اختيار المرأة لِمَالِها: إن من يختار المرأة زوجًا له لحسنها وجمالها، يختارها لصفات فيها، وإنما كان مخطئًا لأنه عني بصفات الجسد التي يسرع إليها التغيير، ولا تكفي للقيام بحقوق الزوجية، وما تراد له الزوجة، ولم يحفل بصفات النفس الثابتة التي هي مناط السعادة والهناء، أو مَجْلَبَة التعاسة والشقاء، وأما من يختار المرأة لأنها ذات مال وثروة؛ فهو إنما يختارها لأمر خارج عن ذاتها؛ فهي غير مطلوبة له، ولا مرغوب له فيها؛ وإنما مطلوبه المال يتمتع به، وهي عنده وسيلة له؛ فإذا نزلت بالمال جائحة أو اغتالته غائلة؛ صارت المرأة عنده كالشيء اللقا لا قيمة لها؛ ولا حاجة إليها، وما عساها تصادفه مع وجود المال من الحظوة والكرامة؛ فأجدر به أن يكون مصانعة ورياء، وحسب الزوجين شقاء أن يرائي بعضهما بعضًا، ويدهن أحدهما للآخر. وهذا شأن من يطلب المال عفوًا بغير عمل لا يكون إلا مرائيًا مداهنًا. يعيش المنافق مع الناس الذين يدهن لهم في اضطراب دائم؛ لأنه يشعر في نفسه بأنه يعيش مع خصماء وأعداء؛ فإذا لم يكن له من يخلص هو لهم ويخلصون له كان شقاؤه دائمًا، واضطرابه مستمرًّا، ومن أحق بهذا الإخلاص من الزوجين اللذين خلقا ليسكن كل منهما إلى الآخر؛ ويلابسه في جميع شؤونه لباسًا يتحد به معه، حتى يكونا كشخص واحد؟! أرأيت إذا انعكس الأمر فكانت الزوجية التي هي علة السكون والارتياح ومبعث الحب والإخلاص وسبب المودة والرحمة -علة للاضطراب والانكماش، ومثارًا للرياء والدهان؟ أرأيت إذا صارت الغاية التي يقصد لأجلها الكسب، وسيلة للرزق وطريقة للربح، يلجأ إليها الكسالى المترفون، ويرغب فيها أهل الشره الطامعون؟ أرأيت إذا وصل الناس إلى الحد في فساد الفطرة والخروج عن محيط الشرعة؟ ! أيكون المال الذي يعبدون كافيًا لتحقيق سعادتهم، وحفظ شرف بيوتهم وأمتهم؟! كلا، إن هؤلاء لا حظ لهم في الحياة إلا التوغل في اللذات الجسدية، والزينة الظاهرة؛ فلا يبالي واحدهم بشرف البيت ولا بعزة الأمة، يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم. ويبسلون أمتهم بسوء مساعيهم، بل هم آلات التفريق والتحليل؛ لأن كل واحد منهم يهتم بلذة نفسه، ويجتهد في أن لا يتصل بغيره، وكيف يمكن أن يتحد بمجموع قومه من انكمشت نفسه دون الاتحاد بزوجه، على ما لاتحاد الزوجين من العلل والجواذب النفسية والطبيعية والشرعية والاجتماعية؟ يكثر طلب المرأة الغنية لهذا العهد في الطبقة المتعلمة على الطريقة العصرية فلا تكاد ترى بين شبان هذه الطبقة إلا الباحثين عن البنات الوارثات؛ أو اللواتي ينتظر أن يرثن مالاً كثيرًا، وأرضًا واسعة، ودورًا عامرة، ولا تكاد تسمع منهم عند ذكر الزواج إلا قولهم: (إنني أطلب فتاة تملك دارًا، وكذا فدانًا من الطين) وهذا دليل على أن التعليم الذي تعلموه ما كان إلا ضارًّا بهم، بما أفسد من فطرتهم، وياشقاء من تتزوج بواحد منهم، فإنما يكون حظها منه أن يستعين بمالها على التمتع بشهواته الفاسدة خارج بيتها، وويل لها إن سكتت موافقة، وألف ويل لها إن نطقت مخالفة. لو ذهبنا نعد مفاسد هؤلاء المخذولين في اختيارهم هذا وآثاره؛ خرج بنا القول عن حد المقالة المنبهة، ودخل في أبواب الكتب المطولة، وكفى بما ذكرناه منبهًا للغافل وسائقًا للنظر العقلي في ذلك وللبحث في حال هؤلاء الناس، وفيها عبر وآيات للمتفكرين. وقد يشتبه على بعض الباحثين ما يراه من الحب، وسكون النفس، والوفاق وحسن المعيشة بين زوجين اختار الرجل منهما المرأة لغناها، أو استحسان صورتها؛ فيظن أن ما قلناه غير صحيح، ونحن لا نجهل أن مثل هذا قد يقع فيكون على حد المثل (رمية من غير رام) والسبب في مثله أن يكون بين هذين الزوجين مشاكلة في الطباع، وتناسب في الأخلاق، وتقارب في العادات من حيث لا يدري بذلك أحد منهما قبل الاقتران. ولكن هذا قليل لا سيما في طلاب المال وعُبَّاده الذين يرضون أن تكون الزوجية وسيلة له؛ لأن من بلغ منه فساد الفطرة هذا المبلغ قلما يهنأ لأحد معه عيش كما قلنا آنفًا. الطريقة المثلى في الاختيار: يجب أن يُلاحظ في المرأة الصفات التي يُرجى أن يتحقق بها مضمون قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: ٢١) وقوله -عز وجل -: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان: ٧٤) ، وقوله - جل ثناؤه -: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: ٢٤) وهذه الصفات بعضها بدنية، وبعضها نفسية، وبعضها قومية، ومنها ما لا بد منه في كل امرأة، ومنها ما يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فيشترط عند بعض دون بعض. أما الصفات الجسدية: فمما لا خلاف في اشتراطه منها: الصحة، وسلامة البدن من التشويه والعاهات المنفرة، ولا حاجة لتعليل هذا الشرط ولا لبيان سوء حال الحياة الزوجية عند عدمه؛ فإنه من المعلوم بالبداهة أن النفس لا تسكن إلى ذوي العاهات والأدواء، بل تضطرب وتنزعج منهم، وأن المرأة المريضة لا تحصن الرجل؛ ولا تكون قرة عين له؛ بل تكون بلاء عليه، وأما ما تختلف فيه الأذواق فهو ما وراء ذلك مما يسمون الكمال فيه حسنًا بارعًا، وجمالاً رائعًا. والميل إلى الحسن والجمال غريزي في البشر؛ وهو مما تختلف فيه الأذواق والمشارب، (وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولا نعرف شعبًا من الناس يشترط رجاله الجمال البارع في الزوج؛ وإنما يعُدونه من الأوصاف الكمالية إلا من ذكرنا في النبذة الأولى من هذا المقال وهم الذواقون الذين يتزوجون ميلاً مع الهوى لا اتباعًا للمصلحة، ولا إقامة لسنة الفطرة. قد يكون من المصلحة للأكثرين تجنب الجمال البارع لمن يتزوج؛ لما ذكرنا من منافع الزواج وحكمه، ولكن يعذر من يمقت في المرأة صفة من الصفات؛ إذا لم يرض الاقتران بالمتصفة بها؛ كمن يمقت البحترة، أو البهصلة، أو الرسحاء، أو النقواء. وقد تكون هذه الأوصاف من المنفرات لبعض الناس، على أن لكل ساقطة لاقطة، وإنما يتخير الجمال البارع أو ما دون البارع من يكون موضعًا لتسابق رغبات النساء وأهليهن إليه؛ لمكانته وجاهه، أو لثروته وماله؛ فإن من طبيعة التفاضل أن يكون فيما تصل اليد إليه، ويسهل الاستيلاء عليه. وأما الصفات النفسية فهي الأخلاق، والملكات، والعلم، أو العلوم، فأما الأخلاق: فإنها علة لسعادة الحياة أو شقائها في جميع طبقات الناس على الجملة. وأفضل أخلاق النساء: (العفة والصيانة) لأن معنى الزوجية لا يتحقق بالاختصاص، وإنما تكون المرأة مختصة ببعلها إذا كانت عفيفة. ثم إن الحكمة في الزوجية هي: (الإنتاج والنسل) الذي يحفظ به النوع ويكثر به سواد الأمة وتعظم قوتها، واختلاف الرجال على امرأة واحدة من أسباب قلة النسل؛ فما هتك النساء حجاب العفة في أمة؛ إلا وقل نسلها بمقدار شيوع الفاحشة فيها، وناهيك بما في اختلاط الأنساب من المفاسد. لا يوجد عيب من العيوب في الخلقة أو في الأخلاق يذهب بهناء الزوجية وغبطتها، ويمحو آيات منافعها وحكمتها - كخيانة المرأة للرجل في نفسها، ويغنينا عن الإسهاب في بيان ذلك ما هو ثابت في الغرائز ومعروف بالاختبار. وقد مَنَّ الشاعر العربي على أولاده بِتَخَيُّر والدتهم من ذوات العفة، قال: فأول إحساني إليكم تخيري ... لماجدة الأعراق باد عفافها ومن غريب إكبار الرجال لعفة نسائهم أنك تجد الفاسقين من أشد الناس غَيرة؛ لأن علمهم بفساد النساء يزيد في حذرهم على نسائهم أن يكن كمن يعرفون من غيرهن؛ وهذا من أسباب قلة الزواج في البلاد التي يكثر فيها الزنا؛ لأن أكثر الرجال يخافون إن يبتلوا بمن لا عفة لهن. وأغرب منه ما اشتهر عن الفساق من محاولة بعضهم الاختصاص ببعض البغايا، يحب الرجل بَغِيًّا تُوهمه أن له عندها من الحظوة ما ليس لغيره؛ فيبذل لها المال الجم الكثير ليغنيها به عما تكسب من سواه، وتكون خاصة به دون من عَداه. ومتى كانت البغي ترعى العهد، وتصفي الود؟ ولكنه جنون الرجال بالاختصاص والغيرة؛ يخرج بهم عن محيط العقل والتجارب، وكم أدى ذلك إلى دماء تُسفك، وأرواح تُزهق. ومن الأخلاق التي لا يتم لأحد هناء العيش مع فقدها: (الأمانة والحرص والاقتصاد) فإذا لم تكن المرأة أمينة على ما يعهد إليها حفظه، حريصة على ما بين يديها من مال الرجل وكسبه، مقتصدة فيما تنفق - تسوء حال البيت ويقع فيه الشقاق ويحيط به الشقاء. وأما الصفات والملكات التي تختلف الرغبة فيها باختلاف الأشخاص والطبقات، فأهمها عند الطبقات المرتقية بالعلم والتربية: (النظام وتدبير شؤون البيت) وإذا كانت بيوت الشَّعْر في الصحاري، وشعاف الجبال، وأكواخ الفقراء وبيوت الفلاحين في المزارع والقرى، ليس فيها من الأثاث والرياش والماعون، ولا من المرافق والأعمال ما تعوز في إدارته وتدبيره ملكة النظام المكتسبة بالعلم والعادة والقدوة؛ فإن في دور الطبقات العالية والمتوسطة من المتعلمين وكذا غير المتعلمين ما لا يتم نظامه إلا إذا كانت ربة الدار مدربة على النظام والتدبير. نعم، إن غير المتعلمين لا يؤلمهم من فقد النظام في بيوتهم، ما يؤلم الذين عرفوا قيمة النظام وفوائده وتربوا عليه؛ أو حملهم العلم بفائدته على طلبه والاستقامة على طريقته. يبلغ حب النظام ببعض العارفين مبلغًا لا يهنأ له عيش؛ ما دام يرى في داره شيئًا من الخلل الذي لا يشعر غير العارفين بمعرفته بكونه خللاً يطلب إصلاحه ككون حجرة النوم قليلة الأثاث، تَعَرُّض فرشها وحشايا سريرها للشمس والهواء كل يوم، وككون كل من حجرة الجلوس، وحجرة الطعام، وحجرة المكتب وغيرهن على طريقة كذا وكذا. ومن المتعلمين من يرى من ضروريات الحياة أن تكون نفقات البيت كلها في يد ربته، وأن يكون العمل فيها بمقتضى ميزانية سنوية فإذا لم تكن امرأته قادرة على ذلك؛ فإن نفسه لا تسكن إليها، ولا تكون هي قُرة عين له. ولا تقل إن هذا يدخل في صفة العلم الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة؛ فإن العلم لا يكفي فيه، ولكنه شرط له؛ فما كل من يتعلم علمًا يقدر على العمل به، وإنما يقدر عليه من يقرن العلم بالعمل والمزاولة. كَثُرَ في الترك عدد الرجال الذين يريدون أن تكون المرأة قهرمانة وريحانة معًا وفي نسائهم - لاسيما في الآستانة - عدد غير قليل قد ربين على ما يحب الرجال. وجميع المتعلمين من النصارى، وكثير من المسلمين في سوريا ومصر على هذا الرأي أيضًا، ولكن عدد المسلمات المتعلمات المتربيات على هذه الطريقة قليل جدًّا في القطرين، ولذلك صار الزواج يقل في المتعلمين رويدًا، وإذا ارتقى التعليم والتهذيب عما هو عليه الآن في الرجال؛ فإن هذه القلة تزيد زيادة فاحشة، ولكن أكثر المتعلمين لم ترتقِ نفوسهم عن اتخاذ المرأة ريحانة يتمتع بها ما صلحت للتمتع؛ كالزهرة تشم ويعتنى بها ما دامت غضة ذكية؛ فإذا ذبلت أُلقيت. ولا رغبة لهم فيما وراء هذا إلا بأن تكون ذات مال يتمتع به الزوج كما يتمتع بصاحبته؛ فهي عندهم من جملة المتاع لا فرق بينها وبين ما يحصل معها إلى دار الزوج من الأثاث والماعون، إلا كما يفضل إناءٌ إناءً آخر من جنسه أو نوعه، ولو كثر عدد الفتيان المهذبين لتبعه كثرة الفتيات المهذبات؛ لأنه متى عرف واشتهر أن جماهير الشبان المحترمين لا يرغبون في غير المهذبة القادرة على إدارة المنزل، وإقامة النظام فيه؛ بادر الناس إلى تربية بناتهم على الطريقة المرغوب فيها؛ لأن الفتيات يطلبن الفتيان دائمًا بلسان الحال والاستعداد، فكل ما يشكو منه بعض الشبان المهذبين من سوء تربية البنات؛ سببه سوء تربية البنين في الجمهور. وإن لي كلمة قلتها ثم علمت أن للأوربيين كلمة تخالفها؛ فأذكرهما هنا. أما كلمتهم فهي: (كما يريد النساء يكون الرجال) وأما كلمتي فيه (كما يريد الرجال يكون النساء) والدليل على هذا أن النساء لا استقلال لهن في أنفسهن وإنما هن تبع للرجال عند جميع الأمم. يولد للزوجين غلام وجارية؛ فيربيان الغلام على أن يكون رجلاً مستقلاًّ ببيت كبيتهما، وعلى أن ينهض بكفالتهما عند الكبر أو العجز إذا كان فقيرين، ويربيان الجارية على أن تكون تابعة لرجل يتزوج بها فيعولها ويكفلها فيكتفيان أمرها. ينشأ في الغلام من أول سن الإدراك شعور الاستقلال بنفسه وحاجة غيره إليه، وينشأ في الجارية شعور القصور والحاجة إلى كفالة رجل غريب مجهول ستكون تابعة له. ومن التقاليد العامة في أمتنا وفي غيرها أن هَمَّ النساء الأكبر هو: أن يكن بحيث يحبهن الرجال ويرغبون فيهن؛ لأنهن في حاجة إلى كفالتهم ولا يسهل عليهن طلبهم إلا بلسان الاستعداد، وكونهن كما يحبون ويرغبون كما قلنا آنفًا، ثم إن الوالدين اللذين يربيان الغلام والجارية يعلمان أن تزويج الجارية أعسر عليهما من تزويج الغلام؛ من حيث إنه لا عار عليهما ولا عليه في التماس امرأة بالطلب والبحث؛ ولا ممن هم دونهم، وأنه من العار العظيم أن يبحثا عن زوج لبنتهما، ويعرضاها على الرجال، وإن كانوا من الأكفاء، وأشد من ذلك عارًا أن تبحث هي عن الزوج وتعرض نفسها على من تظن أنه يرضاها، وإن الشرف والمصلحة محصوران في تعريضها للخاطبين بتربيتها على ما يحب الأكْفاء ويرضون. نعم، إن الأوربيين قد حاولوا تربية النساء على الاستقلال وتعليمهن طرق الكسب وجعلوا للبنات رأيًا في اختيار الأزواج، ولكنهم لم يخرجوا عن جعل المرأة تابعة للرجل ولم يقدروا على جعل أكثر النساء مستقلات في معيشتهن، غنيات عن الرجال، بل هم الذين يربون بناتهم على ما يرغب فيه جمهور فتيانهم، ويَخْطبُون الزوج بالحال وبالمال جميعًا، ويشعرون من سعادة الحياة الزوجية بما لا يشعر بمثله من لم يبلغوا شأْوهم في الحياة الاجتماعية، وللجارية المخطوبة عندهم مقام رفيع، ولربة البيت مكانة عالية ولأم الأولاد المقام الأعلى، إنما قالوا كلمتهم تلك للترغيب في تعليم المرأة؛ إذ لا يقدر الرجال على إتقان التربية إلا بإسعاد النساء لهم عليها، ثم إن هذه التربية الاستقلالية قد أضرت بالنساء أنفسهن حتى كثرت أصوات الكاتبات منهن بالشكوى منهما، ونقلنا بعض ما كتب في المجلد الرابع فليراجع. *** الدين والأخلاق: ملاك تهذيب الأخلاق وقوام الملكات الدين؛ فلو رُبِّي البنات تربية دينية صحيحة لتم لهن تهذيب الأخلاق، وكن مصدرًا لمحاسن الأعمال، وقرة أعين للرجال، وقد عرفت الأمم الحية ذلك؛ فعنيت بتربية البنات على آداب الدين وأخلاقه وأعماله على فساد عقائد الكثيرين من علمائها وحكمائها؛ ذلك بأن هؤلاء الذين رأوا في دينهم ما لا ينطبق على علمهم القطعي فتركوا الدين للعلم يعتقدون أن الدين هو روح التهذيب والآداب في البشر، وأن هذا الروح هو الأصل في الحياة الزوجية والحياة القومية لاسيما في النساء والناشئين؛ فإذا هو زال تعذر الاستغناء عنه أو استبدال غيره به؛ كالشرف والعلم بالمصلحة. والذين جروا على هذه الطريقة من نصارى الشرق يتحامون الانتقاد على الدين في حضرة النساء، وإن كانوا لا يعتقدون ولا يؤمنون لئلا يتسرب الشك والارتياب إلى نفوس النساء، بل أخبرني بعض علمائهم وأدبائهم المشهورين أنهم يكونون في النادي أو السامر ينتقدون بعض رجال الدين منهم؛ فتدخل إحدى النساء فيحولون الحديث لكيلا تسمع انتقادهم فيقل احترام الدين من نفسها ويضعف الشعور به في قلبها. ولا تجد جزءاً من هذه العناية عند المسلمين الذين جهلوا الدين فأهملوه، بل ولا عند الذين سلم اعتقادهم وحسن عملهم. وكل ما عند النساء المسلمات من الدين فهو من تقليد الذين نشأن فيهم وتربين بينهم ليس للرجل فيه عناية ولا عمل، ويا ليت فساق قومنا وزَنَادِقَتهم يكتفون بإهمال تربية النساء على آداب الدين، وتعليمهن أحكامه، ولا يُظهرون لهن ما هم عليه من الفساد والإلحاد، فقد حدثني كثيرون من الثقات المختبرين أن كثيرًا من المسلمين (الجغرافيين) [*] يجتمعون مع عيالهم لطعام الغداء بعد الظهر في شهر رمضان، وأن منهم من يتزوج بالمرأة فيكرهها على شرب الخمر معه، وأخبرني شيخ من أهل القاهرة أن رجل تزوج ببنت من أقاربه - أي أقارب الشيخ- فدعاها إلى شرب الخمر معه فأبت ولما أعياه إلزامها طلقها. وأغرب من هذا ما يتحدثون به عن بعض أصحاب البيوت أو البيوتات من إشراك البنات مع الرجال في معاقرة الخمر، ومن إحضار أهل الرقص والعزف من الرجال والنساء إلى البيوت واجتماعهم في بعض الحجرات على المعاقرة والمخاصرة، والنساء يسمعن وينظرن من وراء السجوف والأستار. يظن الكثيرون من فساق البلاد المشرقية أن الدين في أوربا قد صار نسيًا منسيًّا، وأن ذلك لم يزد أممها إلا ارتقاء؛ لأنه أثر الارتقاء؛ وذلك أن هؤلاء لا تتوجه نفوسهم ولا يهديهم استعدادهم إلا لمعرفة أمثالهم، والصواب أن أكثر أهل أوربا متدينون، وإنما أبطلوا التقاليد النصرانية التي تنافي العمران والارتقاء؛ لأنها ليست إلا من وضع الرؤساء؛ وهم مع ذلك أشد الناس تعصبًا لدينهم، وعلى من يخالف دينهم، ولا ينافي ذلك كثرة الفسق في بلادهم لا سيما التي تغلب فيها الكاثوليكية كفرنسا وإيطاليا؛ فإن من الأسباب في ذلك المذهب -الذي يعد من أصوله-: أن القسوس والرؤساء يغفرون الذنوب، كما أن من أسبابه: الحرية الشخصية، وعدم النكير، وإباحة الخمر (أم الخبائث) ولقد يسهل على الفاسق أن يجد كثيرًا من الفاسقين والفاسقات في كل المدن العظيمة في الأرض، حتى ما كان فيها الفسق منكرًا وممنوعًا إظهاره لا يراه إلا الباحثون عنه ومن بحث عن شيء مما لا يخلو العمران منه وجده؛ فإذا هو قصر همه عليه، ظن أن كل النساء أو جلهم على مذهبه فيه. إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم أهل فرنسا أقل الأوربيين تمسكًا بالدين؛ لتطرفهم في الحرية والجمهورية التي يرون سلطة الكنيسة الكاثوليكية خطرًا عليها، ولذلك قاوموا جمعيات القسيسين ومدارسهم، وقد سألت فرنسيًّا عن تدين قومه، فقال: (أكثرنا متدين يحب الله ولكن لا نحب الكنسية) . إذا فرضنا أن تعميم التعليم والتربية على حب الوطن والآداب القومية قد يغني عن الدين في إصلاح حال البيوت والجمعيات؛ فأوربا هي التي يمكنها أن تستغني عنه بذلك ولكنها لم تقل بذلك ولم تُعمل به، ولا أدري بماذا يستغني المسلمون عن آدابهم الدينية التي أمسوا لا يبالون بها. هل الرابطة الوطنية التي يلفظ بها مصطفي كامل وأضرابه من الأَحْدَاث المتفرنجين كافية في هذه الأمة التي غلب عليها الجهل والأمية، ووقع معظم أوطانهم في قبضة الدول الأجنبية - لأن تصلح ما أفسد الزمان فيها من الآداب الشخصية والروابط الزوجية لتكوِّن منها أمة عزيزة قوية، وهل يكفي في نفخ روح هذه الحياة الوطنية أن ينعق ناعق في الأمة بمدحها، وإن لم يسمع نعاقه إلا قليل ولم يفهم مراده منهم إلا أقل القليل، وأكثر من فهم ومن لمن يفهم، يرى أن النفاق وسيلة للدرهم؟ ومن العجائب أن هؤلاء الأحداث المتفرنجين يهذون أحيانًا أو كثيرًا بالكلام في الأمة والملة، ويشكون بالقول من سوء الحال وخطر الاستقبال ثم لا ينتبهون لوجوب بث روح الدين في البيوت، وتربية النساء على أعماله وآدابه ليربوا الأطفال عليها، بل تراهم بسيرتهم عونًا للجهل على إفساد بقايا الدين التقليدية؛ إذ لا يتعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا يعملون بما هو معلوم منه بالضرورة، ولا يسألون عن دين من يخطبونها؛ وإنما يسألون: هل تعلمت لغة أجنبية؟ هل تعلمت العزف على البيانو والعود؟ هل عندها مال كثير يساعدنا على المصيف في أوربا والتمتع بلذاتها؟ ، وأعجب من هذه أنهم يدَّعون أحيانًا الانتصار للدين بذم أوربا وذكر طمعها في بلاد المسلمين، واعتدائها على استقلالهم وعلى دينهم بما تبعثه من الكتب والدعاة إلى النصرانية. ويزول هذا العجب إذا عرف سببه، وهو مخادعة المسلمين بإيهامهم خدمة الملة لينفحوهم بالدرهم والدينار، وأنَّى يخدم الملة من لا يفهم كتابها، ولا يعرف سنتها، ولا يتحقق بعقائدها ولا يقيم عباداتها، ولا يتخلق بأخلاقها، بل أخذ عن أوربا من الأخلاق والعادات ما يفرق به كلمتها، ويبطل به وحدتها، وينسخ به شِرعتها، ثم هو يشكو منها ومن آثارها في إفساد النابتة ومجموع الأمة! . وجملة القول: إن الحياة الزوجية في المسلمين لا يمكن أن تكون سعيدة في نفسها ووسيلة لارتقاء الأمة وتعزيزها إلا إذا كان الزوجان معتصمين بحبل الدين، مستمسكين بعروته في الأخلاق والآداب والأعمال؛ ليكونا قدوة لأولادهما في ذلك. وإن الخطر الذي يهدد المسلمين وينذرهم بزوال سلطتهم من الأرض لا يزول إلا بصلاح حال البيوت الأدبية على هذا الوجه. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا الترمذي عن أبي هريرة، ولكن مَنْ لنا مَنْ يُصلح لنا أخلاقنا، وآدابنا الدينية، وليس لنا زعماء ولا سراة من أهل الدين والحكمة. وإذا ظهر فينا زعيم فإننا لضعف استعدادنا لا ننتفع به، بل يُحَكِّم فيه جمهورنا كلام الأَحْداث المغرورين، الذين يضرهم ويفضحهم ما يدعو إليه من إحياء روح الدين!. ((يتبع بمقال تالٍ))