للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطبة أساس البلاغة

(خير منطوق به أمام كل كلام، وأفضل مصدَّر به كل كتاب، حمد الله
تعالى ومدحه بما تمدّح به نفسه في كتابه الكريم، وقرآنه المجيد، من صفاته
المجراة على اسمه لا على جهة الإيضاح والتفصلة، ولا على سبيل الإبانة والتفرقة؛
إذ ليس بالمشارك في اسمه المبارك {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: ٦٥) وإنما هي تماجيد لذاته المكونة
لجميع الذوات، لا استعانة ثم بالأسباب، ولا استظهار بالأدوات، وأولى ما قُفّي به
حمد الله الصلاة على النبي العربي المستل من سلالة عدنان، المفضل باللسان،
الذي استخزنه الله الفصاحة والبيان، وعلى عترته وصحابته مَدَارِهِ العرب وفحولها
وغرر بني معد وحجولها.
هذا - ولما أنزل الله كتابه مختصًّا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي
تقطعت عليها أعناق العتاق السبق، وَوَنَت عنها خُطا الجياد القرَّح، كان الموفق
من العلماء الأعلام أنصار ملة الإسلام، الذابّين عن بيضة الحنيفية البيضاء
المبرهنين على ما كان من العرب العرباء، حين تحدوا به من الأعراض عن
المعارضة بأسلات ألسنتهم، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم، من كانت مطامح
نظره، ومطارح فكره، الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور
على مناظم الفصحاء، والمخايرة بين متداولات ألفاظهم، ومتعاورات أقوالهم،
والمعايرة بين ما انتقوا منها وانتخلوا، وما انتفوا عنه فلم يتقبلوا، وما استركوا
واستنزلوا، وما استفصحوا واستجزلوا، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه
الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم
احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حَظِيّ، وفهمه فيه جاحظيّ.
وإلى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير إليه محمود بن عمر الزمخشري عفا
الله عنه في تصنيف كتاب (أساس البلاغة) وهو كتاب لم تزل نعام القلوب إليه
زفافة، ورياح الآمال حوله هفافة، وعيون الأفاضل نحوه روامق، وألسنتهم بتمنيه
نواطق، فلبَّت له العربية وما فصح من لغاتها، وملح من بلاغاتها، وما سمع من
الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحلل في نواديها، ومن قراضبة نجد في أكلائها
ومراتعها، ومن سماسرة تهامة في أسواقها ومجامعها، وما تراجزت به السقاة على
أفواه قُلُبها، وتساجعت به الرعاة على شفاه علَبها، وما تقارضته شعراء قيس
وتميم في ساعات المماتنة، وتزاملت به سفراء ثقيف وهذيل في أيام المفاتنة، وما
طولع في بطون الكتب ومتون الدفاتر من روائع ألفاظ مفتَّنة، وجوامع كلم في
أحشائها مجتنة.
ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى
تحت استعمالات المفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها من التراكيب
التي تملح وتحسن، ولا تنقبض عنها الألسن، لجريها رسلات على الأسلات،
ومرورها عذبات على العذبات، ومنها التوقيف، على مناهج التركيب والتأليف،
وتعريف مدارج التركيب والترصيف، بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددًا،
ومتناظمة لا طرائق قِدَدًا، مع الاستكثار من نوابغ الكلم الهادية إلى مراشد حر
المنطق، الدالة على ضالة المنطيق المفلق، ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب
الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة والكناية عن التصريح.
فمن حصل هذه الخصائص، وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان
أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة الواضع وقسطاسها، وأصاب ذروًا من
علم المعاني، وحظي برَسٍّ من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة
وسليقة سليمة، فحُل نثره، وجزل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدمين،
ويخاطر المقرمين، وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً،
يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير
أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا
بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه، والله سبحانه وتعالى
الموفق لإفادة أفاضل المسلمين، ولما يتصل برضا رب العالمين.
(المنار)
نشرنا هذه الخطبة لتكون هادية لطلاب البلاغة إلى منهاجها ومرشدة مريدي
الفصاحة إلى ينابيعها وأثباجها، ولم نفسر ألفاظها الغريبة، ونشرح مغازيها العجيبة
لنبعث همة التلامذة إلى المراجعة والمكاشفة، ونحملهم على المباحثة والمشارفة،
وننصح لهم أن يحفظوها، ثم يقلدوها ويحتذوها، فهكذا فليكتب الكاتبون، وهكذا
فليسمع الساجعون، وإلا فلا.