للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصائب الأمة الإسلامية بفقد رجالها

(وفاة ذكاء الملك)
ما نفضت الأمة الإسلامية يديها من غبار دفن النواب محسن الملك المصلح
العظيم في الهند ولا رقأت دموعها عليه إلا وفاجأها نعي ذكاء الملك، العالم
الاجتماعي والكاتب البليغ وداعية الإصلاح المؤثر صاحب جريدة (تربيت)
الفارسية التي كانت تصدر في طهران عاصمة الفرس. وافاه الأجل المحتوم في
رمضان، وتأخر نعيه عنَّا وسنترجمه في الجزء الآتي أو ما بعده. وقد علم القراء
أن حسن باشا عاصم توفي على إثره في أول شوال، وتلاه حسن باشا عبد الرزاق،
وكلاهما من رجال الإصلاح وأركان النهضة في مصر.
***
(إبراهيم بك اللقاني)
مازلنا بعد ذلك نتمثل بقول الشاعر: (تكسرت النصال على النصال) أيامًا،
وإذا بالمنية قد أقصدت بسهم آخر نابغة النابغين وأفصح الخطباء وأبلغ المنشئين
العالم القانوني صديقنا إبراهيم بك اللقاني المحامي الشهير وهو أرقى تلاميذ السيد
جمال الدين بعد الأستاذ الإمام، وكان له في تلك النهضة الجمالية المقالات الرائعة،
والخطب النافعة. ولكن الأمراض حالت بين الأمة وبين مساعدته لها بالإصلاح في
هذه السنين حتى وافاه الأجل المحتوم، فكان أكبر عزاء أهل العلم والأدب عنه أنه
كان من تبريح مرض السل به لا راحة له في الحياة، ولا نفع للأمة منه، ولا أنس
للأصدقاء به.
وسنذكر شيئًا من ترجمته في جزء آخر
***
(الشيخ علي حسين)
ثم لم نلبث بعد دفن هذا الصديق الكريم إلا أيامًا حتى بُغتنا بوفاة صديقنا الشيخ
علي حسين أحد مساعدي التفتيش في نظارة المعارف بعد إلمام مرض السل (الذي
اغتال اللقاني قبله) به زمنًا قصيرًا فيما نعلم وهو في شرخ الشباب ومقتبل العمر.
تخرج في مدرسة دار العلوم، واشتغل بالتعليم في المدارس زمنًا ثم بتفتيش
الكتاتيب في الأرياف، ثم في العاصمة. وكان من حزب الإصلاح الديني
الاجتماعي، ثابتًا في رأيه، بصيرًا في أمره، هادئًا ساكنًا في عامة أحواله، كثير
البحث في الأمور العامة، والتتبع للحوادث السياسية، فلو سألته عن حوادث حرب
الدولة العلية واليونان أو حرب روسيا واليابان مثلاً لسردها عليك سردًا منتظمًا،
وذكر لك آراء وميول الجرائد والدول فيها، كأنما يقرأ من تاريخ مدون. وكان
صادق الحديث، صادق الود، دقيق النقد إلا أنه قليل البشاشة، قليل الحركة
والرياضة. وكنت أنتقد منه هذا وأكثر عذله عليه. ولا ريب أنه هو الذي أعده
للمرض الذي اغتاله، وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه.
عني أخوه الكبير (لأمه) الشيخ محمد المهدي المدرس بمدرسة القضاء
الشرعي بتمريضه، ولا عناية الوالد الرحيم بالولد البار النجيب، وبذل من وقته
وماله في خدمته ما لم يفده إلا الأجر وحسن الذكر دون ما كان يحرص عليه من
صحته وعافيته؛ فتوفاه الله تعالى في بيته فجهزه الجهاز الشرعي، وبعد تشييعه
ودفنه أوعز إلى بعض الجرائد فنشرت عنه أنه لا يقيم الاحتفال المعتاد المعروف
بالمأتم؛ لأنه ليس من السنة، وإنما هو من العادات التي أوهمت بعض الجرائد
العامة أن القيام بها ثلاث ليال من السنة، فرأى الشيخ المهدي موت أخيه فرصة
يعلم الناس بها قولاً وعملاً أن ذلك ليس من السنة في شيء. والعمل أبلغ من القول
ومنه الكف وترك القادر. وقد توهم بعض الناس بذلك أنه لا يقبل تعزية الناس
ويعدها بدعة وهو توهم باطل، فقد عزيناه في داره، فلا زال مؤيدًا للسنَّة في أقواله
وأفعاله.