رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: * أيها المنتاب من عفره * فحسدته فلما بلغ إلى قوله: يَتَأَيَّى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره قلت له: ما تركت للنابغة شيئًا حيث يقول: إذا ما غدا بالجيش.. البيتين فقال: اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع، وهذا الكلام من أبي نواس دليل بيِّن في أن المعنى يُنقل من صورة إلى صورة، ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئًا لكان قوله: فما أسأت الاتباع محالاً؛ لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ. ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن ههنا معنيين: أحدهما أصل وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدوًّا كان الظفر له وكان هو الغالب، والآخر فرع وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطامع من لحوم القتلى، وقد عمد النابغة إلى الأصل الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب - فذكره صريحًا، وكشف عن وجهه واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى، وأنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحًا فقال - كما ترى -: * ثقة بالشبع من جزره * وعول في الأصل - الذي هو علمها - بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى، ودلالة الفحوى على علمها أن الظفر يكون للممدوح هي في أن قال: (من جزره) وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له، أفيكون شيء أظهر من هذا في النقل عن صورة إلى صورة؟ ارجع إلى النسق، ومن ذلك قول أبي العتاهية: شِيَم فتّحت من المدح ما قد ... كان مستغلِقًا على المُدَّاح مع قول أبي تمام: نظمت له خرز المديح مواهب ... ينفثن في عقد اللسان المقحم وقول أبي وجزة: أتاك المجد من هَنَّا وهنا ... وكنت له كمجتمع السيول مع قول منصور النمري: إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع وقول بشار: الشيب كُره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود مع قول البحتري: تعيب الغانيات عليَّ شيبي ... ومَن لي أن أمتع بالمعيب وقول أبي تمام: يشتاقه من كماله غده ... ويكثر الوجد نحوه الأمس مع قول ابن الرومي: إمام يظل الأمس يُعمل نحوه ... تلفت ملهوف ويشتاقه الغد لا تنظر إلى أنه قال: (يشتاقه الغد) ، فأعاد لفظ أبي تمام، ولكن انظر إلى قوله: (يعمل نحوه تلفت ملهوف) . وقول أبي تمام: لئن ذمت الأعداء سوء صباحها ... فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر [١] مع قول المتنبي: وأنبت منهم ربيع السباع ... فأثنت بإحسانك الشامل وقول أبي تمام: ورب نائي المغاني روحه أبدًا ... لصيق روحي ودانٍ ليس بالداني مع قول المتنبي: لنا ولأهله أبدًا قلوب ... تلاقَى في جسوم ما تلاقى وقول أبي هِفَّان: أصبح الدهر مسيئًا كله ... ما له إلا ابن يحيى حسنه مع قول المتنبي: أزالت بك الأيام عَتبي كأنما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر وقول علي بن جبلة: وأرى الليالي ما طوت من قوتي ... ردته في عظتي وفي أفهامي مع قول ابن المعتز: وما ينتقص من شباب الرجال ... يزد في نُهاها وألبابها وقول بكر بن النطاح: ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتقِ الله سائله مع قول المتنبي: إنك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا وقول البحتري: ومَن ذا يلوم البحر إن بات زاخرًا ... يفيض وصوب المُزْن إن راح يهطل مع قول المتنبي: وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسدُّ طريق العارض الهطل وقول الكِنْدي: عزوا وعز بعزهم من جاوروا ... فهم الذرى وجماجم الهامات إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات مع قول المتنبي: تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما يأخذن منك غوارم وقول أبي تمام: إذا سيفه أضحى على الهام حاكمًا ... غدا العفو منه وهو في السيف حاكم مع قول المتنبي: له من كريم الطبع في الحرب منتضٍ ... ومن عادة الإحسان والصفح غامد ثم احتج المصنف بهذه الأمثلة على أن البلاغة والفصاحة إنما تكون بالنظم والأسلوب، دون خفة اللفظ. ((يتبع بمقال تالٍ))