(١٣) (مكدونيا) لا تقرأ صحيفة من صحف الأخبار الطائرة في هذه الأيام [١] إلا وترى فيها ذكر مكدونيا، والقلاقل التي تدوي فيها، وأن أهلها يتطلبون إصلاحات داخلية، أو امتيازات إدارية، وكأنهم طمحوا إلى هذه الرغيبة وسمَوا بأبصارهم إلى تلك الأمنية مُذ رأوا فوز الكريديين، وإنجاح طلبتهم، وما بالهم لم يعتبروا بخيبة الأرمينيين وإخفاق مأمولهم؟ ولا نعلم إذا كان مسلمو الأرنؤوط على وفاق مع ثائري مكدونيا في هذا الطلب، أو ليسوا على وفاق معهم؟ يغلب على الظن أنهم متواطئون جميعًا على القيام بهذا الشأن، وإلا لحصل بين القبيلين جدال أو جلاد، وجرى ما كان يجري بين الأكراد والأرمن مذ تمنى هؤلاء على الدولة الأماني وعارضهم أولئك. وكيف نتيجة حوادث مكدونيا يا ترى؟ يظهر أن مقاطعة مكدونيا ربما نالت إصلاحات خاصة، أو امتيازات داخلية تكون بمثابة استقلال إداري، كما هو الشأن في سائر ولايات البلقان وفي كريد أيضًا، ولا يوجد في طريق هؤلاء من العَثرات ما وجد في طريق الأرمن. ليس بينهم من يأخذ بأكظامهم، ويحفر لهم الحفائر كما كان من مقاومة الأكراد للأرمن، ولا تتاخم بلادهم إحدى الدول القوية؛ لتعارضهم الآن وتمالئ الدولة العلية عليهم، فتزعهم وتنقمهم، وتنتظر هي أن تلتهمهم كما فعلت الروسية مع الأرمن في ثورتهم فإنه يجاورهم من الشمال ولايات البلقان، ومن الجنوب اليونان، وكلهم ليسوا ممن تُرهب صولته، أو تخشى شرته، وإن كانت لهم مهارة في إثارة القلاقل، وحذق في إيقاظ نائم الفتن. نعم إن للنمسا شيئًا من جوار لمكدونيا بواسطة البوسنة والهرسك، غير أن النمسا الآن لا تودّ أن تغيظ الدولة العلية، ولا أن تثير عليها حنق إحدى الدول الأوروبية، فهي تواطئ الروسية في حادثة مكدونيا، وتتابعها متابعة الظل، وسياسة الروسية هي حفظ الحالة الحاضرة في تلك الولاية، بمعنى أن تُبقي على تابعيتها الصرفة للدولة العلية، ولا نعلم إذا كانت تحافظ على سياسة الحياد هذه، أو يبدو لها، فتعضد أهالي مكدونيا، وتروج طلباتهم لدى الدول كما فعلت في كريد. المرجح الأول لما أن القيصر الآن يبذل مجهوده في توسيع نطاق نفوذه في أصقاع الشرق الأقصى، ويهتم في شأن المؤتمر الذي ينظر في المشروع السلمي الذي اقترحه على الدول، فمساعدته لثوار مكدونيا ربما كانت منافية لمشروعه لما ينشأ غالبًا عن تأييد مطالبهم من إيغالهم في الشر والفظائع، وارتكابهم ما يزيل الأمن ويخل بالسلم، وحادثة كريد أقرب شاهد على ما ذكرنا، فقد استبان لك الآن مما تقدم أن مصير مكدونيا في الغالب هو الاستقلال الإداري. أما ولايات الأرمن والأكراد، فمصيرها يتردد بين الاستقلال الإداري وبين الاندماج في السلطة الروسية، وأما الولايات العربية فمصيرها إلى مهاوي التغلب الأجنبي - كل ذلك إذا تقاعدت الحكومات الإسلامية عن الحلاف والمؤازرة، وبقيت الحكومة العثمانية على الحال التي نذوق مرارها ونشاهد آثارها، ونسأل الله تعالى أن يحوِّلها إلى أحسن حال. إذا فار التنور، ووقع المحذور، وتجردت الدولة - لا كان ذلك - عن تلك الولايات، فأجدر بها أن تحافظ على ولاية الأستانة التي هي معدن العنصر التركي، ومهد مفاخره التاريخية، فتنهض القسطنطينية حينئذ بما على جنابتيها من البرّين الرومللي والأناضول نهوض الطير بجناحيه. قال الكاتب: اعْترض الحديث حينئذ بعضُ من حضر، وقال: إن عَجْزَ العثمانيين عن حماية سائر الولايات مؤذِن بعجزهم عن حماية ولاية الأستانة أيضًا؟ فأجبته [٢] : إن نعرة المرء وحفاظه في الدفاع عن جسمه وشواه (أطرافه) تكون أشد من حفاظه في الدفاع عن سرابيله، وقص الذيل والردن أهون على النفس من جدع الأنف وصلم الأذن، فما بالك إذا آنس المرء من آخر غارة في اختلاس مهجته والإيداء بحياته، لا جرم أنه يستميت مستبسلاً، ولا يموت مستسلمًا، ومن أخص غرائز القوم البسالة والحمية، وقد هذبهم الملك، ودَرّبتهم الآداب العسكرية، وفي نصف القرن الماضي (الهجري) قام بينهم رجال اختطُّوا للأتراك خُطط التقدم، وأشرعوا لهم من السياسة وحسن الإدارة مناهج، لو لم يتنكبوها لأشرفت بهم على الغاية، وأوصلتهم إلى بحابح السعادة، حيث ترتع الأمم المتمدنة [٣] ، ونبغ فيهم خطباء، وكتبة أذكياء، فَكّوا عن اللغة التركية أغلال الركاكة والتعقيد، وأطلقوا لسانها في الخطابة، وقلمها في الكتابة، وأشعروا قلوب الناشئين والفتيان حب الحرية والوطن، حتى كثُر اللهج بهاتين الكلمتين بين القوم في أشعارهم، وضروب كتاباتهم، ولا تزال تلك الروح منبعثة في الأمة التركية ما دامت آثار أولئك الكَتبة يدوي صداها في أصماخ الناشئين وتصل نغيتها إلى سويداواتهم - مادام أولئك الناشئون يتذامرون [٤] بمثل قول سياسيهم الشهير: (نحن العثمانيين فتحنا القسطنطينية بثلاثة آلاف رجل، ولا نُسَلِّمها إلا إذا بقي مِنَّا ذلك العدد) . لا تشفقن على تلك الروح من ثقل الضغطة وشدة الوطأة، فإن حجر الماس لا يفتته صدم، ولا يسحقه صك، بل لا يغررك سعي الساعين في إزهاقها، ولا تأميلهم استلالها من بين اللحم والعظم والمصل [٥] والدم، فإن السعي في استعباد الأمة وهضم حقوقها قد يتسنى للعامل بواسطة حجب نور العلم عن عقولها، واستئصال جراثيم الفضائل من نفوسها، لكنّه لن يتسنى له ذلك قط بواسطة محو التعلق من النفوس، واختلاس العقل من الرءوس، وإلا لم يكن راعي بَشَر، بل راعي بقر. هذا المعنى [٦] الذي قام في نفوس العثمانيين وأُشربوه في قلوبهم حلّ من فطرتهم محل الإدراك والنطق. إن قدر أحد على انتزاع الإدراك من الفطرة الآدمية كان قادرًا على انتزاع ذلك المعنى من نفوس القوم وقلوبهم. هذه المزايا التي ذكرنا التصاقها بنفوس العثمانيين، وممازجتها لأرواحهم، هي التي تحملنا على الحكم ببقاء دولتهم، ودوام أمرهم، واقتدارهم على حفظ استقلالهم من صولة الصائل، ولا نخال أن شيئًا من ذلك متوفر في مسلمي الولايات العربية، أو معروف لديهم؛ لأن التعليم المدرسي يكاد يكون مفقودًا من بينهم وتهذيب النشء والأحداث أمسى مقتصرًا على نفر منهم، وعلى غير الوجه الذي ترجى فائدته لهم. أما لغتهم التي يُضرب بها المثل في اتساع نطاقها، وتشعب أقانينها، فقد اكتفوا منها بقطر من بحر، وكلمة من سفر، حتى أضحت أشبه باللغات الميتة التي وظيفتها تصحيح العبادات، وتفهيم النصوص الدينية، وحل أساليب الكتب القديمة، ولولا استحداث الجرائد بين المتكلمين بها لكانت أسوأ حالاً وأظلم مآلاً، ولحاكت اللغة الكرشونية التي يزاول بها الكهنة وظائفهم الدينية. ولم يقم في العرب رجال درسوا السياسات، وتخرجوا في أعمالها؛ كي يلقنوا شعبهم شيئًا من مبادئها، ويلقوا في نفسه بذور الإصلاح، ويعرفوه كيف يكون نظام هيئة الاجتماع، وكيف يحافظ على الحقوق، ويطالب بها، ولم يَنْبُغ بينهم كتبة أو خطباء، أو ذوو نباهة من العلماء يطلقون أفكار الشعب العربي من سلاسل الأوهام ويطهرون نفوس آحاده من لوث الخرافات، ويميطون عن أبصارهم غواشي التقليد الأعمى الذي يطوح بالأمم إلى عماية العدم. منزلة الخطابة في الأمة منزلة الإرادة من الشخص، فاندفاع المرء في أعماله وتقلبه في تلمس مصالحه، وانبعاثه في إنقاذ مقاصده إنما يكون على قدر ما عنده من قوة الإرادة ومضاء العزيمة، فإذا قويت الإرادة فيه بحيث أضحت تتسلط على ضعف نفسه، وتكفكف من جماح هواه بشره بالنجح، وسداد الأعمال، وانتظام المعيشة، أما إذا ضعفت تلك الإرادة فيه وتضاءلت دون مقاومة أهواء نفسه وتقليص غشاوات جهله، تحكمت حينئذ فيه تلك الأهواء، وسلطت عليه الرذائل، فتفسد أعماله ويسوء مصيره، كذلك حال الأمة ومزية الخطابة فيها وتأثيرها في نفوس آحادها. إذا رأيت أمة كثر الخطباء فيها، وانطلقت ألسنتهم في هدايتها لما فيه خيرها، وقَدَروا بسبب ما أوتوه من البلاغة وقوة الخطابة على تحويل أفكار الشعب، وتصريف مهابها من جهة إلى أخرى، وتمكنوا من هيج النفوس الجامدة، واستثارة الحفائظ الخامدة، يوشك أن تنهض تلك الأمة من غفلتها، وتقتحم الأخطار في سبيل صيانة شرفها ووقاية مصالحها، والذود عن استقلالها. فَكّر ماذا يكون حال الأمة التي تفقد صدى الخطابة في نواديها، وتهدأ شقاشق الخطباء على منابرها؟ أجدر بأن تكون حالتها كحالة الأخرس يعجز عن إفهام ما في نفسه. الأخرق لا يحسن شيئًا من الأعمال. القُلّب يشرع بعمل فلا يلبث حتى يدعه ويشرع بآخر، أوهي كالطفل لا إرادة له تُلهمه سداده وتقيه من الغوائل، بل كالنفش السارب، والهمل المرسل، لا راعي له يجمع متفرقه، ويهدي ضاله، وينعق بالسابق المتقدم يسترجعه، وبالمتخلف المتباطئ يستحثه. وبالجملة: إن وسائل النهضة لم تتوفر بعد في مسلمي العرب، كما توفرت في الأتراك، فلذا كان مستقبل هؤلاء على مَقْرُبة من النجاح والاستقلال، ومستقبل أولئك فيه شوب من غموض، وعليه غواشٍ من ظلام. ولولا ما أمرنا الله به من الثقة بوعده، وآذننا بالتسجيل على اليائس من روحه بالكفر، مع ما نستحسه لهذه الآونة من اهتزاز خواطر البعض من نُبهاء الأمة في إصلاح شأنها، وتموج نفوسهم في العمل لإنهاضها وتقوية ذمائها (هو الحركة وبقية الحياة) لولا ذلك لما خامرنا ريب في هويها، ولم يعترضنا شك في إمحاء جنسيتها، وانغماسها في غمار الأمم المتغلبة. ((يتبع بمقال تالٍ))