للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصابنا بالزهراوي والكيلاني

فجعتنا الجرائد المصرية في يوم واحد بنعي الصديقين الوفيين المصلحين
السيدين الجليلين عبد الحميد الزهراوي شهيد بغي الاتحاديين، ومحمد وجيه
الكيلاني شيخ إسلام الفلبين، جاءتنا بذلك في إثر تلك الأنباء التي شقت المرائر،
واستنفدت الدموع من المحاجر، أنباء تقتيل جمال باشا لصفوة أبناء سورية
وأركان النهضة الاجتماعية فيها، فالآن قد صار الفؤاد في غشاء من نبال، فإذا
أصابته سهام أخرى تكسرت النصال على النصال.
خسرت أمة الإسلام وديار الشام وحزب الإصلاح بالزهراوي والكيلاني
رجلين من أفضل رجال العصر عقلاً وذكاء، وأخلاقًا وعلمًا وأدبًا واهتمامًا
بالمصلحة العامة وتقديمًا لها على المصالح الخاصة، وبهذه المزايا تنهض الأمم،
وبفقدها تسقط في مهاوي العدم.
نبت كل منهما في بيت من أكرم بيوتات القطر السوري شرفًا وسؤددًا
وعلمًا ومجدًا، وتربى كل منهما في نشأته الأولى تربية علمية دينية، وأوتي
نصيبًا من العلوم والفنون العصرية، واختبر حال الزمان وأهله، وعرف شدة
حاجة بلاده إلى التأليف بين المختلفين فيها بالأديان والمذاهب والآراء والمشارب
فكانا ركنين من أركان الوفاق، وعاملين من أنفع عوام الإصلاح.
فهذا ما اتفق معنا فيه هذان الصديقان الكريمان، وأما ما اختلف فيه
نشأتهما وسيرتهما فهو أن السيد الزهراوي قد تمرس بالسياسة في حداثته فغلبته
على الاشتغال بغيرها مما كان مستعدًا له كالتوسع والتصنيف في الفلسفة وعلوم
الأخلاق والاجتماع، فكان أفضل ما يرجى نفعه فيه ما وصل إليه من انتخاب
أهل بلاده إياه نائبًا عنهم في مجلس المبعوثين، ولا أقول ثَمَّ تعيين الحكومة إياه
عضوًا في مجلس الأعيان، لأن هذا قد كان بعد جعل الاتحاديين مجلس الأمة
بقسميه آلة لجعل ما تقرره جمعيتهم قوانين نافذة، وأعمالاً منسوبة إلى الأمة،
وكان الغرض منه خديعته وخديعة العرب به، إلى أن تسنح الفرصة لتنفيذ ما
قررته الجمعية من قبل من التنكيل بالعرب والفتك بزعمائهم كما أشرنا إليه في
موضع آخر وسنعود إلى بيانه.
وأما السيد الكيلاني فقد تخرج بالأعمال الإدارية الشرعية فكان من موظفي
مشيخة الإسلام في الآستانة، وبهذا وما سبق من مزاياه كان أفضل من يختار
لما اختير له من جعله شيخا للإسلام في جزائر الفلبين، وكان يتقي شر السياسة
بالمداراة حتى إنه لما عرج على مصر في ذهابه إلى الفلبين تجاهل معرفة
المنار وصاحبه، وهو على مذهبه الإصلاحي ومشربه، لأنه كان يرجو
المساعدة من الخديو وحكومته، وكان الخديو مغاضبا لصاحب المنار من بضع
سنين، وقد أخبرني بعد ذلك أنه كان يفضل طلب المنار من صديقنا السيد محمد
بن عقيل المقيم في سنغافورة على طلبه من مصر، وأنه قد تجدد له من الحاجة
إليه في منصبه الجديد ما لم يكن يعلمه من قبل، وسنعود إلى الكلام في سيرة
هذين الصديقين إن شاء الله.