للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محيي الدين الخياط


التعصب
لحضرة الكاتب الشاعر صاحب الإمضاء

من تأمل بعين البصيرة في سير الأمم والشعوب، والقبائل والبطون، والحلل
والأسر، وما يستتبع ذلك من العز والذل، والرفعة والسقوط، والحياة والممات علم
أن قائد الجميع ومدبر الكل والمحور الذي تدور عليه، والروح الذي يبعثها من العدم
ويجعلها في مصاف الأمم هو (التعصب) ، وما أدراك ما التعصب؟ لعل
القارئ لأول وهلة يستغرب ذلك أشد الاستغراب، حيث إن تلك اللفظة صورتها بعض
الأمم - التي ما قامت لها قائمة إلا بها - بحيوان هائل المنظر، ناشب الأظفار يبطش
بكل من خالفه من بني الإنسان، وما ذلك التصوير إلا لمآرب وغايات، سوف
تتضح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ليسمح القارئ أولاً بتعريف تلك اللفظة، ثم ليتدبر ما نشأ عنها وعن تركها من
رفعة الأمم وانحطاطها وعزها وذلها:
التعصب رابطة تربط القلوب المتفرقة، والآراء المتشتتة، والأهواء المتباينة
والوشائج المتقطعة، إلى أرومة واحدة، تسقى بماء واحد في صعيد واحد.
التعصب به حياة الأمم الميتة، وسعادة الشعوب المضطهدة، ولولاه ما قامت
قائمة لأمة من الأمم، ولا حفظ استقلال لشعب من الشعوب أو جنس من الأجناس.
تأمل بالأسفار من لدن آدم عليه السلام، ترى ما قامت دعوة نبي من الأنبياء
إلا إذا تعصب له من قومه من أدرك كنه الدعوى وذب عن حوزتها، وإلا كان
عرضة لأذاهم وعبثهم بما أتى به، كما جرى لكثير من الأنبياء.
إن الإنسان لا يعيش منفردًا، فهو اجتماعي طبيعة، تأمل لمَ لم يكن الكون
تحت سطلة واحدة، لمَ لم تدخل إنكلترا تحت حوزة روسيا، أو لم يكن الأمر
بالعكس؟ لمَ شعوب البلقان وما جاورها من العناصر دائمًا في نزاع؟ لم لم إلخ.
لم لم تكن الأديان وما يتفرع عنها من المذاهب واحدة؟ لمَ لم يجتمع أصحابها
إلى دين واحد ومذهب واحد؟ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (هود: ١١٨) ولكن..
أما - وسر الاختلاف، وما نشأ عنه من الحِكم التي تحار فيها العقول - ما فرق
تلك الدول عن بعضها البعض (مع أنها من دين واحد كما تزعم) إلا التعصب
لجنسيتها، والتحيز لقبيلها وبالأولى لمذهبها، تأمل بما وصل إليه الرومانيون،
والفينيقيون والعرب الأندلسيون والمصريون وسواهم، بل وبما وصلت إليه أوروبا
الآن من العلوم، وما يتبعها من القوة والمنعة، هل كان ذلك بالانفراد، أو بالعصبية
الجامعة للأفراد؟ .
تأمل بماذا جرّت الحرب على بني الإنسان، هل باعث لذلك سوى التعصب
للطمع أو للاستيلاء أو لإهانة لحقت أو لدين من الأديان؟
تأمل بماذا نشبت حروب القرون الوسطى، هل سبب لذلك سوى تعصب دين
.... على دين.... .
تأمل بماذا اتفقت أوروبا على روسيا في حرب القريم، وعلى الدولة العثمانية
في جملة مواقع أقربها حرب الروسيا الأخيرة وما تلاها من مؤتمر برلين ...
تأمل بماذا أغرت بعض الدول الأرمن والدروز والكريديين على العصيان،
واليونان على احتلال كريد بعد إعطائها الامتياز وتعيين المسيحي (جرجي باشا)
وتنظيم الضابطة من طرف أوروبا، وما نتج عن ذلك من الحرب العثمانية اليونانية،
وتعصب الدول على عدم إنالة الفاتح أرضاً كانت له! ! إلى غير ذلك في كون أن
الدول ابتلعت جملة أراضي من الفاتح وغيره بمجرد وضع اليد أو الاغتصاب، لا
بإراقة دماء واستنزاف أموال.
تأمل لمَ لم تُحَلَّ إلى الآن مسألة كريد، وحبل ثائريها متروك على غاربهم؟
تأمل لمَ بعض الدول متشبثة بتعيين من حورب أبوه لأجلها؟
تأمل لمَ لم تترك صاحبة الملك تفعل ما تريده من إعادة النظام عليها؟
تأمل لمَ لم تترك تبدل عسكرها كما بدل غيرها، كأن عسكرها ليسوا
من الإنسان وليس لهم أهل تتفتت أكبادهم لرؤياهم!!
سبحانك اللهم إن هذا بهتان وظلم عظيم، بل هو ليس من التعصب في شيء.
تأمل لمَ إذا أرادت عمل شيء يعود عليها بالفائدة نصبت لها أوروبا العراقيل
ورمتها بالتعصب، ولا ترمي نفسها! .
تأمل لمَ نشبت الحرب بين أمريكا وأسبانيا الآن، ولم أوروبا تقريباً متألبة
على أمريكا.
تأمل لمَ اتفقت أوروبا على اليابان في حربها مع الصين، ولمَ اتفقت الآن على
ابتلاع الصين بطرق لم نسمع مثلها في آبائنا الأولين؟
تأمل لمَ علائق روسيا وإنكلترا الآن على غير ما يرام؟ .
تأمل لمً إنكلترا طامحة بنظرها إلى ابتلاع السودان، ومجردة عليه من جيوش
التمدن لا التعصب براكين النيران؟ .
تأمل لمَ كانت الجرائد الأوروبية وغيرها مختلفة النزعات متباينة المشارب،
وكل يوم تنشب بينها الحروب القلمية بمقذوفات الأفكار وسهامها، لا بمقذوفات
المدافع ونيرانها، كل يدافع عن أهوائه، ويدعي العصمة لآرائه: هذه لسان حال
البرنس فلان، وهذه لسان اللورد فلان، وهذه للمحافظين، وهذه للأحرار، وهذه
للاشتراكيين، وهذه للعملة، وهذه للأسرة المالكة وهذه وهذه إلخ.
أقول والصدق خير ما يقال: حبذا حبذا زمن التعصب، حبذا حبذا تلك الأيام
التي مرت كأنها أحلام، أيام كنا والقول قولنا، والقوة قوتنا، والأمر والنهي بيدنا،
ومع ذلك لم نعبث بما كان تحت سلطتنا مما يخالف ديننا، ولم نتألب عليه، بل
عاملناه بمقتضى الشرع الذي يأمر بالعدل والإحسان لجميع بني الإنسان (لهم ما لنا
وعليهم ما علينا) وكم حملت دولتنا من ملوك الدول المتألبة علينا الآن ما لا نطيل
بذكره فانتثر بهذا الوقت عقد {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: ٤٦) سنة
الله في الخلق {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١٤٠) ، نثرنا ذلك
العقد حتى لا يرمى منا أحد بالتعصب، الذي به قوام الجامعة الدينية، الدنيوية
فصدقت علينا هذه الجملة (تركنا الدنيا والدين حتى لا ندعى متعصبين) .
أما - وسر التعصب وما به من الاتحاد - إن أوروبا ما خلقت لنا تلك اللفظة
وصورتها لنا بغير صورتها الحقيقة ورمتنا بها إلا لتفريق شملنا وتبديد كلمتنا وتمزيق
قوتنا وحل رابطتنا الدينية، لتقوى على أخذنا بسهولة، مما يعلم ذلك كله
الخبير، وفي هذا القدر كفاية، ولعلني أغتنم الفرص وأحدث بما يخطر لي من هذا
القبيل والله الموفق.
... ... ... ... ... ... ... ... (محيي الدين الخياط)
(المنار)
إن كلام الكاتب الفاضل في التعصب المطلق، فيدخل فيه الديني والجنسي،
وقد ذكر من آثاره ما هو مذموم وما هو ممدوح، يحتج ببعض ذلك على منفعة
التعصب، وببعضه على تلبس أوروبا به على إطلاقه، ومزج القول في ذلك مزجاً،
وما يؤخذ عليه فيه من جماهير علماء الدين قوله: إن دعوة الأنبياء ما قامت إلا
بالتعصب، وقد تبع في ذلك الحكيم الإسلامي ابن خلدون، والجماهير يقولون: إن
الدعوة قامت بالتأييد الإلهي، وإنما الفتوحات التي اتسعت بها سلطة الدين هي التي
قامت بالعصبية كما تقتضيه طبيعة الملك، ولعلنا نبسط الكلام في هذا الموضوع في
فرصة أخرى، والله الموفق وبه المستعان.