للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

استفتاء في عمل يانصيب لإحياء مسلمي جاوه بالمدارس
(س٣٥) من الفاضل الغيور صاحب الإمضاء في سربايا (جاوه)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن هداه.
حضرة الأستاذ الكبير العلامة المدقق مفتي الآفاق وناصر السنة، السيد محمد رشيد
رضا المحترم، دام ذخرًا للمسلمين، ونورًا للمدلجين، وملجأ للسائلين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن خمسين مليونًا من إخواننا
المسلمين في جاوة وجزائر المضيق سائرون في ظلمات الجهل لا مدرسة واحدة لهم
راقية ولا معلمين عندهم أكفاء، ولا دروس منتجة كما علمتم ذلك وأكثر منه مما
حملت إليكم من هنا الصحف والأخبار، وكم فاه الخطباء وكتبت الجرائد في حثهم
على فتح المدارس وتعميم دور العلم وتنظيم سير التعليم؟ ولكن ذهبت تلك
الصيحات كصرخات في واد، والمستعمرون اغتنموا هذه الفرصة ففرقوا بينهم،
ونصروا كثيرًا منهم، وسهَّلوا إدخال أولادهم في مدارسهم المنظمة الجذابة! فماذا
ننتظر؟ إن المدارس طبعًا لا تقوم إلا بالمال والمال عندنا بأيدي جهال لا يعرفون
قدر العلم ولا يريدون أن يعرفوا، ينفقون المبالغ الكبيرة في أمور خسيسة أو ضارة
ولا يريدون أن ينفقوا في مدارسهم التي بها حياة أولادهم وأمتهم شيئًا.
فبقيت مدارسنا عشرات السنين كما هي في تأخرها وفوضويتها واختلالها
وخلوها من الوسائل التي تنهض بها، وهي على قلة عددها مختلفة المشارب متباينة
الأنظمة، ضئيلة الجدوى لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لأنها لا تتجاوز حدود
الابتدائية، وأكثرها لا تتعدى درجة الأولية.
هذا والأمم الأجنبية المجاورة لنا كالإفرنج والصين، بل الجاويين الذين
كانوا يتعلمون في مدارس الحكومة لهم ما يسد حاجتهم من المدارس فترقت عقلياتهم،
وتهذبت أخلاقهم، واستطاعوا أن يفكروا في شئونهم الاقتصادية والسياسية
والاجتماعية والصحية وغيرها، وأنشؤوا جمعيات راقية، وأصدروا صحفًا متنوعة
كثيرة، وفتحوا دكاكين تجارية كبيرة، وأقاموا شركات مختلفة نافعة، وعلى الأقل
يستطيعون أن يتوظفوا.
وأما المسلم وبالخصوص العربي هنا، فأبواب الأعمال أمامه مسدودة حتى
الوظائف، فلا حيلة له إلا أن يشتغل سائقًا أو تاجرًا بسيطًا يشاكس صاحبه، فليس
لدى المسلمين ولا سيما العرب في هذه البلاد جمعيات نافعة، ولا مدارس منتجة،
ولا صحف منظمة، ولا تجارات كبيرة، ولا شركات مطلقًا ولا قدر ولا حرمة في
القلوب، وأما أخلاقهم فلا حاجة إلى أن أذكر لكم أنها سافلة جدًّا بفضل الجهل أيضًا!!
هكذا سيدي بلغت الحالة بإخوانكم المسلمين بجاوة! ! وما أوصلهم إلى ذلك
كله إلا الجهل، ونحن كما قلنا لكم آيسون من مساعدة أغنيائنا؛ لأنهم مع الأسف
جهال لا يعرفون قدر العلم ولا يدركون آثاره ونتائجه، والمرء عدو ما جهل فلا
نترقب أقل التفات أو مساعدة منهم ولا من إخواننا مسلمي مصر أو الشام أو الهند أو
غيرها؛ لأن كلا منهم مشغول بما يخص بلاده، ولا ريب أنهم سمعوا ويسمعون أن
في جاوة والجزائر حولها هذا المبلغ الهائل من المسلمين تحت خطر الجهل
والنصرانية، ومع هذا لم تتحرك جمعية من الأقطار الإسلامية ولا معهد من المعاهد
الدينية ولا إنسان واحد لإنقاذهم من هذا الشر المحدق.
فإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز لنا في نظر الشريعة السمحة أن نعمل
يانصيب أو نشتريه لتشييد المدارس وجلب المعلمين، ولكم جزيل الثواب والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفهم
(جواب المنار)
إن شعبا هبط هذا الدرك الأسفل من الجهل وفساد العقائد والأخلاق لا يمكن
أن ينقذه ويرفعه ما تصوره المستفهم المستخفي من جمع مال بقمار اليانصيب لتنشأ
به مدارس عامة للتعليم بدرجاته الثلاث: من ذا الذي يجمع هذا المال؟ ومن ذا
الذي يتولى تلك الأعمال؟ ومن ذا الذي يضع النظام والمناهج للمدارس التي يحيا
بها الشعب بعد موت، ويعز بعد ذل، ويغنى بعد فقر؟ إن إصلاحًا كهذا لا ينهض
به إلا رجال من كبار العقول والهمم والعزائم وأولي العلم والغيرة والإخلاص، فهل
وجد هؤلاء الرجال في جاوه؟ وتمهدت لهم الوسائل للتعليم المنقذ من الثقة بهم،
والمعلمين الكفاة لديهم، ومن محاولة جمع المال من الطرق المشروعة كالصدقات
والتبرعات والوقف الخيري، فلم تف بالحاجة ولم يبق في وجوههم إلا وسيلة
(اليانصيب) ؟ على وعورة طريقه وتوقف شراء أوراقه على ثقة المشترين بالبائعين
بالرجاء في نجاحهم؟ ما أظن أن شيئًا من هذا واقع.
إن جمعية الشبان المسلمين في مصر طبعت ألوفًا من أوراق اليانصيب لجمع
مال تنشئ به دارًا لها، ووجدت من الحكومة المصرية ميلاً لمساعدتها بإعطائها
أرضًا في مكان من أحسن أحياء القاهرة عمرانًا وبالسماح لها بتوزيع أوراقها في
المدارس ومعاهد الحكومة وأرسلت من أوراقها هذه عددًا كثيرًا إلى الأرياف وإلى
الهند أيضًا، وبعد التجربة الطويلة اضطرت إلى الإعلان في الصحف بأنه لم
يجتمع عندها المال الكافي لربح (النمرة) الأولى وأنها مستعدة لإعادة كل ما جمعته
من المال للذين يعيدون إليها الأوراق التي اشتروها.
إن شعبًا كبيرًا لا يمكن أن ينهض ويجدد حياته بجمع المال بهذه الطريقة
العوجاء، والسير عليها بالأرجل العرجاء، مع ضعف الأسباب لنجاح مثله فيها،
وإنما هذه طريقة دولية قلما تثمر ثمرًا كافيًا إلا بكفالة دولية أو ما يقرب منها من
الجمعيات الغنية القوية، وهي محرمة في شريعة الإسلام، ولن تنهض هذه الأمة
بارتكاب ما حرم الله عليها، والحالة التي وصفتموها ليست من الضرورات التي
تبيح المحظورات وهي كما وصفنا.
وأحيلكم على ما أوصيت به بعض الشبان الإندونيسيين بوصية حفظها في
كناشة، ونشرتها في الجزء الثامن من المنار، ولعلكم قرأتم خبر مشروع القرش
الذي نجح في مصر في العام الماضي، وتفكروا في القيام بمثله عندكم، وأدام الله
توفيقكم.
***
أسئلة من بيروت
(س٣٦: ٣٨) لصاحب الإمضاء
(بسم الله الرحمن الرحيم)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل
السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع إلى فضيلتكم ما يأتي
راجيًا التكرم بالإجابة عليه على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع به عامًّا
ولكم الشكر.
(١) هل يجوز قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة مضبوطة، وتعليمه
لتلاميذ وتلميذات المدارس أو غيرهم بغير أحكام التجويد مطلقًا أم لا؟
(٢) ما السبب في عدم احترام الدين الإسلامي ودروسه وأحكامه وضعفه
في نفوس تلاميذ وتلميذات المدارس الإسلامية سواء أكانت أميرية أو أهلية؟ وهل
يجب على رؤساء المدارس أن يهتموا بهذا الأمر أم لا؟
(٣) هل هذا الحديث الآتي صحيح معتمد غير منسوخ يجوز العمل به أم لا
وما معناه؟ وهو (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)
تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللادقي
(الأجوبة)
٣٦- تجويد القرآن بالفعل دون تعلم الفن:
الواجب في قراءة القرآن أن يقرأ قراءة صحيحة بإخراج الحروف من
مخارجها، وأن يرتل بتحسين الصوت في الأداء المتبع بغير تكلف، ويكفي في
تعلم ذلك تلقيه بالفعل، ولا يشترط فيه تعلم فن التجويد المعروف، فهو لم يكن
معروفًا في خير القرون.
٣٧- احترام الدين وما يجب في تعليمه وأدبه:
السبب فيما ذكرتم من عدم احترام الدين ودروسه إهمال التربية الإسلامية
الصحيحة، وكون التلاميذ ذكرانًا وإناثًا لا يرون في بيوتهم ومدارسهم قدوة صالحة
في ذلك، ولا شك في وجوب العناية بذلك على رؤساء المدارس الإسلامية ومديريها
ومعلميها؛ لأن أكثر آباء التلاميذ وأمهاتهم على جهل لا يشعرون معه بهذا الواجب.
٣٨- حديث (من يرد الله به خيرًا) إلخ:
هذا حديث صحيح متفق عليه في الصحيحين ومسند أحمد باللفظ الذي ذكرتموه
من حديث معاوية وروي عن غيره. ومعناه ظاهر، فالتفقه في الدين فهمُ نصوصه
ومقاصده على الوجه الذي يهدي إلى العمل به كما بيناه مرارًا.
***
أهل الفترة
وما ورد في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم
(س٣٩-٤١) من صاحب الإمضاء المبهم في أسيوط:
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(أما بعد) فلمناسبة تقرير أحد العلماء بمدينة أسيوط أن والدي النبي صلى
الله عليه وسلم ليسا ناجيين بل ماتا على غير ملة، رأيت أن أتوجه بالسؤال
لفضيلتكم لإفادتي في مجلتكم عما يأتي:
(١) هل يعد والدا الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة؟ ومن هم
أهل الفترة؟ وما حكمهم؟ وهل هناك ما يسمى فترة؟
(٢) ما قول فضيلتكم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب
الإيمان أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن والده فقال له: (إن أبي
وأباك في النار) وكذلك الحديث الذي في مسلم أيضًا في باب الجنائز أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، واستأذنه في أن
يستغفر لها فلم يأذن له.
(٣) هل هناك أخبار صحيحة في إحياء والديه صلى الله عليه وسلم
وإسلامهما، وهل هناك خبر يوازي في الصحة حديثي مسلم المذكورين آنفًا يدل
على غير ما جاء فيهما.
نرجو الإفادة ولفضيلتكم جزيل الشكر
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفهم بأسيوط
٣٩-٤١ أهل الفترة وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم:
(ج) الفترة هي المدة بين رسول وآخر، وأصلها قوله تعالى: {يَا أَهْلَ
الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلاَ نَذِيرٍ} (المائدة: ١٩) الآية من سورة المائدة، وإن أبوي النبي صلى الله
عليه وسلم كانا من أهل الفترة قطعًا، وحكمهم أن من لم تبلغه منهم دعوة رسول
سابق لا يكونون مسئولين عند الله تعالى عما لم يخاطبوا به من أمر الدين المنزل،
ويؤخذ من النصوص العامة أنهم لا يكونون في الآخرة سواء، لا فرق بين موحد
ومشرك، وخَيِّر وشرير، بل تختلف أحوالهم بحسب صلاح أنفسهم وفسادها بهداية
الفطرة والعقل، وفي هذا جمع بين أقوال العلماء المختلفة فيهم بحسب فهمنا، وأما
من وردت فيهم نصوص عن الله ورسوله فهي الحق، ومنه حديثا مسلم، ولكن لا
ينبغي لمسلم أن يتشدق بمعناهما بما ينافي الأدب مع الرسول الأعظم، صلى الله
عليه وآله وسلم، ولا أن يذكره إلا في مقام التعليم أو الفتوى بقدر الضرورة.
ولم يصح حديث في إحياء الأبوين الشريفين وإسلامهما، وأقوى ما يرجى من
أسباب نجاتهما في الآخرة ما ورد من امتحان الله تعالى في الآخرة من لم تبلغهم
الدعوة ويعاملهم بحسب ذلك الامتحان فمن أطاع نجا ومن عصى هلك، بأن يكونا
من المطيعين لله فيما يمتحنهما به ويدخلهما الجنة، وهذا لا يعد معارضًا لحديثي
مسلم المشار إليهما في الاستفتاء؛ لأن الحديثين في حكمهما بحسب ما ماتا عليه،
ونجاتهما بالامتحان إنما تكون في موقف الحساب يوم القيامة، ويقوي هذا الرجاء
فوق ما نقل عنهما من كونهما كانا من أسلم الناس فطرة وخيرهم فضيلة، إكرام الله
تعالى لنبيه الأعظم صلى الله عليه وسلم بإلهامهما الطاعة في ذلك الامتحان، وقد
فصلنا هذه المسألة من كل وجه في تفسير قصة إبراهيم مع أبيه آزر من سورة
الأنعام (ص٥٣٧ ج ٧ من تفسير المنار) .
***
الاحتفال بليلة المعراج
(س٤٢) من صاحب الإمضاء في جاوه:
بمناسبة معراج النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رجب تقام حفلات يخرجون
لها أبناء المدارس ويدورون في الحارات بمظاهرات عظيمة وإيقاد السرج والأغاني،
وبعد المظاهرات يجتمعون في محل مخصوص وهناك تلقى الخطب بمناسبة
المعراج، وفي هذه السنة قام من علماء المسلمين من أنكروا هذه المظاهرات وقالوا:
إنها بدعة لا يجوز فعلها، فنرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا هل هذه من الشعائر
الإسلامية التي يجب علينا إظهارها، أو من البدع التي يجب علينا محوها؟ نرجو
أن تنشروا ذلك على صفحات المنار ولكم الشكر سلفًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... (ا. ص. ي)
(ج) لا شك في أن ما ذكرتم من البدع، وأنه ليس من شعائر الإسلام في
شيء، وأما محوه وإبطاله فيراعى فيه الحكمة والموعظة الحسنة، واتقاء الشقاق
والتفريق بين المسلمين، وأرى الجماعات التي تعنى بصد الناس عن البدع
والمنكرات في مصر تدعو الناس في الليلة ٢٧ من رجب كليالي الجمع وغيرها
ويخطب فيهم الخطباء مذكرين إياهم بما صح من الأحاديث في الإسراء والمعراج،
وإعلامهم بأن اجتماعهم ليس شعارًا من شعائر الإسلام الخاصة، وإنما هو من
مجامع العلم والمواعظ العامة، فيحسن أن يفعل العلماء هذا عندكم، وقد ألقيت أنا
في هذه المجامع عدة خطب ودروس مما يسمونه بالمحاضرات.
***
انتقاد وأسئلة من جدة (الحجاز)
من (٤٣ -٥١)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
من تلميذكم المخلص محمد بن حسين إبراهيم المدرس بمسجد عكاش بجدة إلى
جناب سيدي الأستاذ مولاي السيد محمد رشيد رضا أدامه الله ملجأ للقاصدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأله تعالى أن تكونوا وأنجالكم ومُحِبُّوكم
على أحسن الأحوال. وبعد فإني أهنئكم بهذا العيد السعيد (عيد الفطر) جعله الله
لنا ولكم وللمسلمين عيدًا ميمونًا مباركًا بمنه وكرمه.
سيدي العزيز: إني أقدم إليكم هذه الأسئلة ملتمسًا الجواب عنها على صفحات
مناركم الأغر.
(أولا) رأيتكم قد أَبَّنْتُمْ الشيخ محمود خطاب السبكي حتى ذكرتم من فضله
أنه كان من أنصار السنة، وأنه شرح سنن أبي داود فلا أدري أقلتم هذا بعد أن
اطلعتم على كتابه (إتحاف الكائنات) الذي ألفه في آخر عمره فقد أفعمه بتكفير من
يعتقد أن إلهه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، وأنه في سمائه دون أرضه،
وأنه موصوف بصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه
وسلم في صحيح سننه كاليدين والعينين، والساق والقدم، والنزول والضحك،
والتعجب والفرح والرضا والسخط، والغضب والغيرة، إلى غير ذلك من الصفات
المذكورة في القرآن وصحيح السنة، فحكم على كل من يعتقد شيئًا من ذلك أنه كافر
حلال الدم والمال ونساؤه طوالق، وأولاده أولاد زنا وسفاح، ولا يخفاكم أن هذا
كان معتقد السلف حتى ظهر المتكلمون نفاة الصفات وحقائق الأسماء، فهل كانوا
كما قال الشيخ كفارًا أولاد زنا؟ فإذا لم يكونوا كذلك فما حكم من يؤلف كتابًا كهذا؟
أيستحق التأبين ونشر فضائله؟
(ثانيًا) وصلت إلينا في أواخر رمضان رسالة من مصر لمؤلفها الشيخ
يوسف الدجوي نشرها أحد تلامذته عبد الرافع نصر قد أفظع فيها وأقذع من ذكر
مسائل منسوبة إليكم على زعمه نشهد بالله أنكم برآء من أكثرها وليست قاصرة
عليكم بل تناول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية ونسب إليه أنه كان يخطب وذكر حديث
النزول ونزل درجتين من درج المنبر، وقال: ينزل ربنا كنزولي هذا، وتناول
فيها سيد الحفاظ شمس الدين الذهبي، وأنه كان يحكم على الأحاديث الصحيحة
بالوضع تحكمًا وتعسفًا، حتى لو قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) لقال: هذا حديث موضوع
إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يجوز أن تنسب إلى أسفل طبقات العالم فضلاً عن
حفاظ الإسلام وأئمته، وقد علقت عليها ما يمكنني، فهل هذه الرسالة وقعت بيدكم
حيث إنها مطبوعة في مصر سنة ١٣٥١ فإن كنتم قد رأيتموها ولا بد فلِمَ لمْ أر لكم
كتابة عنها، وقد بلغني أنكم شرعتم في تأليف كتاب سميتموه المنار والأزهر فلا
أدري هل تم طبعه أم لا؟ أعانكم الله على نشره.
(ثالثا) قد اطلعت قريبًا في كتاب الحاوي للفتاوى لمؤلفه الحافظ جلال الدين
السيوطي وقد طبع في مصر ذكر فيه رسالة سماها (القول الجلي في تطور الولي)
حاصلها أنه رفع إليه سؤال من رجل حلف بالطلاق الثلاث من زوجه أن الشيخ
عبد القادر أحد أولياء عصره كان بائتًا عنده البارحة، وحلف آخر كذلك فأرسل هو
إلى الشيخ عبد القادر يسأله عن ذلك فقال: لو حلف أربعة أني كنت بائتًا عند كل
منهم فلا يحنث، وأفتى السيوطي بعدم الحنث على أحد من الحالفين، واستند في
فتواه هذه إلى قول علاء الدين شارح الحاوي وتاج الدين السبكي والشيخ خليل
المالكي وغيره من الفقهاء.
وملخص أقوال هؤلاء: أن الولي يجوز أن يتشكل في عدة أجسام حتى إذا لم
يره أحد يحضر الجمع ولا الحج فلا ينكر عليه؛ لأنه إنما رأى جسمًا واحدًا لم
يصل ولم يحج، وهذا لا ينافي أن الأجسام الأخر حجت وصلت وصامت. وروى
أحاديث تشهد له بذلك كرفع بيت المقدس إليه صلى الله عليه وسلم حتى نعته لقريش
ورؤيته للجنة في عرض الحائط فهل هذا صحيح؟ وهل نقل عن أحد من خير
القرون ذلك؟ وهل كل ما وقع على سبيل المعجزة لأحد من الأنبياء يجوز أن يقع
كرامة للأولياء؟ فإن قلتم: هذا صحيح فما وجه من ينكر على الحنفية فيما ذكروه
في ثبوت النسب من قولهم ولو تزوج رجل بالمشرق على امرأة بالمغرب ولم يعلم
أنه اتصل بها بسبب من الأسباب المعلومة فأتت بولد لستة أشهر نسب إليه لاحتمال
طي المسافة أو أنه زيد في ذكره حتى وصل إليها؟ وإن قلتم: إن مثل هذا من
خرافات بعض الفقهاء فأخبرونا عن مكانة السيوطي ودرجة علمه ومؤلفاته فهل
يوثق بها أم لا؟ وأي كتاب فيها يصح الاعتماد عليه للأخذ منه وعليه.
المرجو بسط الجواب عن هذه المسائل بسطًا وافيًا شافيًا ولا تحيلونا على ما
كتبتموه فيما سبق فإنه يتعذر علينا الرجوع إلى مجلدات المنار لكثرتها، وعسى أن
توفقوا لوضع فهرست عامة لجميع المجلدات مرتبة إما على أبواب الفنون أو على
حروف المعجم وتطبعوها على حدة، فإن ذلك يكون مفتاحًا لما يطلب من مجلدات
المنار، ولكم منا الشكر والثناء ومن الله الثواب والجزاء.
... ... ... ... ... ... ... المخلص لكم في المحبة والولاء
... ... ... ... ... ... ... ... محمد حسين إبراهيم
(أجوبة المنار)
قدمت نشر هذه الأسئلة على عشرات من الأسئلة مر على بعضها سنة أو
سنتان أو سنون؛ لأنها في أمور حاضرة بعضها يخصني من انتقاد عليَّ ودفاع عني،
وسئلت عنها مشافهة ومكاتبة مرارًا، وبعضها في موضوع الكرامات الذي أطلت
في منكراته في الأجزاء التي قبل هذا، وإنني أجيب عنها بما يلي:
(٤٣) الثناء على الشيخ السبكي:
اشتهر الشيخ محمود خطاب السبكي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا
سيما البدع الفاشية والحث على السنن الصحيحة قولاً وخطابة وتدريسًا وكتابة مع
العمل في زمن يقل فيه من يقوم بهذه الفريضة من العلماء، واشتهر أنه قد تاب
على يديه وانتفع به خلق كثيرون حتى صار إمامًا يتبعه ألوف من الناس ينسبون
إليه فيسمون السبكية، وأعرف أفرادًا منهم من الأزهريين وغير الأزهريين هم
سلفيون بقدر ما يعلمون من مذهب السلف، ومنهم من له عناية بنشر مذهب السلف
وكتبه كالأستاذ الشيخ منير الدمشقي الكتبي المشهور. وقد اجتمعت به مرارًا قليلة
على تواد وتعارف وتآلف، ورأيت له بعض الكتب الصغيرة في الحث على
العبادات واتباع السنة اكتفيت من النظر فيها بمعرفة موضوعها، وقد اتُّهِمَ في أثناء
الحرب الكبرى بتهمة سياسية كادت تفضي إلى إيذائه وإهانته فلجأ إليَّ فسعيت سعيًا
صالحًا لإنقاذه من الشر، وكان الذين تولوا التحقيق في أمره قد جمعوا كتبه وكلفوا
من يثقون بهم بمطالعتها للوقوف على خطته فقال لهم المشرف عليهم في إدارة الأمن
العام: إن السيد رشيد رضا شهد له بأنه نافع للناس مأمون الضرر فأطلعوه في
بعضها على مسائل مخالفة لخطة المنار في إنكار البدع والخرافات ذكرها لي ولكنها
لم تمنع قبول شفاعتي أو شهادتي له.
وقد بلغني في أول هذا العام أنه ألف كتابًا في علم الكلام وطبعه خالف فيه
مذهب السلف في مسألة الصفات وغيرها استاء منه كل من اطلع عليه من السلفيين،
وكان بعضهم يجله ويحسن الظن في اعتقاده وعلمه فتحولوا عنه ورد بعضهم عليه،
ولم أر هذا الكتاب ولكنني سألت عنه بعض تلاميذه فمنهم من وافق المنكرين
ومنهم من حاول الدفاع عنه فكان ضعيفًا. وكنت علمت أنه منذ سنين يشرح سنن
أبي داود، وعلمت في العام الماضي أنه صدر الجزء الأول منه، ولم أره ولا كتاب
الكلام الذي قبله؛ إذ لم يهدهما إليَّ وما كنت لأشتري أمثال هذه الكتب الحديثة ولا
أجد وقتًا للنظر فيها، إلا إذا حدث باعث أرى فيه مصلحة راجحة في ذلك، وقد
انتقد لي رجل ذكي سلفي هذا الشرح ولكنه ليس عالمًا يوثق بانتقاده.
لأجل هذا كله اقتصرت في ذكر وفاته على أفضل ما علمته من سيرته وهو
دعوة الناس إلى العبادة وترك المعاصي والبدع العملية، وهذا هو الواجب على كل
عالم أعني أن يكون عاملاً بعلمه معلمًا له داعيًا إليه بقدر استطاعته، فالعلم مع
العمل وتعليم التفقيه الوعظي الباعث على العمل هو هدي السلف ومذهبهم وطريقتهم
وقليله خير من كثيره بالطريقة الجدلية الكلامية والمماحكات اللفظية، لهذا ساءني
أن يبتلى بتأليف كتاب في العقائد الكلامية؛ لأنه يتعذر عليه أن يجمع فيه بين السنة
التي يحبها ويعمل بها ويدعو إليها ويعتقد أنه متبع فيها للسلف، وبين نظريات
المتكلمين وتأويلاتهم الجدلية التي تروج وتقبل عند كل من لم يكن واسع الاطلاع
على آثار السلف.
فأنا قد قصرت في تأبينه لأجل هذا الكتاب، ولم أقل فيه: إنه من أنصار
السنة كما ذكرتم، وكان والحق يقال من أنصارها المشددين قولاً وعملاً، ليس له ند
في هذا القطر، وقلما يوجد في غيره، وأما تأويلات المتكلمين المخالفة للسلف فلا
يسلم منها أحد اعتمد في طلبه لعلوم الدين على كتب العقائد الرائجة في مصر وأكثر
الأمصار وكذا أكثر كتب التفسير وشروح الأحاديث التي ألفت بعد خير القرون،
ويظهر مما نقل لي منه ومما قرظ به أنه لم يطلع على ما كتبه حفاظ السنة وأقوال
الصحابة والتابعين وأقوال أئمة الحديث والفقه المتفق على جلالتهم حتى عند
المعتزلة لا عند الأشاعرة وحدهم كأئمة الفقه الأربعة على أن تأويلاتهم للنصوص
قلما يدحضها إلا كتب المحققين الذين جمعوا بين المعقول والمنقول، وكان أقواهم
حجةً: شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
فأنا أشهد على نفسي أنني لم يطمئن قلبي لمذهب السلف إلا بقراءة كتبهما،
وأشهد أن ما يقوله بعض المقلدين للسلف من غير فهم ولا عقل قد يكون مثارًا
للتشبيه وعذرًا لأهل التأويل، كجمع بعضهم لجميع ما ورد في القرآن والأحاديث
حتى غير الصحيحة أو أكثره، وقولهم لمن يلقنونه إياها: يجب أن تؤمن بأن لله
تعالى وجهًا وعينين ويدين وأصابع وساقًا وقدمين وأنه مستو على عرشه بذاته،
وأنه ينزل ويمشي ويهرول وينادي بصوت ويضحك ويرى كما يرى البدر إلخ وأن
كل هذه صفات له لا يجوز تفسير شيء منها بطريق مجاز لغوي ولا عقلي ولا
كناية؛ لأن هذا من التأويل الذي منعه السلف، وتكذيب لكلام الله وكلام رسوله.
وتجاه هؤلاء: أهل التأويل يشوهون نقل هذا عنهم بضم لوازمه إليه أو نقله
بمعناه عند المشوهين له، فقل لي: ما يفهم جمهور العوام والخواص من هذا الكلام؟
أليس التشبيه المحض، المنافي للتنزيه المحض، الذي يجزم به العقل، وقوله
تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: ١١) ؟
ولو نقلوا كل ما ورد بلفظه في سياقه لما أثار ما يثيره سرد مفرداتها مجموعة
من التشبيه [١] ولو قالوا: يجب الإيمان به كما ورد مع تنزيه الرب تعالى واتقاء
التحكم في معناها بالرأي اتباعًا للسلف لما كان لأحد من القائلين بالتأويل شبهة
يُخَطِّئهم بها - دع تكفيره لهم- إلا بعض أشرار المنافقين، ولكن سوء التعبير من
الجانبين وجعل لوازم المذهب مذهبًا، وإن كان لازمًا غير بين وغير مراد هو الذي
ينفخ روح الشقاق والتفرق. السلف لم يجمعوها ويلقنوها للناس ولم يقولوا بمنع
المجاز والكناية في عباراتها وإن كانت متبادرة من العبارة، ويقتضيها أسلوب
البلاغة، فإن هذا من التحكم فيها بالرأي الممنوع عندهم، وإنما خلاصة هديهم فيها
أن نُمِرَّهَا كما وردت بغير تعطيل ولا تمثل ولا تأويل، فالمعطلة جعلوا الخالق رب
العالمين في حكم العدم بإنكارهم الصفات كلها والعلو المطلق، والممثلة أو المشبهة
جعلوه كعباده، صفاته كصفاتهم، والمؤولة تحكموا في صفاته برأيهم وأهوائهم،
ويلزم من تأويلهم أن بيانهم لها أصح من بيان كتابه وكلام رسوله صلى الله عليه
وسلم بل صرح بعضهم بأن من اعتقد بعض ظواهر القرآن كان كافرًا، ومنهم
الشيخ يوسف الدجوي.
هذا وإن التفرق في أصول الدين بين سلفيين وخلفيين أو مفوضين ومؤولين
أو سنيين ومبتدعين، بحيث ينتهي بهم الخلاف إلى التكفير والحكم بالمروق من
الدين، مما يتبرأ منه أئمة السلف الأولين، الذين يُِقرُّ بفضلهم وإمامتهم الفريقان.
فاختلاف الفهم للصفات والأفعال بين السلف والخلف لا يصح أن يفضي إلى
التكفير فإن الله تعالى لم يجعل صفاته فتنة لعباده المؤمنين به وبكتابه ورسوله
المهتدين بدينه فيجعل المخطئ بفهمه لضعفه كالمشرك به المكذب لرسوله، وللمحقق
ابن عقيل الحنبلي كلام نفيس في عذر العلماء بالخطأ في مثله يراجع في كتاب
(الآداب الشرعية) لابن مفلح فإن كان الشيخ محمود السبكي قد صرح في كتابه
الأخير بما نقله عنه من التكفير بنصه، فإنه من هذه الناحية لقرين عدو القرآن
والسنة، أعمى البصر والبصيرة المنكوس على رأسه، الذي صرح بتكفير من
يؤمن بظاهر القرآن، وأرجو أن يكون عزو هذا إليه كعزو السائل إليَّ أنني جعلته
من أنصار السنة، مأخوذًا من لازم الكلام بفهمه، لا صريح نصه.
(٤٤) رسالة القذع والقذف والبهتان:
إنني اطلعت على الرسالة المذكورة قبل نشرها، وذكرتها في المقالات التي
رددت بها على مجلة مشيخة الأزهر، وذكرت فيها ما جرى بيني وبين شيخ
الأزهر بشأنها فيما كان من مخادعته إياي باسم الصلح بيني وبين مفتريها،
وتصريحي للشيخ بأنه لا قيمة لها ولا لملفق بَهَائِتِهَا ومفترياتها عندي، وأرى من
العار عليَّ أن أعده مناظرًا أو خصمًا وأعقد معه صلحًا، فسواء عليَّ أنشرت أم
منعت وأحرقت، إنها لا تعيبني ولكن تعيب الأزهر أو مشيخته أن يصدر مثلها عن
أحد علمائه ولا يعاقب عليها إلخ، وكان الشيخ يساومني على جعل منع نشرها ثمنًا
للصلح. وقد نشرت مقالاتي هذه في المنار وفي بعض الجرائد اليومية في مصر،
وعهدي بالأستاذ السائل أن يطلع على كل ما ينشر في المنار فما معنى هذا السؤال؟
وقد جاءتني رسائل كثيرة وقصائد من الأقطار المختلفة في الرد عليه فلم أنشر
شيئًا منها اهتداء بقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩)
ولكن ردَّ عليه كثيرون من علماء الأزهر، وعلى شيخ الأزهر مغريه، ونُشِرَتْ
ردودهم ومطاعنهم في الجرائد اليومية. وأما طعنه في حفظ السنة فقد فنَّدته في
سياق تفنيد ما يدعو إليه من البدع والخرافات، ولو شئت أن أعاقب المسيء لرفعت
عليه قضية في محكمة الجنايات، ولكن انتقم الله من المفتري والمغري بطعون
ومَخَازٍ نشرت في بعض الجرائد اليومية لم يستطع الرد عليها أحد، ولما تنته بعد،
وينتظر من عدل الله ما هو أشد.
وأما كتاب (المنار والأزهر) المشتمل على تلك المقالات في الرد على مجلة
الأزهر وبدعها وخرافاتها، وتفنيد بهائتها ومفترياتها، فقد أرجأت نشره إلى أوائل
العام القابل، أي بعد نشر الطبعة الثانية من كتاب الوحي المحمدي في ذي الحجة
الآتي ونشر الجزء الحادي عشر من التفسير في المحرم سنة ١٣٥٣ إن شاء الله
تعالى.
(٤٥) فتوى السيوطي المبنية على تطور الولي:
في أول سطر من السؤال عن هذه الفتوى غلطتان: (إحداهما) في اسم
الكتاب فإن اسمه (المنجلي ....) لا (القول الجلي .....) (والثانية) في
الطلاق الذي سئل عنه المؤلف وهو الطلاق غير موصوف بالثلاث كما ذكر في
السؤال، فهاتان الغلطتان مع الغلطة الأولى في مسألة السبكي التي بينتها في
موضعها مما يوجب عليكم الدقة في النقل ومراجعة ما يكتبه لكم من تملون عليه
لتثقوا بصحته.
وأما الفتوى فإنني أقول فيها - وإن لم أقابل ما لخصتموه منها بأصله - إن
فيها خلطًا وخبطًا كثيرًا لا يمكن بسطه إلا في رسالة طويلة لا أرى حاجة إليها إذ
يغني عنه القول بأن هذه الفتوى في تفصيلها رأي للسيوطي لا يجوز لأحد تقليده فيه،
وغير المقلد من المفتين أو المستفتين ينظر في الدليل ويأخذ بما ظهر له صحته.
وهو قد بنى الفتوى بعدم وقوع الطلاق على أحد من الأربعة الذين حلفوا به
من حيث الفقه على الترديد في إقامة البينة من بعضهم دون بعض وعدم إقامتها من
أحد منهم، وإنما تطلب البينات وينظر في تعارضها والترجيح بينها في حال إقامة
الدعاوي [٢] فإن لم يكن هنالك دعوى فيفتي كل واحد بحلفه على اعتقاده. فإذا كان
يعتقد أن من بات عنده في تلك الليلة هو فلان كما حلف، فلا يضره اعتقاد غيره
أنه أخطأ، وإن كان يستحيل صدق كل واحد منهم بالفعل أو في اعتقاده، بل عليه
أن يعتقد أن غيره كاذب؛ لأن خبره الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته قد تعين عنده
أنه كاذب فيه؛ لمخالفته لما ثبت عنده هو بالحس، والأصل فيه إفادة اليقين.
أكتفي بهذا في أصل الفتوى من حيث الفقه كما قال لأنها من الخيالات
الخرافية التي قلما تقع. وألخص ما يستنبط منها من المسائل التي بنيت عليها وهي
أهم منها، والمقصودة بالذات من نشرها، وأبين رأيي فيها.
(٤٦) تطور الولي ووجوده في عدة أمكنة في وقت واحد:
إن علماء المعقول متفقون على أن وجود الجسم الواحد في مكانين أو أكثر في
وقت واحد من المُحَال العقلي المعلوم بالبداهة أو الضرورة، ويحكمون بكذب مدعيه
قطعًا، بل يجعلونه مثالاً للمحال.
ولا يصح معارضة هذا الحكم القطعي الضرورة في عالم الشهادة باحتمال
وقوع مثله عقلاً في عالم الغيب كالملائكة والجن أو ثبوته بنص شرعي قطعي، فإن
لمن يسلم هذا أن يقول أن عالم الشهادة لا يقاس على عالم الغيب، وأن الذي رأى
زيدًا من الناس ...... عنده إنما رأى جسدًا من عالم الشهادة ذا روح، والجسد
الخاص المعين لا يكون في مكانين في وقت واحد قطعًا، واحتمال تصرف روح
الإنسان في هذا العالم بجسده وظهوره في جسدين أو أكثر مخالف لسنة الله تعالى في
هذا العالم فلا يُبْنَى عليه حكم شرعي بل السيوطي يقول في هذه الفتوى: إن روح
الولي في حال تشكله في الصور تكون في جسمه الأصلي، ويكون له أجسام أخرى
من عالم المثال الذي هو عندهم وسط بين عالم الأرواح وهو ألطف منه، وعالم
الأجسام وهو أكثف منه، وروحه تتصرف في الجسم الأصلي في الأجسام المثالية
في وقت واحد.
فنقول في هذه الحال: إن جسمه الأصلي هو الذي تتحقق به حقيقته الكونية
الشرعية، وتلك الأجسام التي تصرفت بها روحه غريبة من غير عنصر الأجسام
البشرية، فلا يصح إعطاؤها حكمًا شرعيًّا من صلاة ولا حج ولا زواج ولا طلاق
ولا غير ذلك من العقود والحدود الشرعية على فرض وقوع ذلك كما قيل، وهو ما
لا يمكن إثباته بالفعل لما يعرض فيه من الاحتمالات، ومنها أن شيخ الإسلام ابن
تيمية الجامع بين علوم النقل والعقل والتصوف يقول: إن الشخوص البشرية التي
تظهر بصور بعض المشايخ وغيرهم هي من الجن، فالمتعبدة الصالحة منها لبعض
مؤمني الجن ومنهم من ظهر بصورته هو في الموصل بمظهر صالح يليق به إذ
كان هو بدمشق، والخبيثة الضارة لكفار الجن وشياطينهم كما نقلناه عنه قريبًا في
التفسير.
على أن التحقيق أن عالم المثال الذي يدعي السيوطي أن الصوفية أثبتوا
وجوده هو عالم تصور خيالي لا وجود له في الخارج، فهو كعالم الماهيات
الهيولانية في فلسفة أفلاطون فلا وجود له في الخارج، وأصح منه الأثير الذي
يقول به علماء المادة وسيأتي ذكره. وإن مسألة التجرد الروحانى والتشكل في
الصور أمر آخر يظهر أن السيوطي لم يكن يعرفه ولا أئمته الذين اتكأ على أقوالهم
في إمكان وجود الجسم في الأمكنة المختلفة واعتمد عليها فكانت كجسيم العاشق الذي
قال لمعشوقته:
إن في بردي جسمًا ناحلا ... لو توكأت عليه لانهدم
(٤٧) وجود الشخص في الأمكنة:
قال السيوطي: (إن وجود الشخص الواحد في أمكنة متعددة في وقت واحد
ممكن غير محال كما يتوهم، فقد نص الأئمة الأعلام أن ذلك من قسم الجائز الممكن
- وسمى جماعة منهم ذكر السائل بعضهم ثم قال -: وحاصل ما ذكره في توجيه
ذلك ثلاثة أمور: (الأول) أنه من باب تعدد الصور بالتمثل والتشكيل كما يقع ذلك
للجان (والثاني) أنه من باب طي المسافة وزوي الأرض من غير تعدد فيراه كل
في بيته وهو في بقعة واحدة إلا أن الله طوى الأرض ورفع الحجب المانعة من
الاستطراق فظن أنه في مكانين وإنما هو في مكان واحد (قال) وهذا أحسن ما
يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حال
وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء. (الثالث) أنه من باب عظم جثة الولي بحيث
ملأ الكون فشُوهِدَ في كل مكان كما قرر بذلك شأن ملك الموت ومنكر ونكير حيث
يقبض من مات في المشرق وفي المغرب في ساعة واحدة، ويسأل من قبر فيهما
في الساعة الواحدة، فإن ذلك أحسن الأجوبة في الثلاثة ولا ينافي ذلك رؤيته على
صورته المعتادة فإن الله يحجب الزائد عن الأبصار أو يدمج بعضه في بعض كما
قيل بالأمرين في رؤية جبريل في صورة دحية، وخلقته الأصلية أعظم من ذلك
بحيث إن جناحين من أجنحته يسدان الأفق) اهـ المراد منه، وذكر بعده بعض
أقوال أولئك الذين سماهم الأئمة في ذلك.
أقول: (أولا) إن مسألة المحال العقلي هي من أحكام العقل فآراء من سماهم
الأئمة الأعلام وغيرهم من العقلاء فيها سواء، ولكن هؤلاء الأئمة الأعلام قد نبذوا
حكم العقل وراء ظهورهم اتباعًا لدعاوي الصوفية، كما نبذه هو تقليدًا لهم، وإن
كان قد ادعى الاجتهاد المطلق، فالصوفية قد صرَّحوا بأن كشفهم ودعاويهم مخالفة
للعقل كما قال ابن عربي
وإذا عارضك العقل فقل ... طورك الزم ما لكم فيه قدم
وقال ابن الفارض
فثم وراء العقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة
(ثانيًا) إن ما وجهوه به وقلدهم فيه يدل على أنهم قد قلدوا الصوفية بغير
عقل ولا فهم للنقل ولا لأقوالهم فإنهم يعنون به غير عالم الأجسام العنصرية، وقد
كان منهم من لا يعرف حكم الشرع في ذلك.
(ثالثًا) تقدم أن العقل والشرع يمنعان من قياس عالم الشهادة ومنه الإنسان
على عالم الغيب كالملائكة والجان، ونزيد عليه أنه لم يثبت بدليل عقلي ولا شرعي
يحتج به أن الجني الواحد يتمثل بصور كثيرة في أماكن مختلفة في وقت واحد.
(رابعًا) إنه قد أخطأ وخلط بين الأمور التي وجهها به أئمته لعدم فهمها كما
نبينه فيما يأتي:
(٤٨) طي المسافة وزوي الأرض:
إن ما يسمونه طي المسافة غير مسألة زوي الأرض ورؤية الأماكن البعيدة
منها، فالأولى عبارة عن تشكل الروح المجردة في مادة لطيفة تقطع بها المسافات
البعيدة في مدة قصيرة، ومنهم من يفسر بها الإسراء والمعراج، والثانية عبارة عن
تمثل الأماكن البعيدة بصورها للروح أمامها في الهواء أو في حائط مثلا بصورة
مصغرة فتدركها الروح كالمرئية بالعينين وهي التي يفسر بها رؤية بيت المقدس
للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكانه بمكة، وتمثل الجنة له أيضًا.
ومنه حديث (زويت لي الأرض) أي جمعت منقبضة مصغرة، ومثال ذلك
تصغير الصور بعدسيات الزجاج من جهة كتكبيرها من جهة أخرى. وخلاصة
الحديث أنه مثلت له الأرض صغيرة مزوية فرأى منها ما يصل إليه ملك أمته لا أنه
قطع مسافتها.
وأصح ما ورد في تمثل بيت المقدس له حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين
قال: قال صلى الله عليه وسلم (لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس
قمت في الحجر فجلَّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)
فمعنى جلاَّه أظهره وكشفه له كشفًا جليًّا، وليس معناه أنه قلعه من مكانه ووضعه في
مكة، ورواية رفعه له تصوير للرواية الأولى ونحن لا ننكر على من دونه صلى الله
عليه وسلم أن تتوجه نفسه إلى شيء فينكشف لها فيراه، فإن هذا من جنس الكشف
الذي نقل عن بعض أصحاب الرياضيات، ولكنهم لم يصلوا فيه إلى مثل درجته
صلى الله عليه وسلم في الوضوح وطول المدة بحيث يتمكن من وصفه بتلك الدقة،
وأين هذا من خرافة طواف الكعبة بالولي إن يكن يراد بها التخيل المحض؟
(٤٩) تكبير الجثة وتصغيرها:
إن ما سماه عظم الجثة بحيث تملأ الكون هو طور من أطوار التشكيل في
الصور فهما من باب واحد كما سأبين جعله بابين بابًا لتعدد الصورة وبابًا لتكبيرها؛
لعدم فهمه لمنشأ كل منها، فأخطأ في جعل الواحد اثنين، كما أخطأ في طي المسافة
وزوي الأرض فجعلهما واحدًا وهما اثنان، فكيف يصح لعالم أن يبني فتواه
الشرعية ويفسر ما ورد في عالم الغيب على ما يجهله ولا يفهم ما يقوله غيره فيه؟
(٥٠) قياس الأولياء على الأنبياء والملائكة:
قلنا: إن قياس عالم الشهادة على عالم الغيب أو عالم الملك على عالم الملكوت
- على اصطلاح الصوفية - قياس باطل أو بالفارق، ومثله قياس الأعمال العادية
على الخوارق، ثم قياس الكرامات على المعجزات بناء على أنهما من جنسها أو
نوعها وتكون مثلها. ومن العجيب أن يقع فيه السيوطي ومن نقل عنهم واعتمد
عليهم وسماهم الأئمة، ومنهم تاج الدين السبكي الذي فرق بينهما في الرد على
منكري الكرامات من أصلها بأن الأصل فيها الخفاء والإخفاء، فلا يجوز إظهارها
إلا لضرورة وصرح بهذا المحققون من الصوفية أيضًا وبأنها لا تبلغ مبلغ المعجزة
خلافًا لقول بعضهم: إن ما جاز أن يكون معجزة جاز أن يكون كرامة، وذكر أن
القشيري من أئمة الفريقين خالف في هذا أيضًا كما بيناه من قبل.
وأعجب من هذا أن يقيسوا هؤلاء الأولياء الخياليين أو المتخيلين على الأنبياء
في كل ما ذكروا من خصائصهم ما صح فيه النقل منها وما لم يصح حتى في أمور
البرزخ والآخرة.
وأعجب من هذا الأعجب أن يقيسوهم على الملائكة المقربين حتى جبريل
معلم الأنبياء والمرسلين، وملك الموت قابض أرواح الجميع، إن هذا لهو الجهل
العميق، إن هذا لهو الضلال البعيد، الذي يصح على قائسيه قوله تعالى:
{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: ٥٣) والله تعالى يقول لرسوله خاتم
النبيين: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ
إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام
: ٥٠) بلى إن من يقيس هؤلاء المساكين الذين زعموا أنهم كانوا يوجدون في
الأماكن المتعددة من الأرض على جبريل وملك الموت عليهما السلام لا يتفكرون في
سنن الله في الخلق، ولا فيما خص به كل عالم وكل جنس من الفروق والخصائص
ولا في حكمته في ذلك.
ومن عجائب غفلتهم عن التفرقة بين الجنس الذي قال الله تعالى فيه:
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} (النساء: ٢٨) والجنس الذي خصه عز وجل بأعظم
القوى في العالم حتى أعظم أفراده قوة ومقامًا كجبريل الذي قال تعالى بعد القسم في
بيان تلقينه الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ
عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} (التكوير: ١٩ -
٢٢) وقال في هذا المعنى أيضًا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ
بِالأُفُقِ الأَعْلَى} (النجم: ٥-٧) الآيات.
ثم إنهم على تجويزهم أن يكون وليهم المتخيل كجبريل يملأ الآفاق، وأن
يظهر بالصور الكثيرة في كل مكان، يحرصون أشد الحرص على جسده الضعيف
الفاني فيستثنونه من عموم قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرحمن: ٢٦)
ويقولون: إنه يبقى في قبره كما كان في الدنيا يتعبد، ومنهم من قال: إنه يأكل
ويشرب، ويخرج فيقضي حوائج الذين يتوجهون إليه بالدعاء والاستغاثة،
ويتقربون إليه بالنذور والطواف بقبره كالكعبة، وبلمسه وتقبيله كالحجر الأسود
(أي يعبدونه من دونه تعالى) ثم يعود إليه فينجحر فيه، وهو في خارجه مالئ
للكون كله يتصرف فيه، ويوجد في كل حجر ومدر منه! ! فما معنى محافظتهم مع
هذا على هذا الجسد الذي كانت حياته كلها بالدم النجس عندهم، والذي كان يحمل
العذرة كما يقولون في مواعظهم، وعلى هذه الحفرة الصغيرة التي وضع فيها، وقد
أعطي هذه الخصائص والكرامات كلها؟
إنه لا يعجز بعض سدنة بعض هذه القبور المعبودة أن يؤلف لك رسالة أو
كتابًا في جواب هذه الأسئلة المفحمة لمن يفقهها من العقلاء وعلماء الكتاب والسنة،
فإن الذي يقلد هؤلاء المؤلفين؛ لأنه يعتقد أنهم كانوا أرقى منه علمًا وعقلاً ودينًا
وكرامة لا يتفكر ولا يعقل كما أمره الله؛ لأن عقله الفطري الخاص معطل لا حكم
له ولا يحتاج إلى فهمه وإدراكه؛ ولأن العقل الكلي العام للمكلفين وهو هدى كتاب
الله متوقف عندهم على منصب الاجتهاد وقابل لما لا يعقل من التأويلات، ورحم
الله الإمام الشافعي الذي قال: إن الرجل إذا تصوف في أول النهار فلا يأتي المساء
إلا وهو مجنون. قال هذا في صوفية عصره وفيهم العلماء الأعلام، فماذا يقول في
الأدعياء من مقلدي المتشبهين بالصوفية هبوطًا إلى بضع دركات؟
نضرب للناس الأمثال العلمية نقرب بها إلى عقولهم أنباء نصوص الوحي في
عالم الغيب؛ ليطمئن قلب المؤمن بإيمانه، ويجد بها المرتاب مخرجًا من ارتيابه،
والغارق في بحر الخرافات منجاة من أوهامه، فتأتي هذه الحكايات التصوفية بفتن
كقطع الليل المظلم يوسوس شيطانها لمستقلي العقول وحملة برهان العلم: إذا كان
الملائكة وهم أقطابُ عالم الغيب المدبرون من وراء الحجب لأمور عالم الشهادة مثل
هؤلاء الضعفاء الذين يسمونهم أقطاب البشر أو دونهم قوة وتصرفًا في ملكوت
السموات والأرض فأجدر بكم ألا تؤمنوا معهم بأولئك الأقطاب الذين لا تعرفون
عالمهم الغيبي، حتى يروكم تصرف هؤلاء الأقطاب الذين تعرفون من عالمهم
المادي ما لا يعرفون، وتتصرفون في عناصره ومركباته وقواه بما هو أعظم مما
يدعون، ولكن في ضوء سنن الله في الكون وعلى صراط حكمته في نظامه، وبما
يظهر لهم ولغيرهم عجائب صنعه وسعة رحمته بعباده، ومن حيث لا يظهر لما
يدعون حكمة ولا فائدة، فشعوب المدعين لهذا التصرف من صوفية البوذيين
والبراهمة والمسلمين أضعف من جميع شعوبكم، وقد أصبحوا كلهم عبيدًا لدولكم
المنتفعة بتصرفكم، فهل تتبعون عبيدكم في دينهم لتصيروا مثلهم؟
قلنا مرارًا في المنار وفي تفسيره: إن الصور التي يتشكل فيها الملك أو
الجني قد تكون من الأثير الذي ينفذ من الأجسام الكثيفة، وإن مثل الملائكة فيما
صرفها الله تعالى فيه كمثل هذه الكهرباء في قوتها وسرعتها وتأثيرها في مادة العالم
وهذا المثل يقرب من عقولنا تصرف الملك في تحليل مادة الكون وتركيبها كما
فصلناه في محله، ويقرب من عقولنا إمكان قبضه لما لا يحصى من الأرواح في
وقت واحد، فهو كما يطفئ الرجل ألوفًا من المصابيح الكهربائية وينيرها في
لحظة واحدة وهو في مكانه بعيدًا عنها، وقد غمز أحدهم زرًّا في أوربة فتحركت به
ألوف من الآلات في أوسترالية، فليفعل لنا هؤلاء الأولياء مثل هذا في تصرفهم
الروحاني في الكون لعلهم يؤمنون بالله فيتبعوننا أو ينتقم الله لنا منهم بتصرف غيبي،
أقوى من تصرفهم المادي، قبل أن يفتنوا جميع حكامنا وكبرائنا بعلومهم عن ديننا
فلا يبقى من المنتمين له أحد إلا هؤلاء العوام الجاهلون، الذي يصدقونهم فيما
يزعمون.
هذا وإننا قرأنا في صحفنا من أخبار الهند في هذه الأيام عن لاما التبت
(كاهنها البوذي الأكبر) الذي مات من عهد قريب وغيره عجائب وخوارق منها
الحياة بعد الموت والمشي في الهواء، والماديون كالروحيين من الإفرنج يثبتون هذه
الأخبار لصوفية الهند وكهنتهم؛ لأنهم رأوا بأعينهم ولم يروا من صوفية المسلمين
شيئًا مثلها أو يقرب منها، فإلى متى يحسب الجاهلون الغافلون من قراء هذا الكتاب
للسيوطي وما هو شر منه للشعراني وغيره أن ما فيها من هذه الحكايات من حجج
الإسلام ودلائل حقيقته، وإذا لم تكن كذلك فماذا كان من نفعها وفائدة تدوينها إلا
الفتنة في الدين وعبادة غير الله تعالى.
(٥١) أي كتب السيوطي خير:
كان الجلال السيوطي رحمه الله تعالى واسع الاطلاع على كتب السنة والآثار
وعلماء القرون التي قبله والتي ألفت في عصره، كثير العناية بالنقل والجمع من
قديمها وحديثها، وسمينها وغثها بدون تحقيق كما هو الغالب فيمن تتوجه قواه إلى
شيء واحد هو مستعد له بمقتضى المزاج والوراثة وتركيب الدماغ، وكان شغوفًا
بتقوية ما ضعَّفه العلماء من قبل حتى المحدثين منهم مما يوافق بيئة عصره، وما
يعبر عنه في عرف زماننا بالرأي العام، ومنه المبالغة في الإطراء والمناقب،
والخوارق والعجائب وأحسن كتبه ما ينقله عن المتقدمين، وأضرها ما يجمع به
الأمشاج عن المتأخرين والمعاصرين، وخير كتبه لا يستغني عن تنقيح أو (خدمة)
كما يقول الأزهريون في الكتب غير المشروحة ولا المحشية، فمنها الدر المنثور
حشاه بالروايات الإسرائيلية والأحاديث المنكرة وكذا الموضوعة، وهو لا يستغنى
عنه، لو وجد محدث يخرِّج رواياته ويبين ما يصح منها وما لم يصح، ومن كتبه
النافعة الإتقان والجامعان الكبير والصغير ويحتاجان إلى تحقيق ما يصح من
أحاديثهما وما لا يصح أيضًا، ومنها في اللغة المزهر والأشباه والنظائر النحوية،
وقد بالغ الحافظ السخاوي في نقده والطعن فيه فيحتاج كلامه فيه إلى وزن وحكم
عادل.
وجملة القول فيه أنه خدم العلم خدمة كبيرة بقدر طاقته، فجزاه خيرًا على
ما أحسن فيه وأصاب، وعفا عنه وغفر له ما أخطأ فيه بحسن نية، وجعلنا في
كتبه وغيرها ممن قال فيهم: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) .