قال بعد رسوم الخطاب: إني من الذين قدّر الله لهم الاستفادة بالمنار من ابتداء ظهوره، وإني أعد انتشاره خدمة مهمة للإسلام فسعيت حتى وجدت له مشتركين في خانيه (كريت) ثم في فاس ومنذ بلوغي هذه الديار مازلت أُشَوِّق الناس إلى اقتناء المنار حتى كدت أن أيأس غير أني وفقت أخيرًا إلى مشترك واحد. ولما جاءتنا المجلة أطلعت عليها كثيرًا منهم فوجدوا مباحثها موافقة لإخباري وأخذوا يطالعونها بكل ارتياح رغمًا عن قلة معرفتهم بالعربية. ولهذا السبب أرجو أن ستؤثر تعليماتكم المفيدة فيهم؛ لأنهم أحوج المسلمين إليها؛ لفشو الجهْل بينهم وتأصل الغباوة في رؤوسهم ولانقطاع علائقهم بالشرق الإسلامي لبعد المسافة ولفقدان الحمية الدينية منهم. وبما أن المنار الأغر مشتغل بأحوال المسلمين عمومًا فيجب عليَّ إخبار الشيخ أعزّه الله بأحوال هذه البلاد مع الاختصار فأقول: إن عدد السكان في هذا القطر يبلغ ثلاثة ملايين، نصفهم أو ما يقرب من ذلك على دين الإسلام كما تحققت ذلك في خلال أسفاري في الأرياف على أنه قبل عصر واحد بالتقريب كان عُشر السكان على هذا الدين. وذلك الانتشار السريع لم يحصل إلا بعد تملك إنكلترا للبلاد. وأما عاصمة القطر (فري تاون) فيبلغ أهل الإسلام فيها عشرة آلاف نسمة وهذا العدد نحو ثلث السكان. والجماعة الإسلامية مركبة من أقوام مختلفة أكثرهم عددًا قوم آكو وهم من الأرقاء الذين ركبوا البحر من سواحل لاغوس قبل مائة سنة فأنقذهم الإنكليز في الطريق وأسكنوهم هنا في حيين (حارتين - فولاتون وفوربي) على أن هؤلاء القوم لا يتفقون أبدًا فالعداوة متمكنة بينهم خصوصًا أهل فوربي الذين لا تنقطع من بينهم المخاصمات والمشاغبات بحيث إن المحاكم الإنكليزية قد ملتهم بسبب مخاصماتهم المستمرة والبعض من أهل هذا الحي لا يتقربون إلى الجامع لما لهم من العداوة مع إخوانهم. وفي هذه المدينة أربعة جوامع وأربع مدارس كل واحد منها مخصوص بقوم منهم والمدارس تأخذ إعانة من الحكومة (٢٢٠ ليرة للجميع في السنة) ولما جئت ووجدت طريقة التدريس معوجة في الدرجة القصوى وعرفت أنه لا يمكن للتلميذ أن يفهم شيئًا من العربية مهما طالت مدة التدريس صممت على تبديلها بالطريقة السهلة وإرشاد معلميهم إلى أصول التعليم ولا سيما توجيه نظرهم إلى أخلاق التلامذة وسلوكهم السيئ ولكني لم أصب آذانًا واعية بل قابلوا اقتراحاتي بالإعراض. ومع ذلك فإني ما سئمت ولكن ظللت ناصحًا لهم ملحًّا في بياناتي حتى إني وفقت إلى استمالة بعض الشبان من أهل فولاتون ومنهم ذاك المشترك. وبعد قراءة فصول المنار أخذت في تفسير مباحثه من دينية واجتماعية وأن الطريق التي يرشد إليها المنار هي التي لا أزال ساعيًا في إدخالهم فيها. على أن إقبالهم على المجلة وإحلالهم إياها محل الاعتبار قد جدد آمالي. وقصدي أن أستمر على وعظهم بالمنار. وأما أهل فوربي فإنهم أعرضوا عني كل الإعراض وصرحوا لي بأنهم لا يرضون أن يسمعوا الوعظ في جامعهم مع أن هذه الأيام أيام رمضان ينبغي فيها تكثير الوعظ وتكرير التذكير خصوصًا مع فقدان الوعاظ من جوامع هذه البلاد ولا تسل يا سيدي عما هنا من الأمور المخالفة للشرع وللآداب الإسلامية التي يعمل بها عندنا في الشرق أقل الناس إيمانًا وأضعفهم اعتقادًا فهؤلاء السودانيون يباينون الديانة الإسلامية على خط مستقيم في أكثر الأمور بل فيها جميعًا ولا يريدون التحلي بتلك الآداب المحمدية بل يفضلون عليها عبادات أجدادهم المجوس! وأخبركم أيضًا أن هنا رجلاً من نصارى الزنوج اسمه الدكتور بلائدن اشتهر في إنكلترا وأميركا بمعارفه الواسعة وبتدقيقاته العميقة في دين الإسلام وله مؤلفات معتبرة أشهرها (النصرانية والإسلام وجنس الزنوج) فذكر فيه من الخبر ما أدعي أنا أنه لم يصل إلى درجته فيه أحد من علماء أوربا في الاعتراف بمحاسن ديننا وفضائله وله إلمام بالعربية؛ فلذا أسعى في الصلة بينه وبين المنار. وهو يقول في وجوه المسيحيين: إنهم عبثًا يسعون في تنصير الزنوج لكون هذه البلاد دار الإسلام. ومن الأسف أن لا يعرف العالم الإسلامي هذا الرجل! واحترازًا من التصديع أوجز الكلام فأقول: أرجو من سيادة الشيخ أن يكتب بضعة أسطر في أحوال هذه البلاد لإيقاظ المسلمين من غفلتهم ناصحًا إياهم أن يتركوا الطريقة القديمة في مدارسهم، وأن يدخلوا فيها الكتب النافعة من مصر وغيرها؛ إذ لا يمكن تدريس العربية بلا كتب مع كثرتها اليوم في الشرق وأن يصيخوا لنصيحة من يدلونهم على طريق الخير والصلاح. على أن الدجالين يجدون عندهم كل ترحيب واعتبار وهم المغاربة وسكان الصحراء ومعلوم أنهم لا يقدرون على نفعهم ولو أرادوا ذلك لكونهم محرومين من جميع أسباب الترقي وفاقد الشيء لا يعطيه كما قال الأستاذ. والمأمول أن حضرة الشيخ سيُسْدي النصيحة لهؤلاء البسطاء العقول كما يسديها لغيرهم لعل الذكرى تكون نافعة لهم.