للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من الهند

(س٥ ١١) من صاحب الإمضاء:
سيدي رأيت في حاشية كتاب العلو لابن قدامة المطبوع في مطبعة المنارالأغر
على القصة المروية عن عبد الله بن رواحة مع امرأته رضي الله عنها حيث رأته
مع جارية له قد نال منها، فلامته فجحدها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن،
فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت ... الأبيات، فقالت: آمنت بالله وكذبت
بصري، وكانت لا تحفظ القرآن. كلامًا ما نصه: لا شك عندي في أن الرواية في
هذه المسألة موضوعة ... إلخ. مع أن الحافظ ابن عبد البر قال في الاستيعاب (كما
ذكر ذلك ابن القيم في الجيوش الإسلامية وأقره) : رويناها (يعني القصة) من
وجوه صحاح، فالمسئول إيضاح الصواب.
قوله صلى الله عليه وسلم كل قرض جر نفعًا هو ربا ما هو تفصيل هذا النفع،
ويفعل الغواصون عندنا أمرًا هو أن صحاب السفينة يقرض الذين يغوصون معه
في سفينته؛ بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، وأمرين آخرين (وهما وإن لم يكونا
من باب القرض، لكن نحتاج إلى بيان الحكم فيهما) الأول: أن يبيع صاحب
السفينة من أحد رفقائه سلعة بثمن إلى أجل، على أن يغوص معه في سفينته،
والثاني: هو أن يبيع رجل من آخر صاحب سفينة سلعة بثمن إلى أجل، على أن
يأتي إليه بلؤلؤ ليشتريه، فإذا جاء إليه به (بعد الغوص) فهو بالخيار، إن
تراضيا على ثمن حينئذ باعه منه وإن لم يتراضيا باعه صاحبه حيث شاء، وأدى
ذلك الطلب الذي عليه إلى المذكور، فهل هذه الصورة من صور الرهن؟ وهل
يحرم شيء من ذلك؟ .
ما هي ضربة الغائص المحرمة شرعًا، هل هي كل غوصه، ويفعل
الغواصون عندنا أمرًا؛ هو أن صاحب السفينة يستأجر من يغوص له مدة معلومة (
لا مرات معلومة) بأجرة معلومة، فهل ذلك جائز أم لا، وما العلة في تحريم
ضربة الغائص، هل هي جهالة اللؤلؤ الذي في الصدف أم ما هي أرجوك الجواب
بما يبين به الصواب، وبيان الدليل بما يشفي العليل، أثابكم الله، داعيكم حرر هذه
السطور بطريق الاستعجال، فأرجوكم السماح وغض الطرف، وعلى كل حال
فلسيدي إصلاح ما وقع من خطأ إن كان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... داعيكم
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الصمد الوهبي
* * *
(قصة عبد الله بن رواحة مع امرأته)
(ج٥) إن العبارة التي قلتها ظاهرة في أنها إبداء رأي مني لا نقل عن
المحدثين، وقد بنيت هذا النقل على أصول الدراية، لا على نقد أسانيد تلك الرواية،
فإنني لم أطلع على إسناد ابن عبد البر لهذه القصة، وقد رأيت ما نقله ابن القيم
عن الاستيعاب في الاستيعاب نفسه، ولم يغير رأيي في القصة، وإنني أعلم أنه
ليس كل ما صحح بعض المحدثين سنده يكون صحيحًا في نفسه أو متفقًا على تعديل
رجاله، فكأين من رواية صحح بعضهم سندها، وقال بعضهم بوضعها لعلّة في
متنها أو في سندها، والجرح مقدم على التعديل بشرطه، وقد ذكروا من علامات
الوضع ما ردوا به بعض الروايات الصحيحة الإسناد؛ كرواية مسلم في صلاة
الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات، وروايته في حديث (خلق الله التربة يوم
السبت) ؛ لأن الأولى مخالفة للروايات الصحيحة التي جرى عليها العمل، والثانية
مخالفة للقرآن.
من العبرة في هذا الباب حديث علي كرم الله وجهه في كون النبي صلى الله
عليه وسلم ما كان يقرأ القرآن جنبًا، صححه الترمذي وابن حبان وابن السكن
والبغوي وغيرهم، وقال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه، وقال الخطابي: كان
أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي: خالف الترمذي، أما الأكثرون فضعفوا
هذا الحديث، وعلته من عبد الله بن سلمة راويه، حكى البخاري عن عمرو بن مرة
الراوي له عنه أنه قال: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وقال البيهقي
في قول الشافعي الذي ذكرناه آنفًا: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه
كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة.
ومما يدلك على أن تصحيح ابن عبد البر لتلك القصة لم يعتد به جماهير
العلماء؛ عدم ذكرهم إياه في بحث تحريم القراءة على الجنب، حتى صرح بعض
المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا،
والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة، يعرفه النساء
والرجال، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه. والمعروف الذي تداولوه
وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه، وحديث ابن عمر مرفوعًا: (لا يقرأ
الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف
، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا: (لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا)
، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح
عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب.
لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه
(الإصابة) ، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب، فقد عزاها إلى ابن
عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع
الجارية رجعت، وأخذت الشفرة فلقيها، فقالت: لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها (
أي بالشفرة) فأنكر أنه كان مع الجارية، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأه، فقال:
أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع
قالت: آمنت بالله وكذبت بصري، قال عبد الله بن رواحة: فغدوت على
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، حتى بدت نواجذه، وكأن السيوطي
رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها،
ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة، وفيها أنه لما أنكر على
امرأته، قالت له: اقرأ القرآن؛ فأنشد:
شهدت بإذن الله أن محمدًا ... رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل
وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع، وسنده
إليه ضعيف، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان
وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم: إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن
علي، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل: إن عبد الله بن رواحة أنشده،
الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي:
شهدت بأن وعد الله حق ... وإن النار مسرى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها
أصرح شيء فيه، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها.
أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من
الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز
وجل القائل فيه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر} (الحاقة: ٤١) وإقرار النبي صلى
الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في
بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان
مرتدًّا.
* * *
(حديث كل قرض جر نفعًا)
(ج٦) (حديث كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ضعيف، بل قال الفيروزآبادي:
إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به، كما قال المحدثون وهم أهل هذا
الشأن، وقد بينا ذلك في ص٣٦٢ وما بعدها من مجلد المنار العاشر في سياق
الفتوى في أمانات المصارف (البنوك) ، والنفع عندهم عام يشمل العين والمنفعة،
ولا يحرم إلا إذا اشترط في العقد، وقد بينا هناك في المنار جواز أن يؤدي المدين
أفضل مما أخذ.
* * *
(القرض بالشرط الفاسد)
(ج٧) من أقرض الغواصين بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، كان هذا
الشرط فاسدًا، فإنهم إذا لم يغوصوا معه لا يلزمهم إلا وفاء الدين، بل الظاهر أن
هذا وعد لا شرط، والوعد يجب الوفاء به ديانة لا قضاء عند جماهير الفقهاء، أي أن
الحاكم لا يجبر الواعد أن يفي بوعده، ولا يحكم للموعود بأن الموعود به حق له.
* * *
(البيع بشرط عمل أجنبي عن العقد)
(ج٨) إذا باع صاحب السفينة للغواص سلعة بثمن مؤجل بشرط أن يغوص
معه فجماهير الفقهاء لا يعتدون بهذا الشرط، والقول فيه كالقول في مثله في المسألة
السابقة أي أن قبول المشتري له عبارة عن وعد منه، وهو لا يجب عليه للبائع
غير الثمن المسمى غاص مع غيره أم لا، نعم.. إنه يجب عليه الوفاء بالوعد ولا
سيما لمن تمتع بماله بهذا القصد.
(ج٩) ومثل هذه المسألة ما بعدها؛ وهو أن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل
على أن يأتيه بلؤلؤ ليشتريه منه بالتراضي، فإن لم يتراضوا باع لؤلؤه حيث شاء،
وأدى الثمن، وليس هذا من الرهن في شيء، فللمشتري أن يتصرف في السلعة
ويستهلكها، وليس عليه غير ثمنها إلا الوفاء بوعده ديانة.
* * *
(ضربة الغائص)
(ج١٠) ضربة الغائص التي ورد النهي عنها؛ هي أن يقول الغائص
للتاجر مثلاً: أغوص لك في البحر غوصة، فما أخرجته فهو لك بكذا، قالوا وقد
نهي عنه لما فيه من الغرر؛ ولأنه من بيع المجهول وهو يشبه القمار وهو غير
جائز، ومثله ضربة القانص - أي الصائد - يرمي شبكته في البحر مرة بكذا درهمًا،
والحديث في النهي عن ضربة الغائص ضعيف، رواه أحمد وابن ماجه والبزار
والدارقطني عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: (نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا
بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء
الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) ؛ وشهر بن حوشب مختلف فيه،
حسن البخاري حديثه، وقال ابن عدي: شهر ممن لا يحتج به ولا يتدين بحديثه.
وقد صرح الحافظ ابن حجر بضعف سند الحديث، ولكنهم قووا متنه بالأحاديث
الصحيحة في النهي عن بيع الغرر.
* * *
(استئجار الغواصين)
(ج١١) استئجار الغواص للغوص مدة معلومة أو مرات معدودة جائز؛ لأن
كلا منهما استئجار لعمل معين بأجرة معلومة، والفرق بين ضربة الغائص
والاستئجار للغوص، أن الغواص في الحالة الأولى يبيع شيئًا مجهولاً لا يملكه،
وفي الحالة الثانية يعمل عملاً بأجرة، وليست الأجرة للغوص عدة مرات جائزة
لأجل تعدد المرات، ولا ضربة الغائص ممنوعة لأنها مرة واحدة، بل لما ذكرنا
من الفرق فالضربة والضربات سواء في ذلك البيع وفي هذه الإجارة، والأجير
يستحق الأجرة بمجرد العقد كما صرح به الحنابلة، ويجوز تأخيره بالتراضي،
ولأصحاب الأموال وأصحاب السفن الذين يقرضون الغواصين بتلك الشروط التي لا
علاقة لها بالقرض، ولا تقيم المحاكم لها وزنًا أن يستأجروهم للغوص قبل وقته،
ويعطوهم الأجرة كلها أو بعضها عند العقد أو بعده وقبل زمن الغوص بحسب
الحاجة، فهذه أمثل الطرق إن كانوا يخافون غدرهم وعدم وفائهم. وأما الذين
يقرضون المال لأجل أن يشتروا اللؤلؤ في موسمه، فخير لهم أن يطبقوا معاملتهم
على قواعد السلم إن أمكن.
هذا ما ظهر لنا في أجوبة هذه المسائل بناء على قواعد الفقه المشهورة المبنية
على المعاملات القضائية، وأشرنا إلى أن المتدينين يتعاملون فيما بينهم بالصدق
والوفاء بالوعود، فهم لا يختلفون إذا كان ما تعاقدوا أو تعاهدوا عليه صريحًا
مرضيًّا بينهم، وقد ثبت في الكتاب والسنة وجوب الوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس
عليها برضاهم، وعمل المسلمين بشروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً،
والمحرم في العقود هو الغش والخداع والغرر وكل حيلة يأكل بها الإنسان مال
الآخر بالباطل، وقد شدد بعض الفقهاء كالحنفية في العقود والشروط، ووسع فيها
بعض الحنابلة وفقهاء الحديث، والذي حققه ابن تيمية بالدلائل القوية هو أن كل
عقد وكل شرط لا يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو
جائز، والوفاء به واجب سواء اقتضاه العقد أم لا، وهذا ما نراه ولا نحب أن نطيل
في المنار في مسائل المعاملات الفقهية؛ لأن غرضنا مما ننشره من الأحكام العلمية
في باب الفتاوى وغيره، هو بيان عدل شريعتنا وموافقتها لمصالح الناس في كل
زمان ومكان للرد على الطاعنين فيها وتمكين عقائد الجاهلين من أهلها، وبيان
المسائل الدينية المحضة وحكمها للعلة المذكورة آنفًا.