للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

(٣١) من هيلانة إلى أراسم في ٤ أغسطس سنة - ١٨٥
لا أزال أشعر في نفسي بكثرة الضعف حتى إني في تحرير هذا المكتوب إليك
لم أستطع أن أكتبه مرة واحدة , بل كنت أراوح فيه بين الكتابة والاستراحة عدة
مرات.
كنت لزمت الفراش اثني عشر يومًا موافقة للعادة المتبعة في معظم جهات
إنكلترا والآن أصبحت قادرة على القيام والمشي في البيت قليلاً , وصرت مثلك
أجيل ناظري وفكري وأسيح بهما فيما حولي وإني أجد لذة في حبسي لأني أنوي به
مشاركتك في حبسك.
أيكون من الوهم أن أحسب أن أميل ما لبث أن عرفني؟ كلا فإني لا أجيز
لنفسي مطلقًا أن تعتقد أني لست في نظره (إلا ثديًا مملوءًا لبنًا) على قول أحد
العلماء , على أني أعترف اعترافًا قلبيًّا بأن هذا المولود الضعيف الذي يكاد يكون
جمادًا محتاج إلى أن يأخذ كثيرًا من غيره , ولا يكاد يعطي شيئًا , نعم إن لنا فيه
قرة عين وانشراح صدر , ولكنه ليس له في هذا اختيار , فهو كالزهرة ترتاح لها
النفس ويبتهج برؤيتها الناظر على غير إرادة منها ولا قصد , ومهما كانت حاله
ألست أنا أشد منه أثرة لأني أنا المغتبطة بحبي إياه؟ ثم إني كيف يسعني أن
أرتاب فيما له من الإحسان إلي؟ فإنه قد أعاد لي سكينتي وكف عني ما كنت أجده
من غُربتي ذلك أن خلقي - ولا أخفي عليك - قد خالطه من بضعة أشهر شيء من
الحدة بسبب العزلة والاغتراب , ومن هذا تعلم العلة في غضبي على جورجيا قبل
الآن بأيام على أنها أحسن النساء وأكثرهن التفاتًا لواجبها , وحقيقة الأمر أنها
تستثقل القابلة ولا تطيق النظر إليها , ويوجدها عليها أن تراها قد استحقت نصيبًا
من شكري لأنه من المفروض علينا أن نشكر من يخدمنا.
فهذه الغيرة المنبعثة من قلب مخلص لم يستضئ بنور العلم أهاجت غضبي
عليها فلم أستطع كظم غيظي ولا كف بوادر لساني في تلك الساعة، فما كان أشدني
اندهاشًا وارتياعًا إذ ذاك! فإني لم أكد أفرغ من تقريعها؛ حتى أبصرت وجه أميل قد
صار أحمر كالأرجوان , وطفق يصرخ صراخًا شديدًا , فليت شعري هل انفعالات
الأم تؤثر في نفس الطفل فيكون بكاؤه وتغيره رجعًا لصداها؟ ! أنا والحق أقول قد
ملت من ذلك اليوم إلى اعتقاد ذلك.
وسواء كان هذا الاعتقاد صحيحًا أو فاسدًا فقد عاهدت نفسي على أن أعتبر
بهذه الواقعة وأصبحت من الآن كلما عرض لي ما يكاد يذهب بحلمي أنظر إلى أميل
فيسكن غضبي على الفور إجلالاً لولدي , وإذا كنت قد صرت أحسن خلقًا وأوسع
صدرًا وأملك لنفسي مما كنت قبل فليس ذلك إلا بسببه وبيُمن وجوده اهـ.

(٣٢) من هيلانه إلى أراسم في ٥ أغسطس سنة - ١٨٥
تلقى الدكتور وارنجتون مكتوبك [١] وأطلعني عليه , فرأيتك قد تجنيت على
نفسك إذ قلت أنك ملوم على ما جلبه لي تعيس حظك من الخمول والذل , وأنك
لست جديرًا بأن تكون والدًا.
رويدًا , هون عليك الخطب فإني من عهد أن جمعتنا عقدة النكاح كنت راضية
بكل ما وقع لنا , فهل كان ذلك مني كما تقول ناشئًا من شرف نفسي , أو من رعاية
واجبي , كلا بل كان سببه ما في قلبي لك من صادق الحب وخالص الود , فمن
الجبن والعار أن تأسى اليوم على ما قد كان. أنا لست أشكو أبدًا ما ابتلينا به من
الشدائد والمحن بل إني أزهى بها وأفتخر باحتمالها.
أما ولدنا فقد آن لنا على ما أرى أن نشرع في تربيته، فما هي التربية؟ ومتى
تبتدئ؟ ومتى تنتهي؟ أنا في انتظار جوابك عن ذلك. اهـ
حاشية- أميل مستغرق في نومه وقد قبلته قبلتين في وجنتيه حبًّا لك اهـ.
* * *
(الباب الثاني)
(الولد)
(١) من أراسم إلى هيلانه في ١٠ أغسطس سنة - ١٨٥
تسألينني في خاتمة رسالتك الأخيرة عن التربية متى يكون ابتداؤها فأقول:
يصح أن يبتدأ فيها قبل الولادة بزمن طويل [٢] لأنه من المحقق الذي لا مساغ
للريب فيه أن في أجيال البشر أنواعًا من الاستعداد الوراثي تنتقل من الآباء إلى
الأبناء , فابن المتوحش يولد متوحشًا , وولد البربري يخلق بربريًّا , ومن كان من
أبوين متمدنين فإنه يولد مهيئًا للتمدن.
من ذا الذي لا يرى في هذا أن هناك قوى سابقة لخلق الحياة في الإنسان تحدد
لكل فرد من أفراده درجة ملكاته ومقدارها نوعًا من التحديد؟ إن ما نسميه
بالتصورات الغريزية والقوى الحاسية والمواهب الخلقية والفيض الخفي قد لا يكون
شيئًا آخر سوى ما نتوارثه من حالة العمران، أعني نتيجة عمل العقل في من سبقنا
من القرون , فنحن الراجعون إلى الدنيا بعد الفناء كما تقولين.
إن ظهور أثر أعمال السالفين وأفكارهم في إحدى مثاني مخنا على غير علم
منا , وتنقل المادة الحية من قرن إلى قرن مرتقية على الدوام في صورها بعمل
العقل , وخروج المولود من غيابة الرحم إلى عالم الشهادة بأعضاء كملها التقدم ,
وسواها الترقي - جميع هذه الأمور يغلب على ظني أنها من أسباب النمو التي يصح
ملاحظتها في التربية , ولكن لما كانت عزائمنا ليس لها على مثل هذه الأسباب أدنى
سلطان لعمومها وخروجها عن حد الضبط، كان من العبث البحث فيها.
لكن هناك أحوالاً طبيعية يتأتى للعلم فيما أعتقد أن يتناولها ويغيرها، خلافًا
للأسباب المذكورة، فأي مانع يمنع المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء مثلاً أن يصلوا
يومًا ما إلى تحديد ما لسن الرجل والمرأة وحالتهما الصحية وطريقتهما الغذائية من
التأثير في التناسل؟ وقد وجه فريق من نابغي هذا العلم الذائعي الصيت أنظارهم
إلى هذه الغاية وأعملوا أفكارهم في سبيل الوصول إليها، فإذا أدركوها
وتقرر أنها أصبحت من ثمراته؛ صار علم وظائف الأعضاء فرعًا من فروع علم
التربية النفسية.
إذا علمت مما تقدم أنه من الصعب جدًّا تحديد الزمن الذي تبتدئ فيه التربية
اتضح لك أن تعيين الوقت الذي تنتهي فيه أصعب وأكثر مجازفة لأنها تستغرق
العمر كله.
أما حقيقة التربية وهي أول شيء تسألين عنه فلي أن أجيبك عنها جوابًا سديدًا
وهو: إنها على ما يؤخذ من معنى لفظ التربية اللغوي عبارة عن تكميل عقل
الناشئ , وتهذيب نفسه بإظهار جميع ما استكن فيه من ضروب الاستعداد وأنواع
القوى وإنمائها؛ لأن ذلك اللفظ مأخوذ من (رَبَا) أي: زاد ونما , لكني خشية أن
تخالي في هذا التعريف إبهامًا أعجل بكشف معناه وتقريبه إلى ذهنك فأقول:
أراد جمهور علماء الأخلاق بالتربية الوصول إلى ما تصوروه في الإنسان من
معنى الكمال , فغرضهم منها إيجاد الإنسان الكامل , وهو غرض يظهر لأول نظرة
أنه موافق للعقل تمام الموافقة , لكنه مثار لاعتراضات كثيرة , فلقائل أن يقول: إن
الإنسان الكامل ليس هو إلا صورة خيالية لا تحقق لها في الوجود الخارجي قطعًا
فنحن إذن نحلم به كل على حسب تصوره , فإيانا والتشبث بهذه الصور الوهمية
التي يريد بها الخيال أن يتغلب على الواقع المحقق , فإنه لا شيء أيسر علينا من
تخيل ذات عاقلة , ونعتها بآلاف من نعوت الكمال حتى تكون نموذجًا لجميع
الفضائل , ولكن من لنا بإنزال هذه الذات من السماء وإبرازها لنا إلى عالم الظهور.
مثل هذا الاعتراض على مسألة التربية يكون وجيهًا لو أن الإنسان كان ذاتًا
واجبة الوجود، لكنا في الحقيقة نراه على خلاف ذلك متغيرًا لا يستقر على حالة
واحدة , فإنه وهو في الرحم تتناوبه أطوار جنينية مختلفة , ولا أريد أن أبين لك ما
يتقدم ولادته من الحوادث , وإنما أقول: إن حياته من أولها إلى آخرها ليست إلا
سلسلة استحالات متفاوتة في الحصول سرعة وبطئًا.
ألم تنظري إلى شعره (الذي لا يوجد عادة عند الولادة) كيف يتغير لونه عدة
مرات , وإلى لون جسمه وسمات وجهه , وبنيته كيف أنها تتجدد كلما كبر؟
تأملي في الغلام الصغير عندما تبتدئ ثناياه اللبنية في الزوال؛ تجديه قد صار شيخًا
بالنسبة إلى ابن الرابعة أو الخامسة الذي لا تزال لثته مجلاة بجميع لآلئها.
فقد خلق الله (سبحانه) لجميع الكائنات الحية في دور نموها أعضاء وقتية
تتلاشى بعد انقضاء مدتها , وأعد لها أعضاء أخرى تنمو في هذه المدة لتخلف
الأولى , كذلك القوى الجسدية والملكات النفسية تتعاقب , ويخلف بعضها بعضًا على
نظام محدود , فإن المولود يذوق قبل أن يبصر , ويبصر قبل أن يسمع , والذاكرة
فيه تسبق القوة الحاكمة , ووجدانه يكون قبل فكره بزمن طويل , فالحياة من الولادة
إلى الشبيبة , ومن الشبيبة إلى الشيخوخة مظهر قوى تتعاقب , ويحيا بعضها بفناء
بعض , والإنسان من مهده إلى لحده يسلك طريقًا تفرق فيه رفاته , وبددت في
جوانبه بقاياه.
أنى يكون لنا بعد ذلك موقف في هذه الحركة الدائمة؟ وكيف السبيل إلى غاية
ننتهي إليها؟ فالذي أراه هو أن لكل يوم ما فيه , وأن أهم ما تلزم به العناية في علم
التربية هو اختيار ما يناسب كل سن من أنفع طرق النمو وأمثلها , وحينئذ فأنا الآن
أقتصر على الكلام عن التربية في زمن الطفولية اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))