تجديد جهاده ونظامه، والتعاون عليه بيننا وبين كرام قرائه وخلاصة تاريخه المؤثرة
ما قصَّر منشئ المنار في شيء مما وقف عليه حياته من خدمة الملة والأمة، وأشار إلى مقاصدها الجامعة في فاتحة العدد الأول، بل شمر واستبق، فكان له من التأثير عند خواص العقلاء العارفين بما أصاب المسلمين من الوهن والضعف والتفرق، وبما يحتاجون من الإصلاح الذي تتوقف عليه حياتهم أو نجاتهم من الذل والاستعباد ما لم يسبق له نظير إلا في صيحة (العروة الوثقى) التي تجلت فيها روح موقظ الشرق وحكيم الإسلام (السيد جمال الدين الأفغاني) ببلاغة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده المصري) وكان كل ما صدر منها ١٨ عددًا، هزت القلوب، وأيقظت العقول، وكان الغرض من إنشائها إثارة العالم الإسلامي، وجمع كلمته لدفع عبودية الاستعمار الأوربي، وتجديد دولة إسلامية عزيزة تتولى في ظل حريتها ما يجب من الإصلاح الديني والدنيوي، وكان رأي السيد جمال الدين أن الثورة أقرب الوسائل لتجديد الملة بالعلم الصحيح، والعمل المفيد في ظل الاستقلال والقوة. وأما غرض المنار فهو إعداد الأمة لهذا التجديد، وأول وسائله بيان أمراض الأمة وأسبابها ووصف علاجها، وتأليف الجماعات للتعاون على المعالجة المطلوبة، وكان الأستاذ الإمام أول من ناط أمله به في الإصلاح المطلوب كله، وكان يصرح به في مجالسه لمن يراهم أهلاً لفهمه، أو استعدادًا لطلبه، وهو الذي أغناه عن كتابة وصيته للأمة؛ إذ الوصية لا تكون إلا كلامًا مجملاً لما أنشئ المنار لبيانه مفصلاً، والناس لا يفهمون من الكلام إلا بقدر ما استعدوا لفقهه والاعتبار به، ولا يكون ذلك إلا بالتدريج كما أشار إليه في آخر عبارة له من كتاب كتبه لنا في سنة ١٣٢٠هـ ١٩٠٢ م، وقد نشرناها بخطه منقولاً بالعكس الشمسي منقوشًا بالزنك في ص ١٠٢٣ من تاريخ الأستاذ الإمام وهي: كلمة الأستاذ الإمام في المنار والاشتراك فيه من آخر السطر الأول (الناس في عماية عن النافع، وانكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم يسرعوا بالاشتراك في المنار؛ فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى تغيير الحاضر، بما هو أصلح للآجل، وأعون على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال ذلك الميل في الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاً؛ ولكن ذلك لا يضعف الأمل في نجاح العمل، والسلام، في ١١ سبتمبر سنة ١٩٠٢) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده مضى المنار لطيته، وما زال بتوفيق الله وحوله وقوته يرتقي في كل معراج من معارج عمله، دون كسبه ونظام معيشته، فمنشؤه قد نشأ وشب وشاب على الزهد في الدنيا وجدانًا وعملاً، لا رأيًا وعقلاً، فهو يرى أن الزهد لا يجوز أن يتجاوز شعور القلب إلى التقصير في الكسب، لكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) متفق عليه، وروي بزيادة - اعملوا في أوله - وبهذا الزهد يسر الله له أن ينصرف بكل قواه إلى الإصلاح والتجديد الإسلامي علمًا وبحثًا، ودعوة وحجة، ودفاعًا وإقناعًا، حتى صار موضع ثقة خواص المسلمين غير الخرافيين في العالم الإسلامي كله في إصلاحهم كما قال الأستاذ المراغي شيخ الإسلام الأكبر، وخليفة الأستاذ الإمام على إصلاح الأزهر لمولوي مشير قدوائي من كبراء مسلمي الهند، وقد سأله أن يروي عنه لمسلمي الهند كلمة فيما يجب عليهم من الإصلاح فقال ما خلاصته: إن المسلمين لا يرجى لهم صلاح إلا بالقرآن على الوجه الذي يفسره به المنار، اهـ فإن كان سبقه إلى مثل هذه الكلمة أحد فضلاء الهند منذ ثلث قرن (وهو مولوي محمد إنشاء الله) فالأستاذ الأكبر يقول في إصلاح جميع البشر بدعوة الإسلام التي بثها المنار كلمة أكبر من كلمته للفاضل الهندي، وهي ما كتبه بعد مطالعة (كتاب الوحي المحمدي) في كتاب لمؤلفه وهي: (أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتباكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم وُفِّقْتُمْ لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية عرضًا قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة، وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون، فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يُجازى به المجاهدون) ... إلخ لقد أكبر آخرون من أئمة الأمة في الحكم وفي بالعلم، وخواصها في الرأي والفهم (كتاب الوحي المحمدي) حتى قال بعضهم: إن هذا الكتاب إلهام إلهي، لا علم كسبي لمؤلفه، جديد من علوم القرآن جاء مصداقًا لحديث (لا تنتهي عجائبه) وإنه معجزة جديدة للنبي صلى الله عليه وسلم نفثها في روعه، أو نفخها في روحه جده صلى الله عليه وسلم، وقالوا أقوالاً أخرى كثيرة كبيرة؛ ولكنها تصغر تجاه كلمة الشيخ الأكبر الوجيزة (عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية) ... إلخ، فلو أن غيره ألقى كلمة (خلاصته) لقيل لعله لم يحط بمعناها علمًا. تلك فائدة زهد منشئ المنار في دنياه له وللناس وهي علمية خالصة، وأما مضرة هذا الزهد له فهي مالية خاصة به، ذلك أنها أوصدت أمامه باب طلب الرزق، وفتحت عليه باب الدَّيْن، حتى كادت تقضي على المنار الذي كان مفتاح كل خير، فإنى لم أستطع أن أعنى بنظام إدارته وضبط حسابها ولا مراقبته بنفسي؛ وإنما تركتها من أول يوم لمن لم أحاسبهم عليها، فتعاقب عليها أفراد كان أضرهم بي أقربهم مني، وأشدهم حبًّا لي ومشاركة لي في السراء والضراء؛ ولكنهم أجهل مني بالدنيا وأعجز عن كل عمل لها، فأنا تركت مطالبة قراء المنار بما له عليهم من حق للنفقة عليه لأجل أن أوفيهم حقهم وحق الأمة كاملاً بقدر استطاعتي، وهؤلاء تركوا مطالبتهم بهذا الحق بغير بدل من علم أو عمل، فكانوا يقبلون من أهل الوفاء منهم ما يؤدونه من تلقاء أنفسهم، ولا يطالبون غيرهم من المشتركين ولا يذكرونهم، ولا يدعون أحدًا إلى الاشتراك، بل لا يرسلون المنار إلى كل من طلبه، ويقل في الناس من يؤيد حقًّا لا يطالب به إلحاحًا وإلحافًا، ولا سيما ناسنا المحروم أكثرهم من التربية الدينية العالية، ومن النظام المالي والتعاون على الأعمال العامة، والاهتمام بالإصلاح الملي، وقد سبق لنا في بعض المجلدات بيان درجات المسلمين في الوفاء، وتفاضل شعوبهم، وتفاوت أصنافهم، وطبقات كل شعب فيه، وكان أفضلهم عرب الجزيرة ومسلمو روسية من التتار وغيرهم، ومسلمو السودان، ويليهم مسلمو جاوة وما حولها من العرب والوطنيين، وقد حالت الحرب العامة بيننا وبين مسلمي روسية، ثم أجهزت البولشفية عليهم في دينهم ودنياهم، وصار ديننا على مسلمي جاوة، بل أندونسية كلهم أكثر من غيرهم، ولم نقطع المنار عن الماطلين منهم، بل أفسدت الحرب سائر الشعوب في كل شيء، كل على قدر استعداده وحاله، حتى كادوا يكونون ماديين إباحيين، أو حيوانات شهوانيين، أو وحوشًا مفترسين، وسنحت الفرصة لإصلاح هذا الفساد العام بالإسلام، وهو ما تصدينا له بكتاب (الوحي المحمدي) وأردنا تجديد جهاد المنار لأجله وشرعنا في تجديد جماعة له، ولكن هل يجدد قراؤه مساعدته عليه؟ الجناية المالية على المنار: الحق أقول: إن أشد الناس جناية على مالية المنار هو منشئه المنفرد بتحريره وتصليحه، ويليه من تولوا إدارته من أهله، ويليهم غيرهم ممن تولوا عملاً فيها من كتبة ومحصلين، وكانوا في أول أمرهم غير مخربين ولا معمرين، وكانت إساءة المسيء منهم خفيفة الضرر، ثم كان بدء الإهمال والاختلال منذ رحلتي إلى الهند، فالعراق، فسورية (سنة ١٣٣٠هـ ١٩١٢م) فاستغرقت هذه الرحلة بضعة أشهر أخرج أخي في أثنائها كاتب الإدارة منها، ولم يستبدل به غيره ولا قام بعمله، وكذلك فعل من تولى الإدارة بعده من أهلي، ولم ينفعهم نصحي، أو لم يطيعوا أمري؛ ولكنهم وعدوا وأخلفوا، وهموا وسوفوا فأسرفوا، وما كنت أعلم قدر جنايتهم تفصيلاً، ولا عجز دخل المنار عن نفقته إلا قليلاً، إذ كانوا يأخذونه من دخل المطبعة والمكتبة، حتى إذا ما اشتدت العسرة، وانحصر عمل المطبعة فيما نطبعه لأنفسنا، وعجزت المكتبة عن نفقتها ونفقتنا، وكثر الدَّيْن علينا اضطررت إلى البحث عن مشتركي المنار فوجدت - وقد ذهبت كوارث الحرب بخيرهم وفاء - أن عدم مطالبة الإدارة للباقين بقيمة الاشتراك، قد اتخذه أكثرهم عذرًا لعدم الوفاء، بل ربما حسب بعضهم أنه يُرْسَل إليهم بالمجان، فاستنجدتهم فلم أجد منجدًا، بل استغثتهم فلم أجد غواثًا إلا عند قليل منهم، حتى رأيتني مضطرًا إلى وقف إصدار المنار في سنته القابلة سنة ١٣٥٤، ولو على سبيل التجربة، عسى أن أجد له من يقوم بنفقته من الأوفياء منهم، وكيف أجد بتركه ما لم أجده به؟ رجحت هذا الرأي من أول سنة ١٣٥٣ حتى إذا قاربت الانتهاء عظم علي الأمر، وقد رباني الدين على الثبات واتقاء إبطال عمل أشرع فيه، فرأيت أخيرًا أن أكاشف القراء بحقيقة الأمر؛ فإن أكثرهم لا يعرفه، وقد يعذر نفسه بتقصيرنا ولا يعذرنا، أو يظن كل مقصر منهم أن تقصيره لا يضر المنار لكثرة من يؤدي له حقه، أو يزيدون عليها من أهل الغيرة على الإسلام، وقد علمت أن تأخير صدور بعض أجزائه عن موعدها أو ضياع بعضها على أفراد منهم قد جعلوها سببًا لمنع إرسال الاشتراك عدد سنين، وهو منع لحقنا الكثير الثابت بدون عذر للمانع بحجة منعنا لحقه القليل الذي لم يثبت له وقد يكون بعذر صحيح لنا؛ فإن حق الاشتراك يثبت في كل سنة بدخولها، وقد يكون لعدم سقوط بعض الأجزاء أسباب غير تقصير الإدارة الذي قد يكون لعذر أيضًا، ولم يطلب أحد من المشتركين جزءًا إلا أرسلناه إليه، وقد جرت العادة أن الذي يقضي ما عليه هو الذي يقتضي ما له؛ وإنما يسكت عن المطالبة بما له من يفر من مطالبته بما عليه، والحق حق، عند من يؤمن بالحق. *** الدعوة إلى الصلح والإصلاح وتجديد خدمة الإسلام إنني وقد بينت ما لي وما عليّ، أدعو قراء المنار إلى الصلح عما مضى بمنتهى ما يرضيهم من السماح والفضل، وتجديد عهد التعاون على خدمة الملة والأمة بالوقوف على سواء العدل، بأن يلتزم كل منهم تجديد الاشتراك فيه كتابة يلتزم فيها دفع القيمة في أول السنة كما تفعل الأمم التي سادت بهذا النظام علينا، أو في أثنائها، وإن كان درجة دون ما قبلها. وأما العهد الماضي فلكل منهم أن يطالبنا بما لم يصل إليه من الأجزاء فنرسله إليه كاملاً، وله في المتأخر عليه من قيمة الاشتراك أن يحاسب نفسه عليه بينه وبين الله تعالى، ثم يؤدي ما يعتقد أنه حق عليه، وإن نقص عما عندنا في دفاترنا، وأن يكون الأداء بحسب استطاعته ناجزًا أو مقسَّطًا بالأسابيع أو الشهور أو السنين، وله أن يصالحنا عليه إن كان معسرًا بإنظاره إلى الميسرة، بأن يلتزم ما يتيسر له نقدًا أو نسيئة مؤجلة، ونبرئ ذمته من الباقي إن طلب الإبراء، ومن كان عاجزًا عن أدائه كله أو بعضه الآن، أو عجز بعد الالتزام، وطالبنا بالعفو عنه، أو الحط عنه أجبناه، مصدقين له فيما يشهد عليه الله الرقيب على كل شيء، والأصل عندنا في قراء المنار حسن الظن، والتماس العذر. وقد أخرنا هذا الجزء استعدادًا لهذه التسوية، وأحصينا ديوننا على الماطلين لأجل نشرها فيه فكانت مخجلة؛ فإن على كثير منهم عشر سنين، أو عشرين سنة أو أكثر، فتركنا نشرها، واخترنا ما بَيَّنَّا، وإنا مرسلون فيه وثائق طلب الاشتراك مطبوعة لكل منهم لأجل إمضائها وإعادتها إلينا، ونرجو أن يكتب إلينا بما يختار من أمر الماضي، وسنرسل الجزء الأول من المجلد ٣٥ لمن يعيدونها إلينا موقعة بخطوطهم، متعاونين معنا على تجديد الإصلاح، متعاهدين على الوفاء والنظام، وتجديد هداية الإسلام، وسنعرض عليهم نظام الدعوة وجمع الكلمة الذي مهدنا سبيله في العام الماضي. المنار في طوره الجديد كنت أرجو عند إنشاء صحيفة المنار أن تكون ميدانًا تتبارى فيه جياد الأقلام، فيكون لسان حالهم في مسائل الإصلاح، وجدد التجديد الديني والاجتماعي والأدبي. صرحت بذلك في بيان المقاصد العامة من فاتحتها، ولكن كاد يشتهر في الناس أن المنار وقف أهلي حبس تحريره على صاحبه؛ وإنما هو وقف خيري عام للمصلحين والمجددين، فأنا أدعوهم وقد كثر في هذا العهد عددهم إلى ما دعوتهم إليه منذ بضع وثلاثين سنة إذا كانوا قليلي العدد، وأحتكر لنفسي تفسير القرآن الحكيم المطول، والتفسير المختصر المفيد لكثرة إلحاح الأمة عليّ بإنجازهما على المنهج الذي فضلوه على غيره، وكذا الفتوى العامة بالدليل إلا أن يتصدى أحد لمساعدتي عليها، وأفتح سائر الأبواب لمن أراد دخولها من أهلها، إذ لم يعد وقتي يأذن لي بإعطائها حقها، وأرى الأمة في أشد الحاجة إلى ما يأتي منها.