبة للإسلام والمسلمين: منها تلك الهدية
التي أرسلتها إلى السنوسي، وما أمكن أن ترسل إليه إلا باسم رجل مسلم من
مستخدميها، ثم كتب إليه بعد ذلك بأن ملك إيطاليا دفع ثمنها لحبه الشديد في
الإسلام نفسه وفي المسلمين عامة، والسنوسي خاصة! ! ومنها ما ذكرناه في
بعض أجزاء منار هذه السنة من استخدام الشيخ عبد الرحمن عليش في بناء مسجد
وإيقافه ليُصَلَّى فيه على روح (أمبرتو الأول) ملك إيطاليا السابق؛ ليشيعوا
ذلك بين جهلة مسلمي طرابلس واليمن والصوال، والشيخ عليش يصفه بالإيمان
ليوهم الناس أنه كان مسلما! !
ومنها إنشاء مجلة بمصر نصفها عربي ونصفها طلياني، كتب عليها (عربية
تليانية إسلامية) ويدير أعمالها وسياستها رجل طلياني، ويكتب فيها من الخبط
والخلط في الدين والتصوف ما يبكي المسلم الصادق، ويضحك المارق والمنافق.
وأما الحب الذي يضعه مدير سياسة هذا الفخ حوله؛ ليجذب به إليه من يراه من
أغرار المسلمين الذين يشبهون الطير في غرارتها، فهو مدح الإسلام ودعوى إقناع
الأوربيين بفضله، وأي فضيحة على المسلمين أشنع من ثقتهم بأن بعض الأجانب
الذين يخدمون دولة طامعة في بلادهم، هو الذي يبين لأوربا وللمسلمين جميعًا حقيقة
الإسلام وفضله، وهو لا يعرف أحكامه ولا يستخدم إلا الجاهلين بها؟ ولماذا لم
يجعل هذه الخدمة للإسلام بلغات الدول التي يقول: إنها أعدي أعدائه كإنكلترا
وفرنسا، دون لغة أهله العربية ولغة محبيه - بزعمه - الإيطاليون؟
وقد وقع لبعض جرائد المسلمين تقريظ لهذه الصحيفة الخادعة، ولعله كان قبل
التأمل فيها والتفطن لما في أحشائها ومطاويها، فعسى أن لا تعود هي ولا غيرها
إلى ذلك.
***
(حزب الأمة)
انعقدت الجمعية العمومية لشركة (الجريدة) المصرية في ١٣ شعبان،
فخطب فيهم حسن باشا عبد الرازق (لاعتذار رئيس الجمعية محمود باشا
سليمان عن الحضور بسبب صحي) خطبة سياسية اجتماعية، جمعت بين الحكمة
والبلاغة، قد سمى فيها الجماعة المؤسسة للجريدة بحزب الأمة، وبين مقاصده في
ست جمل كلية، فوافق من حضر على ما قال بإجماع عقب مناقشة. وقد تلقى
العقلاء ظهور هذا الحزب بالقبول، وما زال الناس يدخلون فيه فرادى وثبات.
وفقه الله للخير وأيده بالثبات.
***
(رزء عظيم بعظيم من زعماء المسلمين)
روت الأهرام عن بعض الجرائد الإنكليزية أن الممالك الهندية قد أصيبت
بوفاة النواب محسن الملك الناظم الاعزازي لمدرسة العلوم الكلية في عليكره.
فوجلت منا القلوب لهذا النبأ العظيم والرزء الأليم الذي أصاب المسلمين
عامة في ذلك العقل الحكيم، والقلب الرحيم، والعلم الواسع، والتدبير النافع،
والقلم الكاتب، والرأي الصائب، وأصاب صاحب هذه المجلة بصديق صادق،
ومحب مخلص. وإنني أكتب هذه الكلمات لأحشرها في المجلة، وقد تمت
موادها بعد حذف شيء مما جمع منها، وإن لنا لعودة إلى الكلام عن هذا الرجل
العظيم.
وعسى أن يمن علينا الدكتور ضياء الدين أحمد بترجمة حافلة، له رحمه الله.
***
(الرد على فريد أفندي وجدي)
قد علم قراء المنار أننا ما تصدينا للرد على ما يكتبه محمد فريد أفندي وجدي
إلا لأنه يتكلم في أصول الدين وفروعه بغير علم (إلا ما يقتبسه من المجلات
والجرائد، وبعض الكتب العربية والفرنسية التي ينظر فيها عند الحاجة) وإنه لما
رأى ذلك فزع إلى جريدة اللواء، فأوسعنا فيها سبًّا وشتمًا وتهديدًا ووعيدًا، ومزج
ذلك بشيء من المغالطة، جعلها كالرد لما انتقدنا به كلامه في فلسفة التشريع.
ولكنه رأى أننا رددنا هذه المغالطة ردًّا محكمًا لا يقبل المراء، وأننا لم نبال
بتهديده ووعيده بأنه سيتتبع سقطات المنار، حتى لا يدعنا نرفع رأسًا! بل أظهرنا
له السرور بتصديه لنقد المنار (إن كان يقدر على ذلك) لأن النقد علينا ضالتنا
التي ننشدها دائمًا، فهددنا وتوعدنا في مجلته بأنه قد كتب إلى كثير من علماء
الدين يطلب منهم الرد علينا، وأنه سيطبع ما يرد عليه من ذلك متى كثر في
كتاب ويوزعه، كأنه موقن بأن سيجيبونه إلى ما طلب!! وجعل ذلك خاتمة لمقالة
في السب والشتم والدعوى والتبجح، استغرقت أربع ورقات؛ سماها الدرس الأول،
وقال: (وإني لن أزال ألقي عليه من هذه الدروس ما دام لم يعرف قدره، حتى
يفيق من هواه، ويفيء إلى أمر الله) !! ، ويعني بأمر الله - فيما يظهر - ترك
نصيحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإنما أمر الله بالتناصح والتواصي
بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بترك ذلك. وما رأيت أحدًا من
العقلاء اطلع على كلامه هذا، أو على مقالاته في اللواء، إلا وقال: إنه أهان بها
نفسه إهانة لا يستطيع أن يبلغها منه الأعداء، وإنها أشد عليه من نقد المنار لكلامه
وكأن بعض محبيه بيَّن له ذلك، ونصح له بأنه إذا لم يستطع مقابلة المنار إلا بمثل
هذه الدروس التي هي تبجح وإطراء لنفسه وإزراء بمناظره، فالسكوت أجدر به
وأحفظ لكرامته ولعله يسكت المنار عنه، فكتب إلينا ما يأتي:
مصر في ١٨ - ٩
سنة ١٩٠٧
إلى حضر الشيخ رشيد:
أرجوكم أن لا ترسلوا إليَّ المنار؛ مادمتم تسبوننا فيه، فقد عزمت أن لا أرد
عليكم، ولا يتم عزمي هذا إلا إذا ابتعدت عن كل ما يثير نفسي! ولو كنت أعلم
أن فيما تقولون ظلاًّ من الحق والصدق، لقرأته صاغرًا. ولكنكم اتخذتم اليوم خطة
أنتم أعلم بمصير السالكين فيها. وقد تكلفت كتابة هذا الخطاب إليكم إبقاء على
مجلتكم من الرد بالبوستة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فريد وجدي
فلينظر أهل الفهم والعقل إلى هذا الكلام، وليعجبوا من قوله - وكله مواضع
عجب - (ولو كنت أعلم أن فيما تقولونه) ... إلخ، فهل يستطيع أحد من خلق لله،
أن يحكم على قول يقال في المستقبل، بأنه ليس فيه ظل من الحق والصدق، إلا
إذا كان موقنًا بأنه يعلم الغيب، وأنه معصوم في كل ما يقول ويكتب؟
لقد كان مما قلته: إن موضوع علم الحديث: كل ما يتعلق بالنبي صلى الله
عليه وسلم من الأقوال والأفعال والصفات ... إلخ، وأنه مخطئ في جعله موضوعه
الأقوال فقط. ومنه تخطئته في قوله: إنه لم يصح عند البخاري إلا كذا حديثًا، إذ
نقلت عن البخاري نفسه أنه صح عنده أكثر من ذلك. فإذا كان أعلم بما صح عند
البخاري من البخاري والحفاظ الذين نقلوا عنه؛ لأنه يعلم الغيب مثلاً، فهل يأتي
ذلك في الحكاية عن الاصطلاحات؛ كموضوع علم الحديث الذي قال فيه عن
المحدثين ما هم مجمعون على خلافه؟ نعم، كان مما قلت: إنه غير صادق في قوله:
إن مشيخة الأزهر قررت كتابه (كنز العلوم واللغة) في الأزهر وملحقاته،
وإنما اشترت مكتبة الأزهر بعض النسخ منه. ثم تبيَّن لي أن أمين المكتبة الأزهرية
لم يشتر هو باستحسانه ولا بأمر شيخ الجامع شيئًا من الكتاب، وأن ما وجد في
المكتبة وظننت أنا أنها ابتاعته منه، فهو مما أرسله إليها ديوان الأوقاف، فإن
بعض أصحاب فريد أفندي سعى له في الديوان، فاشترى الديوان بعض النسخ
وأرسلها إلى مكتبة الأزهر وله العادة في ذلك. ووالله، إنه لم يظهر لي أن شيئًا مما
كتبته مخالف للحق ولو بوجه ما، إلا ذلك الظن بأن مكتبة الأزهر ابتاعت بعض
نسخ ذلك الكتاب ولكن ظهور الحق في ذلك أشد على فريد أفندي وجدي من
خفائه.