للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحياة الزوجية
(٣)

وأما العلم فلا يشترطه في المرأة أحد في بلادنا إلا ثلة من المتعلمين
والمتأدبين على الطريقة الإفرنجية، وقليل من العارفين بكُنه مدنية الإفرنج الذين
يقدرون محاسنها قدرها، وإن لم يتعلموا على طريقتهم. ولا يزال أكثر المسلمين لا
يعقلون لتعليم المرأة فائدة، بل يرونه ضارًّا من جهة واحدة هي عندهم لا تُوازَن ولا
تُقابَل بشيء إلا وتكون أربى منه وأكبر، وهي أن البنت المتعلمة تجرَأ على الرجال،
وتقدم على مكاتبة من تميل إليه من الشبان، وإنه ليوجد في المتعلمات لهذا العهد
من يُحكى عنهن ذلك، ومثل هذه الحكايات تسري، وتذيع بسرعة البرق وتؤخذ
بالتسليم، ويجري فيها القياس للقطع بأن علتها التعلم، وأنه حيث وجدت العلة لزمها
المعلول لا محالة. ولا يمكن إقناع العامة بأن العلم ليس علة لمكاتبة البنات للشبان
يلزم من وجودها الوجود، وإنما هو شرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده
وجود ولا عدم؛ لأن العامة لا تفهم مثل هذه الحجج وخاصة النساء، فالعمدة في
إقناعهم بمزايا تعليم النبات هو ظهور أثره الحسن في المتعلمات بمصر وتونس
وسوريا وغيرها من الأقطار،ولم يظهر. على أن التقليد يفعل في الأمم ما لا
يفعل الإقناع؛ وأشد الناس استعدادًا وقبولاً له الشعب المصري، وإذا وُجد في
أمرائه وكبرائه عناية بتعليم البنات تقليدًا للإفرنج الذين يُعاشرون ويُمازجون، فلا بد
أن يَعُمَّ التقليد جميع الطبقات، وقد ظهرت بوادر ذلك منذ أعوام، وهي تنمو مع
السنين والأيام، فالآباء والأمهات صاروا ينبذون بناتهم إلى المدارس،
وهم لا يدرون ماذا يتعلمن ولا يعرفون ما المصلحة في ذلك إلا أن البنت المتعلمة
يرغب فيها الخاطبون الأغنياء ما لا يرغبون في غيرها، ثم إنهم بهذا الاندفاع لا
يميزون بين مدرسة إسلامية أو غيرها، ولا يفكرون في خطر إفساد عقيدة البنت
وتحويلها عن دينها أو عادات قومها وخلائقهم المميزة لهم، ولا في كونها تطرح الحياء
وتتجرأ على مكاتبة الرجال - كما يعتقدون - لأن تيار التقليد الجارف لا تقف في
طريقه هذه الخواطر إن هي طافت بهذه العقول الضعيفة، والقلوب الميتة التي أعوزتها البصيرة والعزيمة، فلم تجدهما في وراثة ولا تربية. وفي هذا الاندفاع
خطر عظيم على الأمة، كنا ولا نزال نحدث الناس به؛ فيقبله المعتدلون وينبذه
الغلاة في التفرنج، وقد أتيح لنا في هذه الأيام ما يقنعهم وهو ما قاله اللورد كرومر في
تقريره عن مصر لسنة ١٩٠٤، وإننا نذكره هنا لأن بحثنا في الحياة الزوجية إنما
هو من حيث هي ركن لحياة الأمة وسعادتها أو عكس ذلك. قال:
تعليم البنات
(كثيرًا ما أسمع الناس يقيمون الحجج والأقيسة على حمل بعض المسائل
السياسية والإدارية في بَر مصر ويبنونها على فرض أن المصريين لا يزالون
متصفين اليوم بصفات أجدادهم وخصائصهم. وعندي أن هذه الحجج والأقيسة لا
تخلو من سفسطة. فالتغير حاصل ولست أقصد أن أعظمه أو أبالغ فيه، وإنما أقول:
إنه لا يمكن أن كل خلق وصفة من الأخلاق والصفات القومية يتغير تغيرًا تامًّا في
ربع قرن، ولو أمكن ذلك لما كان مستحسنًا؛ لأنه يخشى في مثل هذا التغير السريع
أن يذهب الحَسَنُ من الأمة بجَرِيرَةِ الرديء. ولكن ليكن معلومًا عند الحكام
المصريين وعند كل من له اتصال بأمور مصر أن هناك قوات عاملة قد أثرت في
أخلاق المصريين القومية فغيرتها بعض التغير، وستغيرها أكثر من ذلك على مر
الأيام. وهذه القوات العاملة معظمها يعمل تَدْرِيجًا ويغير رويدًا رويدًا حتى لقد يخفى
عمله عن عيون المراقبين في بعض الأحوال، ولكن بعضها يعمل سريعًا، حتى لقد
غيَّر تغييرًا ظاهرًا محسوسًا.
ومن الشواهد على ذلك تعليم البنات؛ فإن الرأي العام المصري تغير في
هذه الأعوام الأخيرة تغيرًا كليًّا في هذه المسألة الجوهرية العظيمة الشأن. ومما
يزيدنا استعظامًا لهذا التغير في الرأي العام أنه آخر ما كان الناس - حتى الذين
يراقبون منهم أخلاق أهل الشرق أدق مراقبة - يتوقعون حدوثه بمثل ما حدث من
السرعة؛ نظرًا إلى الآراء المعهودة عن مقام المرأة في بلاد مصر. ولكن مصر بلاد
العجائب والغرائب، فلا عجب إذا كَذَّبَ أهلها نبوءات المصلحين الاجتماعيين
بتحولهم عن حال إلى حال؛ تحولاً لم يكن يخطر على بال، فقد كانوا منذ عشر
سنوات لا يُبالون بتعليم البنات، بل ربما استخفُّوا به واستنكفوا منه، ولذلك كانت
كتاتيبهم خالية من بناتهم سنة ١٩٠٠ ما عدا ٢٧١ كُتَّابًا من جملتها الكتاتيب التي
تحت مراقبة الحكومة. وكان عدد كل البنات اللواتي يتعلمن فيها ٢٠٥٠ بنتًا، أما
في سنة ١٩٠٤ فبلغ عدد الكتاتيب التي يتعلمن فيها ١٧٤٨ كُتابًا، وبلغ عددهن فيها
١٠٤٦٢ بنتًا. وأبلغ من ذلك أن ١٠٠ بنت طلبن دخول المدارس الابتدائية العالية
ومدارس تعليم المعلمات بالقاهرة في السنة الماضية؛ فلم يُجَبن إلى طلبهن لعدم
وجود محل لهن فيها. فأحسن خدمة يخدم بها المصريون المعارف والتعليم في
بلادهم تقوم بإنشاء مدارس ابتدائية منظمة للبنات في بنادر القطر.
هذا وإن قلة المعلمات المدربات على التعليم أفضت إلى تأخير تعليم البنات
في جميع فروعه، ولكن العقبات في هذا السبيل أسهل من العقبات التي في سبيل
وجود المعلمين المدربين على التعليم؛ فإن عند نظارة المعارف في المدارس
الابتدائية العالية والكتاتيب عددًا قليلاً من البنات المسلمات الممرنات على التعليم.
وعليه يتسع نطاق تعليم البنات شيئًا فشيئًا وفي مدرسة المعلمات الآن ١٥ تلميذة
ينتهي معظمهن منها في الثلاث سنوات القادمة، وينتظمن في سلك المعلمات. وقد
أخبرت أنهن متى انتهين من المدرسة لم يعسر وجود غيرهن من اللواتي يدرسن
مكانهن.
أما مقدار ما تؤثره هذه النهضة لتعليم البنات في أفكار الجيل المقبل من
بنات مصر وفي أخلاقهن ومقامهن فستُظهره لنا الأيام على مر الأعوام. على أنه إذا
تأتَّى عنها تغيير في مقامهن فالمأمول أن هذا التغيير يكون تدريجًا، وعسى أن
المصلحين الاجتماعيين - من أبناء مصر- يحفظون في أذهانهم قول مَثلهم العربي
(العجلة من الشيطان والتأني من الله) وعلى الأخص في هذه المسألة أكثر مما في
غيرها؛ لأن العجلة فيها يمكن أن تؤدي إلى طامة أدبية عظيمة، على أنه إذا لم
يتغير مقام المرأة المصرية تغيرًا تدريجيًّا فمهما قلد المصريون أهل التمدن الأوربي
ظاهرًا فهيهات أن يتشربوا روح التمدن الأوربي الصحيح بأحسن مظاهره حقيقة)
اهـ كلام اللورد.
فلينظر وليتأمل القارئ البصير كيف عَدَّ هذا السياسي الحكيم تحويل أهل
مصر بسرعة من حال إلى حال في هذه المسألة من العجائب والغرائب، التي لم
تكن تخطر في بال أحد من علماء الاجتماع وكيف أشار إلى أن هذه العجلة شيطانية
ونقول: إن نصيحته هذه للمصلحين من أبناء مصر سيحفظها له التاريخ ويذكرها له
في المستقبل مقرونة بإجلال الفضيلة والإخلاص لا سيما إذا كان إثم الانقلاب المنتظر
أكبر من نفعه كما يتوقع.
كانت حال النساء في أوربا على أسوء ما يخطر في بال البشر من المهانة
والاحتقار ولذلك كان ما يسمونه (رد الفعل) في التحول والانقلاب عظيمًا؛ فبعد أن
كانوا يعتقدون أن المرأة ليست من البشر، وإنما هي حيوان دون الإنسان وفوق
سائر الحيوانات، وبعد أن كانوا يَسُومُونها الخسف، حتى حرموا عليها أكل اللحم،
ومنعوها الكلام والضحك في حضرة الرجال، وأوجبوا عليها السمع والطاعة لزوجها
في كل شيء، ولو كان ضارًّا أو خسيسًا أو شاقًّا لا يطاق؛ أطلقوا لها العنان تتعلم ما
تشاء، وتعمل ما تشاء، وتتهتك كما تشاء وتحكم كما تشاء، حتى صارت تشارك
الرجال في أعمالهم الخاصة خارج البيوت فأهمل من أمر نظام البيوت بقدر ذلك ولا
غنى للبيوت عن النساء، وكل عمل خارجها فهو مستغن بالرجال عنهن، وانتهى
الأمر بكثيرات منهن إلى اختيار التبتل فرارًا من أثقال الزوجية، وناهيك بانتشار
البغاء، وشيوع الفاحشة وما في ذلك من المفاسد والمضرات.
وقد أنشأ العلماء والحكماء يشعرون بخطر هذا الإطلاق لصنف لا همَّ لأفراده
غير الزينة والراحة، واتباع هوى النفس؛ لأن وجدانهن أقوى من عقلهن، ولكن كل
ما يتعلق بصفات الأمم وشؤونها لا يظهر نفعه أو ضرره، ولا يمكن إيجاده أو منعه
إلا في زمن طويل.
ليس من غرضنا في هذا المقال أن نبحث عن أحوال الأمم في انتقالها وتحول
أحوالها، ولا عن حال النساء في أوربا، ومنافع تعليمهن ومضاره، وإنما غرضنا
أن نبين أن العلم الذي ينبغي أن تعرفه المرأة هو ما لا يخرج بها عن كونها امرأة
وهو ما تكون به قرة عين وخير سكن للرجل المتعلم يحسن معها به عيشه ويكون
عونًا لها على تهذيب ولده وإدارة شئون بيته لا ما تكون به فيلسوفة ولا سياسية ولا
صانعة، وهذا ما اختارته أرقى دول أوربا في العلوم والمعارف، وهي دولة ألمانيا
التي ينسب إليها بعض دول أوربا التقصير في تعليم النساء وستضطر كل الدول إلى
سلوك سبيلها في يوم من الأيام.
ليس البيت مملكة فيتوقف عمرانه على العلوم العالية والفنون الصناعية
والزراعية والتجارة، وتتوقف إدارته على معرفة الشرائع والقوانين، وليست
العلاقة بين البيوت كالعلاقة بين الدول فتضطر ربَّة البيت في حفظ حقوقه إلى
التوغل في السياسة والفنون العسكرية، حسب المرأة أن تتقن لغة أمتها وتعرف
آدابها وأن تعرف الحساب وعلم تدبير المنزل، وعلم حفظ الصحة، وعلم الأخلاق
وعلم التربية، وأن يكون هذان العلمان قائمين على أساس الدين مقرونين بمعرفة
عقائده وآدابه وأحكامه والتاريخ العام بالإجمال، وتاريخ أمتها وبلادها بالتفصيل وعلم
تقويم البلدان وعلم الاقتصاد. ثم مبادئ وموضوعات سائر العلوم وفوائدها بقوة
الإجمال، وأن تعرف الطبخ والخياطة والتطريز وما يتصل بذلك، ولا يصدنها عن
هذا أنها من بيوت الأغنياء الذين لا يطبخون طعامهم ولا يخيطون ثيابهم بأيديهم؛ فإن
علمها بذلك وتمرنها عليه نافع بل ضروري، وقد بلغنا أن قيصرة روسيا تحسن
الطبخ والخياطة وكانت فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند تنسج وتخيط
وتطرز، فهذا كمال للنساء إن لم يعملن به فعليهن أن يعلمن كيف يعملن في بيوتهن
ويعرفن نفقته ودرجة جودته، ويحسنّ المراقبة والرياسة على الخدم التي تقوم به.
أما معرفة موضوعات وغايات العلوم والفنون المتداولة في الأمم الحية فلها
فوائد، منها: أن لا تكون عدوة أو كارهة لشيء نافع لقومها فإن من جهل شيئًا عاداه
وكرهه، وأن الإنسان يكون ناقصًا بمقدار ما يجهل من المضار والمنافع. ومنها أن
تعرف قيمة زوجها إذا هي تزوجت بمن يشتغل بعلم أو فن مما يجهل النساء
تفصيله، فإذا رأته يشتغل بتجارب زراعية أو كيماوية مثلاً عرفت فضله في ذلك
ورجت له من الفائدة ما تكون عونًا له على عمله. فإن المرأة التي تجهل قيمة
زوجها المعنوية ومعارفه التي يمتاز بها لا يهنأ لها معه عيش؛ لأنها لا ترى عمله
إلا شاغلاً له عنها؛ كأنه ضرَّة لها وهو لا يهنأ له معها عيش؛ لأنه يراها جاهلة
بقدره، بعيدة عنه في نفسه وعقله. وإن شئت قلت: إنهما يكونان شخصين متباعدين
بالروح والعقل لا يمكن أن تتكون منهما حقيقة الزوجية التي بيَّنّا معناها في النبذة
الأولى. ومن تلك الفوائد أن يكون لها رأي فيما تنصرف وجهة أولادها لإتقانه من
العلوم والفنون بعد التعليم الابتدائي والثاني. وكثيراً ما يموت الوالد وتكون المرأة
هي القيِّمة على أولادها منه فينبغي أن تعرف وجهتهم في المدرسة وغايتهم في
التعليم لتحسن القيام عليهم.
وأما فائدة اللغة وآدابها فهي بديهية لمن يقول بالتعليم، فالمرأة التي لا تفهم لغة أمتها العلمية الأدبية تكون بمنزلة البهائم لا تشعر إلا بالحاجات الجزئية التي أودع
الشعور بها في فطرة كل حيوان، ويكون سكون الرجل العالم الأريب إليها بمقدار
الداعية الحيوانية إلى ملامستها في وقت هذه الداعية، وتكون في سائر الأوقات
كَلاًّ عليه وبلاءً ومصابًا؛ إذ يراها مباينة له في إنسانيته لا تشاركه في حسن
تصوره، ودقة مداركه، ورقة شعوره بالمعاني الأدبية والأفكار الاجتماعية،
ويرى إقناعها بالمسائل المعقولة والمصلحة القطعية متعذرًا أو متعسرًا عليه؛
لأنها ليس لها لغة تعبر عما وراء الضروريات التي يدور عليها كلام العامة، ثم إنه
إذا سافر تنقطع الصلة بينه وبينها لا يكتب إليها ولا تكتب إليه فيما يتعلق بشؤون
البيت ومصلحة العشيرة إلا إعلامًا بالصحة واستعلامًا عنها ونحو ذلك، ويتعذر
عليه أن يشعرها بما يشعر به في سفره من لذة وألم وسرور وكآبة كما يتعذر
عليها ذلك.
وأما فائدة الحساب فلا يجهلها أحد في البشر؛ إلا أن يكون بعض أهل الأزهر
فالمرأة التي تعرفه يمكنها أن تضبط نفقات البيت على القاعدة التي يسمونها
الميزانية، فتجعل الخرج على نسبة إلى الدخل معروفة، فهو عون على الاقتصاد.
وقلما توجد امرأة في الأرض لا تشتري ولا تبيع شيئًا، ولا تعامل أحدًا بالمال،
والنساء اللواتي يملكن المال والعقار والأرض والعروض كثيرات، والإسلام جعل
لهن حق التصرف في أموالهن فالمرأة التي لا تعرف الحساب تكون عرضة للخطأ في
كل معاملة مالية؛ فيغشها البائع والمشتري والوكيل والأجير، ويطمع في اغتيال
مالها زوجها السفيه، ويعبث به ولدها الصغير.
وأما الاقتصاد الذي يعد الحساب من وسائله؛ فهو روح المعاملة وأُسّ النظام
ومِلاك المعيشة ودعامة السعادة. فإذا لم تكن ربة البيت عارفة بهذا الفن عاملة به فلا
يستقيم للمعيشة حال، بل تكون مضطربة بين أمواج الحوادث يتقاذفها اليسر والعسر،
ويتناوبها الغِنى والفقر، وليس الرجل بمغن في اقتصاده عن اقتصاد المرأة عن
رضى واقتناع، ولا رضى ولا اقتناع إلا بالعلم والمعرفة؛ بأن مصلحتها ومصلحة
بيتها في الاقتصاد. ألم تر أن معظم المال يذهب في سرف النساء وخيلائهن، ألم
تسمع أنين الرجال وأطيطهم من ثقل النفقة على ما يبتدع النساء كل حين من الأزياء،
والتنقل في ضروب الحلي والحلل؟ ألم تعلم بأنهن لا يعذرن الرجل؛ إذا قال: لا
أستطيع، لا أقدر، لا أملك، بل ينغصن عيشه، ويسلبن راحته، أو يبذل لهن ما
يطلبن ولو استدانه بالربا الفاحش أو باع لأجله الغالي النفيس بالثمن البخس؟
هذا مما تعرف، فهل لك أن تضم إلى معرفة الداء معرفة العلاج؛ وهو أن
تتزوج بامرأة كاتبة، حاسبة، مقتصدة، وتجعل للبيت بالاتفاق معها ميزانية يكون
الخرج فيها جزءًا من الدخل، وتكون هي المنفقة والقيمة، كما تجعل لأرضك
وعقارك ميزانية تكون أنت المنفِّذ لها، وبذلك تكون امرأتك مقتنعة بأن ما وفر من
الدخل في الحال هو عُدة لها ولأولادها في الاستقبال.
جَرَّبَ كثير من الرجال هذا العلاج فوجدوه نافعًا مفيدًا، ومنهم من أسعده الحظ
به على غير علم بفائدته؛ فأصاب السعادة عفوًا. أعرف رجلاً مسرفًا كان يضيع
كسبه الكثير بغير عقل ولا حساب، ويضطر إلى الدَّيْن حتى أخذ الدَّيْن بتلابيبه؛ لأنه
كان جاهلاً سكورًا فتزوج بفتاة كانت يهودية وأسلمت إسلامًا صحيحًا؛ فما عتم أن
حسُنت حاله فقلَّ سَرفه، وحسن عمله، وقضى دينه ثم صارت له ثروة مدَّخرة.
وحُدثت عن رجل في مصر له راتب من الحكومة لم يكن كافيًا لسعته في نفقاته
الشخصية؛ فتزوج بفتاة متعلمة مهذبة؛ فهو يعيش معها في هناء ونعيم ويقتصد من
راتبه شيئًا يدخره للمستقبل المجهول، بل أعرف غير واحد من الفقراء جعلوا كسبهم
في أيدي نسائهم فكانوا معهن في عيشة راضية يزيد فيها دخلهم على نفقتهم زيادة لها
شأن عندهم.
وإنني أظن أنه يصعب على أكثر النساء أن يبذلن جميع ما في أيديهن من
المال في الأمور الزائدة على الضروريات أو الحاجيات، ولكن يسهل عليهن أن
يبذلن أكثر مما في أيدي أزواجهن إذا كانت النفقة بيده. فالمرأة الجاهلة تقدر على
الحياة الاقتصادية في بيت فقير ولا تقدر على ذلك في بيت غني ولا متوسط إلا
بالعلم وحسن التربية.
وأما علم حفظ الصحة: فهو ضروري لكل إنسان سواء كان يعيش منفردًا أو
زوجًا أو صاحب عيال، ورئيس عشيرة؛ فمن عرف هذا العلم سهل عليه التوقي
من أكثر الأمراض والأوبئة، ووقاية من يعوله منها؛ وإذا هو أصيب بمرض فإنه
يحسن وصفه وبيان أسبابه وكيفية سيره للطبيب؛ فيكون أكبر عون له على
تشخصيه ومعرفة حقيقته، ثم إنه يحسن العمل بما يأمره به الطبيب من المعالجة فربة
البيت الجاهلة بهذا العلم تكون بلاء على نفسها وعلى زوجها وأولادها، ولا يمكن أن
تقل الأمراض والأدواء في أمة إلا إذا تعلم نساؤها هذا العلم، فكم من طفل فتك به
المرض لجهل أمه بمداواة صحته، وكم من امرأة قتلت ولدها أو زوجها بنفس
الأدوية التي وصفها الطبيب لشفائه لجهلها بأسمائها وبمقادير ما يعطى المريض منها.
ولقد يتعسر على المريض العالم أن يحسن معالجة نفسه في بيت قيِّمته جاهلة؛ لأن
أي عمل في البيت لا يتم إلا بها.
وأما علم الأخلاق فهو عون للإنسان على تكميل نفسه في الكبر، وعلم التربية
يتوقف عليه؛ لأن من لا يعرف قوى النفس وكيفية تكوين ملكاتها وانطباع أخلاقها
وطريقة تأديبها وآثار صفاتها ووجدانها فهو لا يعرف معنى الإنسان أو هو ليس
بإنسان كامل؛ فيتعذر عليه تكميل غيره بحسن التربية التي هي أهم ما يجب على
المرأة وأعلى ما يطلب منها.
ويدخل كل ما تقدم في علم تدبير المنزل ما عدا مبادئ الفنون وعلم اللغة التي
هي وسيلة كل علم؛ لأن المراد بتدبير المنزل سياسة أهله وموضوعه حقوق كل من
الزوجين على الآخر وحقوقهما على الأولاد والخدم، وحقوق هؤلاء عليهم وطريق
قيام كل بما يطلبه منه. والمرأة هي ربة البيت ومديرة نظامه؛ فينبغي أن تكون
عارفة بما عليها، ومرشدة للأولاد والخدم إلى ما يجب عليهم تحت رعايتها لينتظم
شأن البيت فتكون العيشة راضية، وليتربى الأولاد بالقدوة الصالحة فيكونوا
أعضاء صحيحة عاملة في الأمة.
ومعرفة التاريخ وتقويم البلدان هي التي تودع حب الأمة في القلب، وتبعث
فيه روح الغيرة؛ فإذا كانت المرأة جاهلة بتاريخ أمتها ومكانتها من غيرها فهي لا
تشعر بأنها عضو من جسد أمة كبيرة، لها حقوق يجب على الأفراد القيام بها،
وعلى الوالدين تربية أولادهم على احترامها، والتنافس في المسابقة إليها، واعتقاد
أنها دعامة الشرف وركن العزة والسيادة. يكون الإنسان كبير النفس، وعظيم الهمة
إذا كان يشعر بأن وجوده غير محصور في مساحة جسمه الصغير، وإنما
هو واسع بروحه المنبثة في عالم كبير يسمى الأمة تعمل له كما يعمل كل عضو في
جسده لمصلحة الجسد كله. ويكون أكبر وأعظم إذا كان يشعر بأن وجوده أوسع
وأرقى؛ لأنه خلق ليعمل ما يفيد البشر كلهم بالتقريب، والجمع بين المختلفين
والتأليف بين المتنافرين وغير ذلك من الأعمال أو يبث العلوم التي ينتفع منها
الجميع. ويكون الإنسان حيوانًا حقيرًا ضيق الوجود؛ إذا كان علمه وعمله مُوَجَّهَيْن
لخدمة شخصه ومن عساه يتصل به اتصالاً محسوسًا كأهله وعشيرته. ومن كانت
هذه حاله فإنه لا يرجى منه أن يربي أولادًا ينفعون أمتهم ووطنهم أو ينفعون الناس
أجمعين. لذلك كان لا بد لكل إنسان من ذكر أو أنثى أن يعرف التاريخ ليتسع
وجوده بقدر استعداده لعله يربي من ينفع الأمة والناس. وعلم تقويم
البلدان في معنى التاريخ، بل هو منه في الأصل ثم صار أصلاً مستقلاًّ، تلك
إشارة إلى ما يطلب من كمال المرأة وتُختار لأجله. وسنكتب كلمة في اختيار
المرأة للرجل.
((يتبع بمقال تالٍ))