للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ثورة المرأة الإباحية
وخطرها على الأسرة فالأمة

لقد كان من فوضى الأقلام، وحرية الإباحة والإلحاد، أن تصدى للتحرير في
الصحف، وتصنيف الكتب والقصص، أفراد من المتفرنجين الإباحيين، انتحلوا
لأنفسهم دعوى التجديد وزعامة الحضارة فوجهوا دعوتهم إلى النساء والشباب،
لأنهما أسرع انخداعًا وأسلس قيادًا، وما زالوا يشوهون لهم كل قديم كانوا عليه،
ويزينون لهم كل جديد ضار يغرونهم به، ولا سيما حجاب النساء وعفافهن، ولزوم
بيوتهن، وطاعة رجالهن، وخدمة أولادهن، (ولكل جديد لذة) حتى هتكن
الحجاب، وألقين جلابيب الحياء، ونشز الأزواج على بعولتهن، وتمرد العذارى
على آبائهن، وخرجن في الشوارع والأسواق (كاسيات عاريات، مائلات مميلات)
كما ورد في الحديث الصحيح وصفًا لنساء سوف يأتين ممن سيدخلن النار، ثم
صارت الجمعيات النسوية يجمعن بين النساء والرجال في محافلهن الخاصة بهذه
الصفة للرقص المشترك وتعاطي كئوس الخمر.
ثم صار هؤلاء وهؤلاء يخرجن من البيوت إلى سواحل البحار بأُزُر الحمام
بتبخترن بالشوارع مَرِحات فرحات، مزوزكات مترنحات، حتى إذا التقين بالرجال
على الشاطئ خاصرنهم إلى حيث يسبحن معهم فنونًا من سباحة الإباحة، لم يبق
معها للدين ولا للشرق ولا للعفاف ولا الصيانة قيمة.
ثم كان من عاقبة هذا الاختلاط والامتزاج، أن قل الزواج، وتفاقم فشو الخنا،
واستشرى خداع الشبان للعذارى عن عفافهن بعد عِشْرة طويلة أو قصيرة بحيلة
اختبار الخطبة، وكثر تقتيل النساء، وتقاتل الرجال لأجل النساء، وتضاعف عدد
اللقطاء، اكتظت المحاكم الشرعية بقضايا الطلاق، وطلب فسخ عقد الزواج
وطفقت الصحف تنشر من فضائحها ما يُعَلِّمُ الجاهلين والجاهلات طرقها، ويُجَرِّئ
الفريقين منهم على طروقها، وانتهى الفساد في البيوت وخارج البيوت إلى دركة
كثرت منها شكوى الكتاب حتى المفسدين منهم.
وقد نشر في هذه الصيف المتولي أحد كبار الأدباء البارعين (ع. ع) [*]
مقالات بليغة في جريدة البلاغ الشهيرة عنوانها العام (مصر الشاعرة)
وصف فيها هذا الفساد وخطره على الأسرة فالوطن فالأمة وصفًا فلسفيًّا شعريًّا، كان
لها صدًى في جميع الجواء، حمل فيها حملات صادقة على الثائرات على الدين
والحياء والأدب والتقاليد، المتمردات على حقوق الزوجية الطاهرة المطهرة،
وصفات الأمومة المقدسة، شكت من لذعاتها امرأة شاعرة، فكتبت إليه تبوح
بشكواها، وتستعطف قلمه القاسي على بنات جنسها، وتحرضه بحق على الرجال
الذين هم المفسدون للنساء، فأجابها بجواب فصيح صريح، يمليه وجدان مسلم
شريف، قرأته فأبكاني فأحببت أن أنقله مع الكتاب لقراء المنار وأسجلهما فيه، وها
هما ذان:
الرجل والمرأة
(قال) حمل إليَّ البريد في الأسبوع الماضي هذا الكتاب.
سيدي الأستاذ المحترم:
إني أقرأ الرسائل القيمة التي تكتبها عن مصر الشاعرة بشوق وإعجاب؛ لأنها
تكشف عن صفحة عظيمة لمصر العزيزة، ولا يفوتني أن أنبه إلى قراءتها أبنائي
الناشئين وبناتي الناشئات لحسن أسلوبها وعلو مغزاها. ولكن يا سيدي دهشت كل
الدهشة حين قرأت مقالك الأخير فوجدتك فيه ثائرًا على المرأة ثورة شديدة عنيفة،
وفي هذا الحديث الطويل رأيتك تتكلم عن هذا المخلوق المسكين بروح تَنُمُّ عن
المقت والحقد والكراهة، فهل يدرك الأستاذ ما في هذه الكتابة بهذه الروح من
الخطر الشديد؟ وفرقٌ يا سيدي بين مَن ينصح ومَن يثور، والمرأة المصرية أولى
بالتشجيع وأحق بالإنصاف منكم يا معشر الكتاب، وهي لا تنكر عليكم أن ترشدوها
إلى مواطن الضعف ولكن بروح العدل والرفق، وأنا كامرأة مصرية في حاجة إلى
من ينصحني، ولست في حاجة إلى من يهينني، ولماذا يا سيدي تخشى على
الرجل الوقوع في شَرَك المرأة الخادعة، ولا تخشى على المرأة الوقوع في شَرَك
الرجل الخادع؟ إن الرجل يا سيدي هو ربان السفينة فهو مسئول أولاً وأخيرًا عن
كل ما يصيبها من عطب وما يصيب ركابها من خطر، فأما أن تكون القيادة له
واللوم على غيره فذلك ظلم وإجحاف.
وفي الختام أرجو ألا أكون تجاوزت الحد في خطاب الأستاذ الأديب الكبير
وتفضلوا بقبول فائق التحيات.
... ... ... ... ... ... ... ... ف. ك
والكاتب يشكر للسيدة الفاضلة عنايتها بمصر الشاعرة، ويسره أعظم السرور
أن يجد في العنصر النسوي إقبالاً على جانب من جوانب المجد الأدبي للوطن
الكريم.
أما ثورتي العنيفة يا سيدتي المهذبة فلم أعلنها إلا على المرأة الثائرة العنيفة،
والثورة عدل ونصفة، والعنف على العنف رفق ورحمة.
إن المرأة المصرية تسير الآن في صورة عصبية حادة، وفي يمينها السلاح
القاتل، وفي يسارها النار المحرقة، وتحت قدميها الهاوية السحيقة، وهي حين
تسقط يسقط معها الطفل، ويسقط معها الرجل، ويسقط معها الوطن، وهي لا
تسقط إلا مرة واحدة، ثم لا تعود إلى النهوض أبد الدهر.
نحن لا نتحدث يا سيدتي عن تحديد التبعة بين الرجل والمرأة، فكلاهما له
عقل يزجره إذا انحرف، ودين يهديه إذا ضل، وكلاهما على سواء في الجزاء
والمكافأة وفي الثناء والمذمة، ولكن الفرق البعيد بينهما في قوة الاحتمال عند
الصدع، وفي إمكان النهوض عند العثار، وفيما يلحق المجتمع الإنساني إذا سقط
من رض وانكسار.
فالرجل قد يكبو ثم ينهض، وقد يميل ثم يعتدل، وقد يأثم ثم يبر، وقد يجمح
ثم يتئد، ولكن إلى اليوم لم يخلق الله المرأة التي تسقط السقطة ثم تعود إلى ما كانت
عليه من خير وصلاح؛ لأنها تقاوم الإثم بضميرها المرهف، وحيائها القوي، وهو
يقاومه بعقله ومنطقه، وإذا انثلم الضمير انكسر، وإذا انهتك الحياء زال، أما العقل
والمنطق فقد يخطئان ثم يصيبان، وقد يغيبان ثم يحضران.
وهنالك الفرق البعيد في أثر الانحراف، فالرجل ينحرف وفي بيته المرأة
الصالحة تصون الأسرة وترعى البنين، والمرأة تنحرف فلا تصلح أن تكون زوجة
ولا تصلح أن تكون أمًّا، ولا تصلح أن تكون رباط أسرة، ولا تصلح أن تكون
قوام بيت، بل كل أولئك يكون مائلاً متداعيًا مصدوعًا، والأسرة هي العضو في
جسم الوطن، فإذا مزق العضو سرى الفساد منه إلى الجسم كله.
فنحن إذا صحنا هذه الصيحة الصارخة، وإذا ثُرْنَا هذه الثورة الصاخبة،
فلأننا نرى الجذام قد أخذ يدب إلى جوف الوطن، ويسير إلى قلبه، ولا بد من حسم
الداء قبل أن يستفحل، ولا بد من وقاية القلب قبل أن ينتهك ويفسد.
لا تعجبنك يا سيدتي هذه القيثارة الجوفاء التي يغني عليها شباب الكُتَّاب في
هذا البلد نشيد الإعجاب بالمرأة، والإغراء للمرأة، فإن من الطير ما يميل بإذنه إلى
الصوت العذب والإيقاع الحسن والنغم الجميل، فلا يزال يدنو منه حتى تأخذه
الحبائل، فلا يجد في الأرض مقعدًا ولا في السماء مصعدًا.
إن هذا الكاتب الذي تأخذين عليه كتابته الثائرة عن المرأة المصرية قد كتب
ثلاثة مجلدات في تاريخ المرأة، وهو فخور بأنه نشر الصفحة المطهرة لأعظم
امرأة في الوجود، وهي المرأة المسلمة في عصر عظمة الإسلام، فهو إذن لم يكتب
ما كتب عن حقد وموجدة، ولا عن مقت وكراهة، ولكنه كتب عن علم وبصيرة،
وعن حزن وإشفاق، وهو لا يزال منذ خمس عشرة سنة يبكي زوجته التي لم تدم
له أكثر من عام ونصف عام، ولا يزال يتخذ قبرها روضته، ويتخذ ذكرها سلوته،
إلى اليوم وبعد اليوم، فإذا رأيتني قسوت على المرأة فلأنني ضنين بها على
الحال التي حالت عليها، وعلى المآل الذي آلت إليه.
فقسا ليزدجروا ومن يك راحمًا ... فليقس أحيانا على من يرحم
إن المرأة يا سيدتي ثائرة في هذه الأيام على أنوثتها الكاملة، والأنوثة الكاملة
هي الفطرة التي فطر الله عليها المرأة وركَّب منها فضائلها ومزاياها التي يسمو إليها
الرجل، فهو مبعث الرحمة الشاملة، والوجدان اليقظ، والحياء القاني، والحنان
الفياض، وهي السبيل إلى الوفاء للبيت، والولاء للزوج، والفناء في الولد،
والإيثار للأسرة، والتضحية في سعادة الجميع، وهي سر القوة المعنوية، والنفوذ
الروحي، والسلطان النفسي للمرأة، وهي آية ما يجده الرجل من الراحة والسكون
حين يثوي إلى زوجته الصالحة، وهي التي يقول فيها البارئ الحكيم جل ذكره
وتعالت آيته: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ
بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: ٢١) فإذا تأثرت
هذه الأنوثة بالنقص والفساد، أو الميل والانحراف، انطفأ نور ضميرها، وذهب
خفر حيائها، واتضع سمو روحها، وانفصمت عروة قوتها، وانهتك ستر صيانتها،
وأصبحت متعة مبتذلة يشعر من تذوقها أنه محتاج إلى سواها.
وفي كثير من المواطن تكون آثار الرجولة الكاملة، فالأمومة في نظر الدين
الحنيف، وفي نظر العرف الرشيد أسمى وأفضل من الأبوة، وأسو الجراح، وجبر
العظام، وري العطاش، وتأسية المصاب، وإغاثة الملهوف، أبر وأطهر من
تفجير الدماء، وتمزيق الأشلاء وإثارة النار الشعواء، والداهية الدهياء، وهي في
أنوثتها الكاملة أوثق دينًا، وأنصع يقينًا، وأمتن إيمانًا، وأخلص إحسانًا من الرجل.
والإسلام في نشأته الأولى، وفي عظمته الرائعة، وفي قوته الصادعة، وفي
مجده الخالد، وفي فتحه العظيم، مدين لتلك القوة المعنوية التي استوحتها المرأة من
أنوثتها الكاملة، وإن أول صوت آمن بالنبي وشد عضده، وقوَّى عزمه، وآزره
على الخطوب، وأيده في مغالبة الدهر هو صوت امرأة، حتى إذا ماتت تلك المرأة
العظيمة بكاها الرسول الكريم بكاءه على حده القاطع وركنه الشديد.
فهل بقيت للمرأة تلك النفس الراضية المطمئنة، وتلك الروح الشفافة العالية،
وتلك القوة المعنوية القاهرة؟ ! لا يا سيدتي الفاضلة، لم يبق للمرأة من هذه الآيات
الثلاث آية واحدة.
كانوا يقولون: انتظروا حتى تسفر المرأة فهي محجوبة لا ترى النور ولا
تحس الحياة، وهي مكتوفة لا تملك الأمر ولا تقوى على العمل، وهي مستعبدة لا
ترفع الرأس ولا تدفع الهوان، فالآن قد سفرت المرأة عن وجهها ويديها، وعن
صدرها وذراعيها، وعن حيها ودارها، وعن ليلها ونهارها، وعن رغائبها
ومآربها، وأصبحت تملك أمرها كله، وحقها كله، فأين هي الآن من فطرة المرأة
وفكرة المرأة؟ أين أثرها الحسن الجميل في البيت والأسرة، وفي الزوج والولد،
وفي البر والرحمة، وفي الحنان والإحسان؟
لقد نالت المرأة الحرية، فكانت حريتها حرية النفس والعاطفة، لا حرية
العقل ولا حرارة الدم فاندفعت كما ينبثق الماء الكثير من الثقب الصغير، وأخذت
تنظر إلى البيت كما ينظر السجين الطليق إلى سجنه القديم، وسارت هي من
طريق والرجل من طريق والولد من طريق، وتهادت الفتاة في وضح النهار وفي
دلج الليل مع ابن العم وابن الخال على الحقيقة والمجاز، ومع من تدعوه الخطيب
أو القريب إلى مسارح السينما وأندية اللهو، وإلى حيث لا يعلم الأب والأم، وإلى
حيث لا ينظر الرقيب والحسيب! فهل هذا العبث من الحرية هو ما كان يطلبه
أنصار النور وأنصار السفور؟
لقد امتشقت المرأة سلاحًا من الجرأة وعدم المبالاة، وكان هذا الأسلوب
السخيف من حرية النفس والعاطفة جلاء لهذا السلاح القاتل المسموم، وسبيلاً إلى
هذا البلاء الشامل المحتوم، وكان هذا المزمار المشئوم الذي يحمله شباب الكتاب أو
المتشببون منهم وسيلة إلى ارتداد السلاح إلى صدر المرأة الضعيف، وإصابتها في
الصميم من قلبها الصغير.
اسمعي يا سيدتي وأرعيني سمعك فإني سأقص عليك قصة وقعت وكنت أحد
شهودها، ولو لم ترها عيناي، وتسمعها أذناي لما أمكن أن تخطر في بال، أو
تجول في خيال، وها قد مضى على ذلك الحادث اثنان وعشرون يومًا ولا والله ما
فارقني لحظة من الزمن ولا خطرة من التفكير.
كان ذلك في القناطر الخيرية، وكنت إذ ذاك مع ولديَّ الصغيرين، وكان كل
شيء في الوجود حسنًا جميلاً، وكان بي زهو الشريف العقيلي حين يدرج إلى
الروض، لولا أنني لم أحمل إليه الشراب لأني لا أحب الشراب.
ورأيت ولديَّ قد استخفتهما الطفولة وازدهاهما المنظر البديع فأخذا يسرحان
بين الظلال، وأخذت أكتب عن (مصر الشاعرة) وكان هذا الذي أكتبه هو المقال
الثالث في الشريف العقيلي، وكنت أرى لهذا الشريف حقًّا على ألا أكتب عنه إلا
بين الزهر والماء.
كتبت ثلاثة أسطر ثم رفعت رأسي فرأيت رجلاً حسن السمت، ممشوق القامة،
منسق الثياب، يصعد بأقصى سرعته درج مقصف الحديقة حيث كنت، ولم يكن
غيري هناك.
ونظرت إلى الرجل فإذا هو صديق يجمعني به عهد الطلب وصلة الأدب
فناديته، ولكنه كان في شغل عني بما هو فيه، فلم يسمعني ولم يرني، واكتفى بأن
أرسل إلى المقصف نظرة لهيفة لم تستغرق أكثر من ثانيتين، ثم عاد يثب إلى
الأرض وثبًا، ويجري ملء عنانه باحثًا بين رُبَى الحديقة وخمائلها، وبين ظلالها
ومناهلها ثم عاد إلى المقصف أسرع مما مضى، فلم أجد بدًّا من أهدئ لهفة صديقي
القديم، وإن ظن بي بعض الفضول.
هنالك اعترضت طريقه وقلت له: تعال يا فلان! ما هذا الذي أنت فيه؟
وأراد صديقي أن يطوي صدره على سره، وأن يطبق فاه على غليله، فهز رأسه
وقال: لا شيء. قلت: كلا بل هناك شيء خطير، وأنت هنا وحدك لا يعينك أحد،
وأنا أولى بك من أي رجل سواي، قال: إذن فدع مكانك وأقبل معي، قلت: أنا
معك وأومأت إلى ولدي فأقبلا، ثم قال لي وأنا أسير معه على غير هدًى: لقد
حدثني في التليفون من أثق به أنه رأى زوجتي في مقصف محطة القاهرة مع رجل
لا يعرفه، وعرف من حديثهما أنهما ينتظران القطار الذاهب إلى القناطر، وأصغى
صاحبي إليها فوجدهما يتكلمان عن صلة مجرمة وحب أثيم. هناك اتخذت سيارة
من قلب القاهرة فأخذت تطوي الأرض حتى بلغت هذا المكان، قلت: وما لك لا
تفترض الكذب والوقيعة في حديث محدثك، قال: كلا إن محدثي من أقرب الناس
إليَّ، وأعطفهم عليَّ، وأحبهم إلى نفسي، ولا غاية له في الكذب، ولا مأرب له
في الوقيعة، قلت: إن القطار الذي أشار إليه لم يأت بعد وهنا خرج صاحبي عن
حيرته وتنفس الصعداء، وقال: هلم بنا إلى المحطة واتخذنا السيارة إلى المحطة،
وأوينا إلى ركن من مقصفها، وما يزال على وصول القطار عشر دقائق.
ومرت هذه الدقائق كأنها حين من الدهر، وكنت أشعر أننا قادمان على حدث
عظيم، وأخذت أحادث صاحبي حديثا متقطعًا لأشغله عما هو فيه من رجفة وذهول،
فيعطيني عينه وأذنه، ويصرف عني قلبه وإدراكه.
وأقبل القطار ثم وقفت فقلت لصديقي: اسكن ولا تضطرب وإلا أفلت الأمر
منك، وكاد المسكين يُجَنُّ حين رأى زوجته وهي تسير بجانب رجل ينطق كل
شيء فيه بحقارته وبذاذته ووخامة ظله وتبطله، وإنه ممن يعيشون على حساب
النساء، وأراد الصديق أن يثب ليعترض الطريق فقلت له: رويدك، ونظرت إلى
المرأة فرأيتها تسير بجانب الرجل الأجنبي بغير حذر أو مبالاة، وهي تكلمه في
صفو لا يشوبه كدر، وسرنا وراءهما حتى ركبا إحدى المركبات اليدوية فلم يجد
الصديق المسكين بُدًّا من اعتراض المركبة.
ونظرت المرأة إلى زوجها! فهل تحسبها صعقت الصعقة القاتلة! هل
اضطرب قلبها، وماد جسمها، واختلفت قدماها فسقطت بغير حراك؟ ! هل ذهبت
إلى القطار فألقت بنفسها تحت عجلاته؟ ! هل أغرقها العرق وأدركتها الذلة
فتوارت عن عيون الناس؟ ! هكذا كنا نتصور لو ألفنا رواية خيالية عن سقطة
المرأة وخيانة الزوجة، ولكن لم يكن وربك شيء من هذا! بل إنها نظرت إلى
عشيقها الصعلوك وقالت له ها هو! تعال نر من معه من النساء! وقالت لزوجها:
أنا جئت به ليشهد عليك، فقد قالوا لي: إنك مع امرأة لا بد أن أعرف أين هي؟
ولا بد أن أذهب بها وبك إلى البوليس! ! وتكاثر الناس على موقف المرأة التي
تقوم بدور تمثيلي لا تحسنه أية ممثلة في مصر وغير مصر. ولم يجد صاحبي بدًّا
من العودة إلى القطار، وكان قد بقي على قيامه خمس دقائق، ولم تتركه المرأة
حتى تبعته وصاحبها الصعلوك يقول لها بمرأى ومسمع من الناس: تعالي يا شيخة!
سيبك منه! ! وهي تقول: لا لا بد أن أذهب فأخلص منه. واجتمع الزوجان في
ديوان من الدرجة الأولى حيث يركب الزوج، وجلست مع ولديَّ في ديوان بجانبهما،
وركب صاحبها في مركبة الدرجة الثانية حيث قطعت هي التذكرة.
وأشفقت على صاحبي من هذا الموقف فوقفت في ردهة العربة وكانت المرأة
الفاضحة المفضوحة لا تزال تصيح وتصخب وهي طورًا تقول: أرني أين
صاحبتك أين خبأتها! وتارة تقول مشيت معه! فليكن! سأمشي كل يوم مع واحد!
سأمشي مع من أشاء أنا لا أحبك! أنا أكرهك! أنت شريكي؟ ! ولم يزد الرجل
الكريم الشريف على أن فصلها بالطلاق، وأشفقت عليه من هذا الموقف المر
فاجتذبته، وانتقلت به إلى حيث أقيم وأصيب المسكين برعاف نازق تفجر منه دمه
حتى جرى على أرض العربة، ورغم عنايتي به لم ينقطع النزيف حتى انتهينا إلى
محطة القاهرة فأسعف بالعلاج.
ولهذه المرأة بنون وبنات ولها مع زوجها أعوام وأعوام، وبينما الدم ينزف
من الرجل والخطر يحيط به كان يتكلم في غيظ محرق وفي بكاء مر عما بذله لهذه
المرأة من ود وإخلاص، وعما قدمه لها من بر ومعروف.
أرأيتك يا سيدتي الفاضلة المهذبة كيف يكون جموح المرأة إذا اندفعت، وكيف
يكون استهتارها إذا انكشفت؟ وكيف تكون سقطتها إذا انطفأ نور الضمير، وارتفع
عنها ستر الحياء؟ !
أكانت تصلح هذه المرأة لو خفي أمرها عن زوجها أن تكون زوجة، وأن
تكون أمًّا، وأن تكون عماد بيت ورباط أسرة؟
لقد قصصت هذه الفاجعة على صديقي ضابط مكتب الآداب، وكنت أظنها
منقطعة النظير فابتسم وقال: وكم في البلد من فجائع وكم فيها من أقاصيص! وأخذ
يحدثني عن أشباه تلك الفاجعة وعما هو أشد هولاً وأدل على عدم المبالاة منها، ولا
أريد أن أقص عليك بعض ما قص عليَّ، ففي أيسره ما يجف من ذكره القلم
واللسان، وكله يدل على أننا نترامى في هاوية مظلمة الطريق سحيقة القرار.
أتعرفين يا سيدتي كم عدد المواليد الأبرياء الذين قتلوا يوم ولدوا، ومنهم من
ذبح بمدية كما يذبح الجمل الصغير، ومنهم من ضغط على عنقه بيد قاتلة جبارة
فاختنق، ومنهم من ترك حبله السري فتسمم دمه، ومنهم من بقر بطنه وألقي في
صناديق القمامة، ومنهم من قذف به في بئر معطلة أو ساقية مهجورة، ومنهم من
وُئِدَ حيًّا في التراب، ومنهم من ترك بين المقابر فأكلته الكلاب؟ !
مائتان وخمسة وأربعون ضحية ضُحِّيَ بها في خلال عام واحد بمدينة القاهرة
وحدها فذهبت تشكو إلى بارئها ظلم الأبوة السافلة الفاسدة والأمومة السفاحة الجاحدة.
مائتان وخمسة وأربعون ضحية ترى الموت الأحمر يوم تتنسم الحياة، وتساق
إلى العدم يوم تساق إلى الوجود، وما أسلفت من ذنب، وما اقترفت من جريرة،
وما أساءت إلى إنسان، فبأي ذنب قتلت هذه الضحايا البريئة؟ ولأي سبب قتلت؟
أليس ذلك نتيجة اندفاع الفتاة من غير رقيب أو حسيب!
وما يدرينا لعل من لم تصل إليه الأيدي، ومن لم تهتد إليه العيون من تلك
الضحايا أضعاف من كشفته المصادفات. ومن أعجب العجب أن هذه الحوادث كلها
إلا ثلاثًا منها قيدت ضد مجهول، فأين هو هذا المجهول، ومن هو هذا المجهول؟
وتأبى شرطة المدينة إلا أن تنام ملء أعينها حتى يأتي هذا المجهول فيقول: اذهبوا
بي إلى النار فقد مزقتُ جسدًا طاهرًا وأزهقتُ روحًا بريئة.
يقولون: وكم من مثل هذا في أوربا! وهكذا يقدر للأمم المغلوبة على أنفسها
أن تأخذ غثاء البحر ولا تغوص على أصدافه، وكم في أوربا من جد وهزل، وقوة
وضعف، وسمو وانحطاط، فما لنا لا نتكئ إلا على الجانب الأخَسِّ من جانبيها؟
ما لنا ننظر من أوربا جانب الانخلاع والابتذال، ولا ننظر منها جانب الجهد القاهر
والعمل الجبار؟ في أوربا مرض قاتل يساور جسمًا قويًّا فهو يغالبه ويقاومه حتى
يقضي الله أمره فيه. وهاهم (أولاء) أولو الرأي وعلماء الاجتماع الأوربيون
يقولون: إن أوربا تنتحر في هذا السبيل الذي نحن فيه، وها هو (ذا) زعيم أوربا
موسوليني يسد سبيل الغواية، ويدرأ سبل الفساد، ويأخذ النساء بالقصد والاحتشام
أخذًا لا رفق فيه ولا هوادة.
في المرأة المصرية الآن عجز ظاهر عن الزوجية الصالحة والأمومة الصالحة،
وهذه الأمومة الصالحة هي المرتبة الثانية بعد الرسالة والنبوة، وإذا أخلصت لها
المرأة أنشأت الأمة التي لا يصرعها غالب، وابتنت الوطن الذي لا تصدعه حادثة،
ولا تكاد اليوم تجد رجلاً يحمد مغبة الزواج، ولا طفلاً يدل على حسن أثر الأم،
ووزارة المعارف المصرية تعين المرأة المصرية على هذا العجز وتدفعها إلى هذا
العبث، فهي تعلم الفتاة في كل مراتب التعليم كما تعلم الفتى، وتربيها على الغرار
الذي تربيه عليه. وهكذا تلبس المرأة لبوس الرجل فلا تصلح أن تكون رجلاً ولا
امرأة. وكان من أخطر عواقب هذه المأساة أن أعلن الفتيات المتخرجات في
الجامعة المصرية تمردهن على الحياة النسوية فآثرن العمل خارج المنزل على
العمل داخله، وبذلك فررن من الميدان الذي هيأهن الله له، وانخلعن عن المملكة
التي توجهن الله فيها، وانسلخن عن الفطرة التي فطرهن الله عليها.
إن الوطن لا يزيد شيئاً إذا ضمت إليه كاتبة في وزارة أو مُدرسة في مَدرسة،
أو معيدة في كلية أو محامية في محكمة، ولكنه يزيد زيادة صالحة إذا أضيفت إليه
أم صالحة مثقفة تعرف للأمومة حقها من العمل الصالح الجليل.
لا سبيل إلى رياضة المرأة وإصلاح أمرها إلا بأن يكون الدين أساس التربية
النسوية في المنزل والمدرسة، فهو وحده الذي يعصمها من السوء، ويصرفها عن
الزلل، وهي بما لها من رقة العاطفة ويقظة السريرة، وانتباه الضمير، ودقة
الوجدان تتصور عظمة الله، وتستشعر حبه وخشيته أشد مما يتصور الرجل
ويستشعر.
الدين وحده هو الذي يروض المرأة على الصبر والاحتمال، وعلى الصدق
والإخلاص، وعلى الأمانة والوفاء، وعلى الزوجية الصالحة والأمومة السعيدة،
وذلك ما عرفته المدارس الأوربية فيما عرفته من قواعد إصلاح المرأة فما لنا لا
نعرفه وما لنا لا نأخذ به؟
أيها المصريون: إن النار تشيع في أحشاء الوطن، وتوشك أن تحرق ما أبقاه
الضنى من قلبه، وإن أمر المرأة هو مقتل هذا البلد، وإن مسألة المرأة هي الأولى
والأخيرة وهي الحياة والموت، هذه كلمتي أيتها السيدة الفاضلة، ولعل فيها مقنعًا
لك.
وتفضلي بقبول تحيتي وإجلالي
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ع