وضعت مسألة ترجمة القرآن موضع المناظرة والجدال في الجرائد السياسية، فكانت كسائر المناظرات في السياسة الحزبية والأهواء الاجتماعية، خاض فيها من له إلمام بأصول الدين الإسلامي وفروعه ومن لا إلمام له بهما ممن اعتادوا تحكيم آرائهم في كل شيء بما تبيحه لهم فوضى العلم والدين والسياسة في مصر، فكان الجمهور حائرًا لا يستقر له فكر، ولا يستبين له حكم. ثم برز إلى الميدان علماء الأزهر فكانوا مختلفين كغيرهم، وقد أكثروا من نقل عبارات الكتب واختلفوا في فهمها والترجيح بين مدلولاتها، فزادوا الجمهور حيرة على حيرة، واضطرابًا على اضطراب؛ لأنه كلام في مقابلة كلام، وخصام حيث لا مسوغ للخصام، ولم يعرج أحد من الكاتبين على ما هو مثار النزاع في المسألة وهو عمل الحكومة التركية اللادينية، ما حقيقته وما سببه؟ وما موقعه من دين الشعب التركي ومذهبه واعتصامه بهما؟ بيد أن بعض من كتب من العلماء ألقى نظرة عجلى على شعوب الإسلام الأعجمية ليعطيها حقها من حكم ترجمة القرآن بحسب حاجتها في هذا الزمان؛ ولكنه لم يبصر بهذه النظرة العجلى ما عليه هذه الشعوب، وألقى نظرة أثبت منها على الشعوب غير الإسلامية، فأدرك ما للإسلام من الفائدة في إطلاعها على ترجمة القرآن بألسنتها؛ ولكنه لم يحرر الموضوع من كل وجهة، فظلت الحقيقة خفية غير ظاهرة. وقد كنت وفيت هذه المباحث حقها في مواضع من المنار ومن الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم، وجمعت أكثرها في رسالة خاصة، ولما ألح علي الكثيرون من العلماء والفضلاء بكتابة شيء جديد يناسب مقتضى الحال ويُرجى أن يُزيل كل إشكال، شرعت في كتابة مقال طويل جمع بعضه في المطبعة، ثم بدا لي بعد دخول كبار العلماء في المعمعة أن أرجئ إتمامه، وأعجل إلى الجمهور ببيان القضايا القطعية في الموضوع وما يجب على المسلمين منه في هذا العصر، وهو ملخص في عشر مسائل، وسأنشر بعدها ذلك المقال الطويل المفصَّل، الذي يحز في المفصل، ويزيح كل مشكل، ويثبت أن اللغة العربية هي لغة دين الإسلام والمسلمين، ورابطة الأخوة العامة ووسيلة السلام للمؤمنين، بما يفند نزعات الشعوبية وعصبية الجنسية ونزعات الملحدين، ويوحد كلمة العلماء المختلفين، بما يخرج من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذه خلاصته الإجمالية: ١- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن هذا القرآن المحفوظ في قلوب الألوف التي لا تحصى من الحفاظ، المرسوم في ألوف الألوف من المصاحف، هو كلام الله عز وجل المنزَّل على محمد رسول الله وخاتم النبيين، بلسان عربي مبين، مُعجز للخلق أجمعين. ٢- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن هذا القرآن العربي هو أساس دين الله الذي أكمل به ما أوحاه إلى رسله من قبله، وأتم به نعمته على العالمين، وأمر رسوله أن يبلغه كما أنزله عليه بنصه العربي المبين، فبلَّغه كما أمره الله، وأمر أصحابه وأتباعه بإذن الله تعالى أن يبلِّغوا عنه ما بلَّغهم عن الله عز وجل إلى جميع البشر، فبلَّغوا وما زالوا يبلِّغون هذا القرآن بنصه العربي المنزَّل، وما بينه من سنة الرسول الذي جاء به صلى الله عليه وسلم وما استنبطه أئمة العلم من عقائده وأحكامه وآدابه. ٣- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن الله تعالى قد تعبد بهذا القرآن العربي كل من آمن به وبرسوله محمد خاتم النبيين من أجناس البشر تلاوة وتدبرًا وأذكارًا واعتبارًا، وامتثالاً للأوامر، واجتنابًا للمناهي، وحكمًا بين الناس كما قال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: ٣٧) على ما في ذلك من الفروض والواجبات على الأعيان، ومن الفروض والواجبات على الكفاية التي يكفي قيام البعض بها عن قيام الكل، وما فيه من المندوبات والفضائل والآداب الكمالية، فجميع الشعوب الإسلامية تعبد الله به إلى هذا اليوم، وستعبده به إلى ما شاء الله على تفاوت عظيم فيها بين جماعاتهم وأفرادهم في حظهم من هذه العبادة، وبين خير القرون وما يليها. ٤- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن ما فرضه الله تعالى على أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قراءة في الصلاة، فالواجب على كل فرد أن يتلوه بنصه العربي المنزَّل كما أنزل {قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: ٢٨) . ولكن اختلف مدونو الكتب الفقهية بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فيمن عجز من أفراد الأعاجم عن النطق به عربيًّا صحيحًا غير ذي عوج بدون تحريف وتبديل لا يبيحهما له الشرع، فقال بعضهم: إنه في حال العجز تسقط عنه القراءة فيقف ساكتًا مخبتًا خاشعًا لله تعالى، وقال بعضهم: يستبدل بها ذكرًا آخر، وقالت الحنفية: بل يستبدل بها ترجمتها، وجوبًا أو جوازًا (قولان) كما أن العاجز عن القيام في الصلاة يصلي جالسًا، والعاجز عن الجلوس يصلي مضطجعًا، والعاجز عن الركوع والسجود يومئ بهما، ومتى زال العذر في الجميع يرجع المصلي إلى الأصل المفروض بإجماع الأمة. ومن المعروف بالاختبار أن العجز عن النطق بالقرآن العربي نادر قلما يقع إلا لمن أسلم من بعض الأعاجم وهو كبير السن، وقد جرى المسلمون على تعليم أولادهم الفاتحة وبعض السور القصيرة عند تعليمهم أحكام الصلاة وأذكارها في الصغر، فلا يكاد يوجد فيهم من يعجز عن النطق بها، ويضطر أن يستبدل بها ترجمتها فيحتاج إلى هذه الرخصة الحنفية فيها؛ وإنما يحتاج إليها بعض من يدخل في الإسلام كبيرًا إلى أن تنحلَّ عقدة لسانه بالتمرين على اللفظ العربي. ٥- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أنه لا يُباح للمسلمين ترجمة القرآن بلغة أخرى يتعبد بها في الصلاة والتلاوة والتشريع، ويُطلق عليها اسم كلام الله، وكتاب الله، والقرآن الكريم، والقرآن العظيم، والقرآن المجيد، كما سمى الله كتابه العربي، ويستغنى بها عن كتابه المنزل، الذي أرسل به رسوله، وتعبد به أمته، وصرَّحوا بأنه لا يفعل ذلك إلا مجنون أو زنديق؛ ولذلك نرى جميع الشعوب الإسلامية الأعجمية من الترك والفرس والأفغان والهند والجاوة والصين وغيرهم يعلِّمون أولادهم القرآن ويدرسون في مدارسهم الدينية تفاسيره وكتب الحديث والفقه والأصول والنحو والصرف والبلاغة باللغة العربية؛ ولكن أكثر أهل القرون الأخيرة منهم صاروا يفسرونها لطلاب العلم بلغاتهم خلافًا للمتقدمين فلذلك قل المجتهدون والنابغون فيهم، وكثيرًا ما يُرسلون أولادهم إلى مصر أو الحجاز لأجل إتقان اللغة العربية وعلومها. ٦- قد علم من هذه الأصول التي أجمعت عليها الأمة اعتقادًا وعملاً أن إقامة هذا الدين في عباداته وتشريعه وحكومته تتوقف على معرفة اللغة العربية، وأن هذه اللغة قد جعلها شرع الإسلام لغة المسلمين كافة وأوجب عليهم تعلمها، إذ لا يمكن العمل بما ذكر من الإجماع بدونها، وقد صرَّح بهذا الإمام الشافعي في رسالته التي هي أول كتاب صنف في تدوين أصول هذه الشريعة وكذلك الشاطبي في مقاصدها من كتابه الموافقات [١] وبيَّناه في مواضع من المنار والتفسير، وسنزيده بيانًا وإيضاحًا في تفصيل ما في هذا المقال من الإجمال، فلينتظره من يشتبه في شيء منه. ٧- قد ترجم القرآن بعض علماء الإفرنج بأشهر لغاتهم العلمية كالفرنسية والإنكليزية والألمانية والطليانية، وترجمه بعض المسلمين بأشهر لغاتهم الشرقية وبالإنكليزية أيضًا، وفي كل ترجمة من هذه التراجم أغلاط كثيرة مخالفة لمدلولات عباراته اللغوية والشرعية، فتح بها باب للطعن فيه والصدّ عن الإسلام، كما أنها فتحت بابًا آخر لمن اطلع عليها من مستقلي الفكر عرفوا بدخولهم فيه شيئًا كثيرًا من عقائد الإسلام الصحيحة، وحكمه العالية، وأحكامه العادلة، ومقاصده الحكيمة في إصلاح البشر، وحكموا على جميع ما نشره الملاحدة الماديون، ورجال الكنيسة المتعصبون، ودعاة النصرانية المرتزقون، من الكتب والرسائل الكثيرة في الطعن على الإسلام، بأن ما دونوه فيها من المطاعن زور وبهتان، فكثر مادحو الإسلام من علمائهم الأحرار، واهتدى كثير منهم به، واستضاءوا بنوره، ولا تكاد تمر سنة إلا وتجد بعض المستقلين في الفهم منهم يدخلون في الإسلام بالاطلاع على بعض هذه الترجمات أو بمعرفته ممن عرفوهم من المسلمين. ٨- أن ما ترتب على ما ذكر من الترجمات من صلاح وفساد يُوجب على المسلمين وجوبًا كفائيًّا أن يزيدوا ما كان من صلاح قوة وتأييدًا، وأن يفندوا ما حدث من الفساد تفنيدًا؛ وإنما يكون ذلك بترجمته بتلك اللغات كلها ترجمة معنوية صحيحة، إذ كانت الترجمة الحرفية متعذرة وغير مفيدة، كما نبين ذلك بالأدلة والشواهد التي لا تقبل النقض، ولا تُقابل بالرد، وفاقًا لما قررناه من قبل، وهذه الترجمة التي تُعَدُّ - بما ذكرنا من الحاجة إليها - فرض كفاية على المسلمين، لا تسمى قرآنًا ولا يتعبد بتلاوتها، إنما هي خلاصة تفسيرية له تدخل في باب الدفاع عن دين الإسلام من جهة، وفي باب الدعوة إليه من جهة أخرى، وإن كانت الدعوة العامة لا تتوقف عليها كما سنبينه في تفصيل هذه المسألة المجملة. ٩- أن هذه الترجمة لا يرجى أن تكون متقنة ومقبولة عند المسلمين وغيرهم إلا إذا قام بها جماعة من العلماء الراسخين في اللغة العربية، وعلوم الشريعة الإسلامية وتاريخها، ومتقنين للّغات التي يترجمون بها، حتى يكون لها صفة تشبه البلاغات الرسمية الدولية، ولا يتم هذا العمل إلا بإنفاق ألوف كثيرة من الجنبيهات، فلا بد أن تقوم به دولة غنية، أو جمعية قوية، أو يكفله أحد ملوك المسلمين بنفوذه وماله. ١٠- لا جرم أن الدولة المصرية أقدر الدول الإسلامية الحاضرة على أداء هذا الواجب الذي يعد أعظم خدمة للإسلام لدى الشعوب غير الإسلامية، وأن جلالة ملكها المعظم أجدر ملوك المسلمين به، إذ يمكنه أن يبذل في سبيله عشرات الألوف من الجنيهات من الأوقاف الخيرية العامة والخاصة بالأسرة المالكة، وإن احتاج إلى المزيد فإن في ثروة جلالته ما يغني عن فتح اكتتاب له من الأمراء والنبلاء من أسرته وسائر أغنياء مصر وغيرها إن أراد أن يستقل بشرفه، وإلا وجد كثيرًا من المتنافسين بمشاركته فيه، وقد بذل جلالته ألوفًا من الجنيهات لعالم فرنسي جزاء على كتابة تاريخ حديث لمصر، فلا يكثر على جوده أن يبذل أضعافه في سبيل الله والدفاع عن دين الله، وتعميم هداية كتاب الله؛ فإن هذا أفضل ما يمكن أن يعمله للإسلام. فإذا وفق الله تعالى جلالته لتنفيذ هذا العمل الذي نتقرب إلى الله تعالى، ثم إلى مقامه الإسلامي السامي باقتراحه عليه أولاً، فهو أعلم الناس بطريقة التنفيذ له وتأليف الجمعية التي تقوم بالترجمة من علماء الأزهر وغيرهم من العارفين باللغات الأجنبية الحاذقين لها، ووضع النظام لعملهم. وإن كان لدى جلالته مانع من ذلك - وهو ما لا نظنه - فإن هذه الفريضة لا تسقط عنه وعن سائر المسلمين إلا بقيام آخرين بها، وأيًّا ما قام بها يرتفع الإثم عن الآخرين، وحينئذ يجب أن يفكر أهل الغيرة على الدين في الأمر، ويسعوا لتأليف جميعة قوية غنية تقوم به، كجمعية الرابطة الإسلامية العامة التي فكر فيها الخديو السابق لمصر الأمير عباس حلمي ونشرنا نظامها في المنار، لا الجمعية الضعيفة التي وضع أساسها في هذا الشهر بعض المهتمين بالدفاع عن الإسلام، فإن لم يتيسر هذا ولا ذاك فيجب أن يجعل هذا المشروع أهم ما يُعرض على المؤتمر الإسلامي العام في دورته الثانية، إذا وفَّق الله تعالى لإعادته، بما نرجو أن يكون أفضل من بدايته. ويمكن صاحب هذا الاقتراح أن يبين ما ينبغي توخيه في هذه الترجمة لتكون تامة الفائدة بما له من طول الاشتغال بتفسير القرآن الحكيم مدة ثلث قرن أخرج فيها عشرة مجلدات منه بطريقة لم يسبق بها من تحري صحيح المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء السلف، واجتناب الروايات الموضوعة والضعيفة من الإسرائيليات وغيرها، وبيان ما أغفله المفسرون من سياسة الإسلام، وما أرشد إليه القرآن من سنن الاجتماع وأصول العمران، والتزييل بين ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى من سعادة وسيادة بهدايته، وما صاروا إليه من جهالة وضعف بتركها أو التقصير فيها، مع رد شبهات الفلسفة والعلم الحديث ودعاية الإلحاد أو الأديان الأخرى المضادة لها. وإنني أقترح على صاحب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية وغيرهما من كبار علماء الأزهر أن يؤيدوا اقتراحي هذا بتأليف وفد منهم يقابل جلالته ويبسط له ما في هذه الخدمة للإسلام من الفوائد الغر، والمثوبة وعظم الأجر، وحسن الأحدوثة وشرف الذكر، وعسى ألا يصدهم عن هذا السعي أن كان مقترحه والمذكر به أخاهم المخلص المتواضع: ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا ((يتبع بمقال تالٍ))