للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة هندية
وردت هذه الأسئلة الستة من الهند على الأستاذ الإمام مفتي الإسلام في مصر
فأرسلها إلينا لنجيب عنها لكثرة الشواغل عنده، ولثقته بتحري تلميذه الصواب.
* * *
تلقيح للجدري والطاعون وغيرهما
(س٧٣) الطبيب المولوي نور الدين المفتي في بنجاب (الهند) : أيجوز
التلقيح للجدري والطاعون والهواء الأصفر (أي الهيضة الوبائية) والإفرنجي
مثلاً.
(ج) لا وجه لتحريم التلقيح لهذه الأمراض ولغيرها، فإن التلقيح ضرب
من ضروب الوقاية الثابتة بالتجربة الصحيحة المتواترة، وتوقي المضارّ واجب
شرعًا بالإجماع، فما تعين سببًا للوقاية وجب الأخذ به عند ظن التعرض للضرر،
وما جاز أن يكون سببًا تجوز تجربته إذا لم يكن في التجربة محظور آخر كضرر
محقق أو مظنون , إذ لا يجوز ارتكاب الضرر لتوهم المنفعة. وهذه المسائل ترجع
إلى قاعدة وجوب دفع المضار وجلب المنافع، وقاعدة تعارض المعلوم
والموهوم، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين. وعلماء هذه الديار متفقون على
جواز التلقيح لأجل الوقاية من الجدري، حتى إنه لا يقبل في الجامع الأزهر
تلميذ إلا إذا لقح بلقاح الجدري.
* * *
التداوي بالأدوية الإفرنجية
(س ٧٤) ومنه: أيجوز التداوي بالأدوية الإفرنجية وفيها الكحول وأنواع من
الرطوبات المحرمة؟
(ج) يجوز التداوي بكل ما ثبت للطبيب فائدته في إزالة المرض أو تخفيفه
عملاً بعموم ما أجمعوا عليه من جواز التداوي، ولا يستثنى إلا ما حرم بالنص
كالخمر ولحم الخنزير إذا كان غيره يقوم مقامه ويستغنى به في التداوي عنه , وأما
إذا تعين دواء فإنه يصير مضطرًّا إليه {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: ١٧٣) وأما الكحول فليس محرمًا بالنص ولا وجه لتحريم كل ما كان
جزءًبا طبيعيًّا أو كيماويًّا من الخمر، وإنما يحرم كل مسكر وكل ضار، والدواء
نافع غير مسكر، فلا وجه للقول بتحريمه، إلا من يستحل التشريع بفلسفته فيحرم
برأيه ما جعله الله سببًا لمنفعة الناس. وقد سئلنا من قبل عن طهارة هذا الكحول أو
الغول ونجاسته فبينا بالدلائل الواضحة أنه طاهر، فليراجع ذلك في المجلد الرابع من
المنار.
* * *
الشهادة بالتلغراف
(س ٧٥) ومنه: أتجوز الشهادة بالتلغراف وعليه المجوس والنصارى؟
(ج) خبر التلغراف لا يسمى شهادة عند الفقهاء فلا يعملون به فيما يتوقف
إثباته على شهادة الشهود وإنما هو خبر كالكتابة، فينبغي أن يعمل به حيث يعمل
بالكتابة بشرطها، وهو الأمن من التزوير؛ فإذا لم يكن هناك ثقة بأن هذا التلغراف
من فلان فكيف يوثق بمضمونه؟ وأما إذا كان هناك ثقة بأن هذا التلغراف من فلان
فحكمه حكم خبره , ولا يخفى أن خبر المجوسي والنصراني يعمل به في إقراره
وفي شهادته على مثله اتفاقًا. هذا ما يظهر من نصوص الفقه وأقيسته. وإذا رجعنا
إلى أصل الكتاب والسنة وحكم التشريع يتجلى لنا أن البينة في الشرع هي كل ما
يتبين به الحق بحيث يثق الحاكم أو غير الحاكم بأن هذا الشيء صحيح أو غير
صحيح , فمن التلغرافات ما ترسله الحكومة إلى عمالها فلا يشُكُّون في صحة
مضمونه وكونه من الحكومة، ومنها ما يرسله تاجر إلى آخر فلا يشك في كونه منه،
ومنها ما يشك في مرسله أو في مضمونه أو فيهما معًا. ولكل خبر حكمه. وما
ذكرناه في معنى البينة قد أوضحه ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) واستدل
عليه بالكتاب والسنة والعقل , فليراجع ذلك فيه أو في ص ١٧٠ من مجلد المنار
الخامس.
* * *
الزكاة والضرائب على الأرض في دار الحرب
(س٧٥) ومنه: النصارى يأخذون من الأراضي في الهند قريبًا من
النصف أو الربع (أي من ريعها) فهل يعد ذلك من أصل ما يجب إخراجه من
العشر أو نصف العشر (وفي أصل السؤال ربع العشر وهو زكاة النقدين)
(ج) إن ما يجب من العشر أو نصف العشر من غلات الأرض هو من مال
الزكاة التي يجب صرفها في مصارفها الثمانية المنصوصة أو ما يوجد منها، فإذا
أخذها عامل الإمام في دار الإسلام برئت منها ذمة صاحب الأرض ووجب على
الإمام أو عامله صرفها لمستحقيها، وإذا لم يأخذها العامل وجب على المالك وضعها
حيث أمر الله. وما يأخذه النصارى وغيرهم على الأرض التي تغلبوا عليها يعد من
الضرائب ولا تسقط به الزكاة , فيجب على المسلم أن يخرجها مما بقي له من الغلة
حتمًا بشرطها.
* * *
انتفاع المرتهن بالمرهون
(س٧٦) ومنه: هل يجوز انتفاع المرتهن بالمرهون؟
(ج) جمهور العلماء ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي على أنه لا يجوز
للمرتهن أن ينتفع بالرهن لأنهم يعدون ذلك من الربا. هذا هو دليلهم وما رووه في
الاحتجاج له من حديث أبي هريرة عند الشافعي والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن
حبان (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) لا يصح
له سند موصول يحتج به، وهو معارض بما احتج به مجيزو الانتفاع , ومنهم أحمد
وإسحق والليث والحسن وهو حديث أبي هريرة عند البخاري وأبي داود
والترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (الظهر يركب
بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب
ويشرب النفقة) فهذا الحديث يدل على أن الانتفاع بالرهن مشروع في الجملة،
وأنه ليس من الربا، فمن أراد الحق بدليله فهو جواز الانتفاع ما لم يكن هناك
احتيال على الربا أو شرط عدم الانتفاع برضا المرتهن ثم غدر وخالف الشرط ,
والله أعلم.
* * *
الحكم بالقوانين الإنكليزية
في الهند
(س٧٧) ومنه: أيجوز للمسلم المستخدّم عند الإنكليز الحكم بالقوانين
الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله؟
(ج) إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر، كحكم
المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم , وحكم الحاكمين بها والفرق بين دار
الحرب ودار الإسلام فيها. وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن
قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذًا بظاهر قوله تعالى: {وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) ويستلزم الحكمُ بتكفير
القاضي الحاكمِ بالقانون تكفيرَ الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين , فإنهم وإن لم
يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم، وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها،
ويقول الحاكم من هؤلاء: أحكم باسم الأمير فلان لأنني نائب عنه بإذنه , ويطلقون
على الأمير لفظ (الشارع) .
أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد
قط، فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقًا، سواء حكم بغير ما أنزل
الله تعالى أم لا، وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون
الفساق بالمعاصي ومنها الحكم بغير ما أنزل الله. واختلف أهل السنة في الآية،
فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ
وابن مردويه عن ابن عباس قال: (إنما أنزل الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: ٤٤) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ} (المائدة: ٤٥) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: ٤٧) في اليهود خاصة) . وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال:
(الثلاث الآيات التي في المائدة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: ٤٤) ...
إلخ، ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار) وذهب بعضهم إلى أن
الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين , والثانية التي فيها الحكم بالظلم لليهود ,
والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى , وهو ظاهر السياق. وذهب آخرون إلى
العموم فيها كلها , ويؤيده قول حذيفة لمن قال: إنها كلها في بني إسرائيل: (نِعم
الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة , كلا والله لتسلكن سبيلهم
قدّ الشراك) . رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه , وأولَ هذا الفريق
الآية بتأويلين:
فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي
الذي هو الخروج من الملة، واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه ,
والبيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى
الآيات الثلاث: (إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه , إنه ليس كفرًا ينقل عن المللة ,
كفر دون كفر) .
وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة، وهو
أن من لم يحكم بما أنزل الله منكرًا له أو راغبًا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه
بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان. ولعمري إن الشبهة في
الأمراء الواضعين للقوانين أشد , والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا
يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمنًا مذعنًا لدين الله يعتقد أن كتابه
يفرض عليه حكمًا، ثم هو يغيره باختياره، ويستبدل به حكمًا آخر بإرادته إعراضًا
عنه، وتفضيلاً لغيره عليه، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه. والظاهر أن الواجب
على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه
مخالفًا لحكم الله، ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه , فإن لم يقدروا فالدار
لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر، وللأحكام فيها حكم آخر، وهاهنا يجيء سؤال
السائل، وقبل الجواب عنه لابد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من
المسلمين وهي:
إذا غلب العدوّ على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة , فهل
الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام، ولا يتولوا له عملاً أم لا؟ يظن بعض الناس
أن العمل للكافر لا يحل بحال، والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن
يحكم المسلم إلا المسلم، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة
على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من
هذه الأحكام وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بقدر الإمكان. وبهذا القصد يجوز
له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين
ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصورًا في غيرهم , ومعينًا للمتغلب على الإجهاز
عليهم , وإذا هو تولى لهم العمل وكلف بالحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور بأن
بحكم بما أنزل الله؟
أقول: إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام
العبادات وما في معناها كالنكاح والطلاق، وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما
يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية. والمنزل من الله تعالى في
هذه قليل , وأكثرها موكول إلى الاجتهاد , وأهم المنزل وآكده الحدود في العقوبات ,
وسائر العقوبات تعزير مفوض إلى اجتهاد الحاكم , والربا في الأحكام المدنية. وقد
ورد في السنة النهي عن إقامة الحدود في أرض العدو، وأجاز بعض الأئمة الربا
فيها بل مذهب أبي حنيفة أن جميع العقود الفاسدة جائزة في دار الحرب , واستدل
له بمناحبة (مراهنة) أبي بكر رضي الله عنه لأبيّ بن خلف على أن الروم يغلبون
الفرس في بضع سنين، وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك , وصرحوا بعدم
إقامة الحدود فيها , روي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وحذيفة وغيرهم. وبه قال
أبو حنيفة , قال في أعلام الموقعين: (وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه
والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدوّ ,
وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره، فقال: لا يقام الحد على مسلم في أرض
العدوّ، وقد أتي بسر بن أرطاة برجل من الغزاة قد سرق مجنة فقال: لولا أني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تقطع الأيدي في الغزو)
لقطعتك. رواه أبو داود وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة. روى
سعيد بن منصور في سننه بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب
إلى الناس أن لا يجلدوا أمير جيش ولا سرية ولا رجلاً من المسلمين حدًّا وهو غازٍ
حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء
مثل ذلك , ثم ذكر ترك سعد إقامة حد السكر على أبي محجن في وقعة القادسية ,
وذكر أنه قد يحتج به من يقول: لا حد على مسلم في دار الحرب كما يقول
أبو حنيفة، ولكنه علله تعليلاً آخر ليس هذا محل ذكره، وانظر تعليل عمر تجده
يصح في بلاد الحرب.
فعلم مما تقدم أن الأحكام القضائية التي أنزلها الله تعالى قليلة جدًّا , وقد علمت
ما قيل في إقامتها في دار الحرب لاسيما عند الحنفية , فإذا كانت الحدود لا تقام
هناك , فقد عادت أحكام العقوبات كلها إلى التعزير الذي يفوض إلى اجتهاد الحاكم.
والأحكام المدنية أولى بذلك لأنها اجتهادية أيضًا , والنصوص القطعية فيها عن
الشارع قليلة جدًّا , وإذا رجعت الأحكام هناك إلى الرأي والاجتهاد في تحري العدل
والمصلحة , وأجزنا للمسلم أن يكون حاكمًا عند الحربي في بلاده لأجل مصلحة
المسلمين؛ فالذي يظهر أنه لا بأس من الحكم بقانونه لأجل منفعة المسلمين
ومصلحتهم , فإن كان ذلك القانون ضارًّا بالمسلمين ظالمًا لهم فليس له أن يحكم به
ولا أن يتولى العمل لواضعه إعانة له.
وجملة القول أن دار الحرب ليست محلاًّ لإقامة أحكام الإسلام , ولذلك تجب
الهجرة منها إلا لعذر أو مصلحة للمسلمين يؤمن معها من الفتنة في الدين. وعلى
من أقام أن يخدم المسلمين بقدر طاقته , ويقوي أحكام الإسلام بقدر استطاعته , ولا
وسيلة لتقوية نفوذ الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين مثل تقلد أعمال الحكومة لا سيما
إذا كانت الحكومة متساهلة قريبة من العدل بين جميع الأمم والملل كالحكومة
الإنكليزية. والمعروف أن قوانين هذه الدولة أقرب إلى الشريعة الإسلامية
من غيرها لأنها تفوض أكثر الأمور إلى اجتهاد القضاة , فمن كان أهلاً للقضاء
في الإسلام وتولى القضاء في الهند بصحة قصد وحسن نية يتيسر له أن يخدم
المسلمين خدمة جليلة. وظاهر أن ترك أمثاله من أهل العلم والغيرة للقضاء وغيره
من أعمال الحكومة تأثمًا من العمل بقوانينها يضيع على المسلمين معظم مصالحهم
في دينهم ودنياهم , وما نكب المسلمون في الهند ونحوها وتأخروا عن الوثنيين إلا
بسببب الحرمان من أعمال الحكومة. ولنا العبرة في ذلك بما يجري عليه الأوربيون
في بلاد المسلمين؛ إذ يتوسلون بكل وسيلة إلى تقلد الأحكام , ومتى تقلدوها
حافظوا على مصالح أبناء ملتهم وجنسهم حتى كان من أمرهم في بعض البلاد أن
صاروا أصحاب السيادة الحقيقية فيها , وصار حكامها الأولون آلات في أيديهم.
والظاهر مع هذا كله أن قبول المسلم للعمل في الحكومة الإنكليزية في الهند
(ومثلها ما هو في معناها) وحكمه بقانونها، هو رخصة تدخل في قاعدة ارتكاب
أخف الضررين، إن لم يكن عزيمة يقصد بها تأييد الإسلام وحفظ مصلحة المسلمين.
ذلك إن تعده من باب الضرورة التي نفذ بها حكم الإمام الذي فقد أكثر شروط
الإمامة, والقاضي الذي فقد أهم شروط القضاء , ونحو ذلك. فجميع حكام المسلمين
في أرض الإسلام اليوم حكام ضرورة. وعلم مما تقدم أن من تقلد العمل للحربي
لأجل أن يعيش براتبه فهو ليس من أهل هذه الرخصة فضلاً عن أن يكون من
أصحاب العزيمة , والله أعلم.