للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاحتفال الخمسيني لدار العلوم

احتفلت مدرسة دار العلوم في مساء الجمعة ثاني المحرم بمرور خمسين عامًا
على تأسيسها، فحضر احتفالها كبار رجال الحكومة والعلم وشيوخ البرلمان ونوابه،
وكان في مقدمتهم الرئيس الجليل المرحوم سعد باشا زغلول، فافتتح الجلسة
الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس لجنة الاحتفال بخطاب وجيز مفيد، بين
فيه حال المتعلمين قبل إنشاء هذه المدرسة، ووجه الحاجة إلى إنشائها، وقيام
المرحوم علي باشا مبارك بذلك.
وتلاه الخطباء والشعراء من كبار أساتذة المدرسة وبعض طلابها، وكانت
خطبة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار من أنفع تلك الخطب، جامعة بين تاريخ
تأسيس المدرسة والأطوار التي مرت فيها، وبين الفكاهات الأدبية، ومنها نبذ من
إنشاء الكتاب قبل ظهور ثمرات هذه المدرسة، ونوَّه بالإصلاح الأول الذي قام به
الأستاذ الإمام للُّغَةِ والإنشاء , بمساعدة صحبه الذين كانوا أعوانه في تحرير جريدة
الوقائع الرسمية في عهد رياسته للمطبوعات , ومنها الرئيس الجليل.
وإننا ننشر من تلك القصائد الغر قصيدة شاعر البداوة في الحضارة (الشيخ
محمد عبد المطلب) لا لانفرادها بالبلاغة , فالقصائد كلها غر , وناهيك بشعر
الجارم والهراوي الشهيرين؛ ولكن هذه القصيدة امتازت بالرد على خصومنا
الملاحدة الذين يريدون إفساد ديننا ولغاتنا علينا , بشبهة التجديد الذي يزعمونه , وما
هو إلا تجديد الزندقة والإباحة المطلقة.
وقد سرنا أنه لما كان يتلو تلك الأبيات العامرة في الرد عليهم؛ كان الجماهير
يصفقون له تصفيقا شديدًا متواترًا , لا محرك له إلا تصفيق قلوبهم قبله.
وكان في مقدمة المصفقين المرحوم سعد باشا , وهذا نص القصيدة:
لي في ظلالك مسرح ومقيل ... روض أغن ومنزل مأهول
ومعاهد نشر الحياة بها الحيا ... فالعيش أخضر والنعيم ظليل
سر الجمال جمال مصر إذا سرت ... ريح الشمال بها وعب النيل
بلد جريت إلى المنى في ظله ... سبحًا على اللذات وهي شكول
أرد المرابع والمصايف سادرًا ... أختال بين ظلالها وأجول
لي في الصعيد إذا شتوت منازل ... فيها سراة العالمين نزول
بهرت مصانعها الزمان ولم تزل ... للعقل فيها حيرة وذهول
جلست على الآباد في جبرية ... يقف البلى من دونها فيحول
مشتى الملوك مراد أرباب النهى ... هذا يحل بها وذاك يزول
وإذا تربع أسل نجد بالغضا ... أوقاظ منهم بالشريف قبيل
فبغور وادي النيل كل منضر ... للعيش فيه غرة وحجول
فيح إذا نهض القريض لوصفها ... يحلو القريض بوصفها ويطول
أمرابعي والعمر فينان الهوي ... ومراد لهوي والصبا معسول
بالرمل منها منزل أشتاقه ... إن شاق صنوي حومل ودخول
يزهي ظباء النيل روح رياضه ... ونسيم ذاك البحر وهو عليل
أهوي إليه على البخار إذا سرت ... بالمنجدين هوادج وحمول
كالطيف يختلس الظلام إذا سرى ... لمحًا وطرف النجم عنه كليل
وإذا بكى الأثلات يحيى شاقه ... مغنى جفاه بقرقرى ومقيل
غنيت نشوان القريض يهزني ... سدر بريف جهينة ونخيل
أو غردت ورقاء رامة هزها ... حي هناك بذي الأراك حلول
فبجانب الفسطاط من غربيه ... وُرْقٌ لها بالمنيلين هديل
حيث القصور الشم تزهو حولها ... غلب الحدائق والنسيم عليل
والنيل في ثوب المخيلة بينها ... يسطو على جنباتها ويصول
متبهنسًا بين الرياض كما حبا ... ليث العرين دجا عليه الغيل
يا نيل أنت ثراء مصر وغيثها ... والأرض قفر والبلاد محول
بك يرتوي الوادي إذا جف الثرى ... ويبل من صادي الفؤاد غليل
وعلى يمينك بالمنيرة حلة ... للعلم فيها جمة وحفيل
راقت بها دار العلوم موارداً ... تُرْوَى بهن بصائر وعقول
أُمٌّ لنا في المنجبات مهادها ... دعم لمجد بلادها وأصول
أم إذا درج الوليد بحجرها ... فالدين يرعى والبيان يعول
لله در شبيبة كفلتهم ... أم لنا في الأمهات بتول
أخذت علينا منذ أيام الصبا ... عهد الكريم وعهدها مسئول
يا أم عندك في القلوب موثق ... صدق الوفاء بحبله موصول
الدين عهدك والمكارم بيننا ... والعلم والآداب والتنزيل
علمتنا أن الحنيفة ملة ... لا نَهْجُهَا وعر ولا مجهول
تهدي إلى سبل الرشاد إذا هوى ... المفتون بالإلحاد والتضليل
رفعت منار الحق لا يعيا به ... عقل ولا ينجاب عنه دليل
إلا الذين تبوءوا وخم الهوى ... فالنهج أعمى والمناخ وبيل
نزعوا إلى دنس الإباحة فانجلى ... للناس ذاك المنزع المرذول
مازوا الجديد من القديم وما دروا ... أن الجديد من القديم سليل
جلبات إفك في مهالك فتنة ... هوجاء كيد غواتها تضليل
دعوى وما ضربوا لنا مثلاً بها ... يجري عليه من القياس مثيل
وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ... في العقل فهي على السفاه دليل
إن كان ما زعموا قديمًا ديننا ... فليأت منهم بالجديد رسول
أو عَلَّه لغة السماء؟ وإنها ال ... قرآن والتوراة والإنجيل
أو ذلك الأدب الذي شهدت له ... في كل شعب بالجمال عدول
زخرت به أم اللغات ولم تزل ... بعلاه تفترع اللغى وتطول
وسيعلمون إذا الحقيقة أعرضت ... أن الضلالة جندها مخذول
وترى الجديد يصيح في حجراتهم ... يا قوم عن تلك المهالك زولوا
ما في القديم معابة إن لم يكن ... فيه عن السنن السوي عدول
وذر الجديد إذا رأيت سبيله ... عوجًا عن الحق المبين تميل
واسلك سبيلك غير ذي عوج ترد ... شرع الحياة وصفوها مكفول
يا أم كم من شرعة لك في الهدى ... لا وردها رنق ولا مملول
وهديتنا سبل العلوم قواصدًا ... فالغور نجد والحزون سهول
دان القريض لنا فأما روضه ... فجنى وأما صعبه فذلول
ولنا إذا شئنا جزالة جرول ... وإذا نرق فتوبة وجميل
ولربما ملك النديّ خطيبنا ... والجمع يبهر والمقام يهول
وإذا كتاب الله عب عبابه ... قسمت إليه قراوح وفحول
فهناك منا من إذا شاء انبرى ... فدنا المدى وتبين التأويل
يا أم كم لك من يد في شكرها ... يعيا المقال ويعجز التفصيل
أحييت أحياء الجزيرة من نمى ... قحطان من ولد وإسماعيل
فبكل فصل منك مظهر أمة ... من أهلها وبكل يوم جيل
ولو استدار بك الزمان لأصبحت ... لك في عكاظ من البيان فضول
لم تقصري عن أهلها في خير ما ... صنعوا ولم يردد عليك مقول
أو عاد للزوراء عهد بيننا ... هارون يسمع والوفود تقول
لشأوت فرسان القريض إلى المدى ... لم يعدك الترتيب والترتيل
هذا مجالك في البلاغة فاسلكي ... ما شئت نهجك في البيان ذلول
وارعي تلادك أن يحيط به البلى ... فيحول أو ينتابه التبديل
لغة الكتاب وديعة الأحقاب ميراث ... إلى الأعقاب عنك يَئُول
من لم يحط بقديمها لم يعتقد ... علمًا بمجد الشرق وهو أثيل
وخذي المعاني في جمال جديدها ... ما شئت لا حجر ولا تخذيل
وتبختري في الابتداع فإنه ... دين أتى بكتابه جبريل
يا أم إن ملأ القريض بحاره ... فجرى سريع واستطال طويل
وتساجلت في المرسلات يراعها ... فانهل مندفق وفاض سجيل
لم يبلغوا معشار حقك مدحة ... فليقصروا إن المرام جليل
أو ما جريت إلى العلى لم تقصري ... عن غاية والسابقات قليل
خمسين عامًا أو تزيد قضيتها ... والعزم لا واه ولا مفلول
دأبًا على الإخلاص بين حوادث ... للدهر تخترم القوى وتغول
طورًا ينازعها البقاء معوق ... هو للمعارف والعلوم خذول
وتصيبها غول السياسة تارة ... بيد الهوان وللسياسة غول
خصمان مختلفا الهوى فإلى الهدى ... هذي وذاك إلى الضلال يميل
لولا دفاع الله عن أنصاره ... راحت بها في الذاهبات سبيل
فمضت مضاء البحر ليس يعوقه ... وعر ولا يعمى عليه مسيل
تأبى معاتبة الزمان شعارها ... صبر يعوذ به الكريم جميل
لم يعنها عرض الحياة وإنه ... ظل وإن طال المدى سيزول
ما لي وأيامًا مضين غواشمًا ... والدهر ألوى والليالي حول
دار الزمان بمصر دورة مقبل ... فالليل أقمر والرياح قبول
وامتد بالدستور ظل سريرها ... يرعاه ظل الله وهو ظليل
(بقي ١٢ بيتًا في مدح الملك والدستور والبرلمان ورجاله ورئيسه ضاقت
عنها الصحيفة) .