تلاها في الاحتفال العام بطرابلس الشام الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ الشهير
لم يمر على الأمة العثمانية يوم هو أوفر جمالاً، وأكثر إقبالاً، من مثل هذا اليوم المجيد الذي أشرقت فيه كواكب سعدها، في أفق مجدها، باهرة الأضواء، ساطعة اللأَلاء. في مثل هذا اليوم هبت نسمة قدسية، من أفق العناية الإلهية، ترنحت لها أعطاف أبطال الحرية، من جمعية الاتحاد والترقي الفادية المفدية، فنهضوا لاسترداد المفقود، وإصلاح الموجود، بقلوب تمثل أقصى مراتب الحمية الملية، وعزائم تناهض الدهر حزمًا، وتغالب الأيام ثباتًا، فأنقذوا الأمة من براثن الظلم، ووضعوا عنها أغلال الغلبة والقهر، وأطلقوا العقول من قيودها، ونشروا الأفكار من لحودها. في مثل هذا اليوم شعر العثماني أنه عضو عامل في أمة حية، يسعد بسعادتها ويشقى بشقائها، فهب من سبات غفلته، وشمر يدأب في مصلحة أمته، فرأى أن لا سبيل إلى سعادته إلا بالاتحاد، وأن لا تحقق للاتحاد إلا بالإخاء والمساواة، فتآخت ملل الأمة وأديانها، وتساوت شعوبها وعناصرها، وتضامت أجزاؤها، وتماسكت أعضاؤها، وأقبل المسلم يعانق المسيحي، واليهودي يصافح الأرمني، والتركي يفدي أخاه العربي بنفسه، والكردي يدافع عن الألباني بمهجته، والكل موقن أن لا غنى له عن الآخر في حياته الاجتماعية، وسعادته القومية، في شكل يسحر الألباب بهاؤه، ويأخذ بالقلوب بهجة ورواؤه. في مثل هذا اليوم؛ تفجرت ينابيع حياة الأمة، فسرت في أجزائها المفرقة، ودبت في أعضائها الممزقة، فاتحدت أفرادها، وتوحدت أعدادها، وصدرت عنها أعمالها بإرادتها الكلية، وحركتها الاختيارية، فتوجهت متحدة نحو سعادتها الحقيقية متملصة من ظلام الباطل إلى نور الحق، ناهضة من حضيض التأخر إلى يفاع الترقي، معلنة بأطيب ألحان الحرية آيات العدل والإنسانية، تحت لواء الإخاء والمساواة. في مثل هذا اليوم أُعْلِنَ القانون الأساسي، فقضى للأمة بنيل حريتها، ووهبها نعمة الاستقلال، وخوَّل لأفرادها أن يكون لهم رأي مقبول في إدارة شؤون مجموعها، وهى نعمة تعد أساسًا مكينًا لسعادة مستقبلها، ورقي حقيقي تنهض إليه فتنال ما قدر لها من الكمال، وما استعدت له بفطرتها من مظاهر الإقبال. نعمة دلنا الاستقراء وعلمنا التاريخ أن الأمم التي تكون محرومة منها لا يكون لها اجتماع حقيقي ولا سعادة صحيحة، وإن ظفرت باليسير من ذلك فما هو إلا صورة خيالية تظهر بمظاهر وهمية؛ لأسباب توجدها المصادفة والاتفاق، ثم لا تلبث أن تذهب بذهاب أسبابها، شأن الحوادث الناشئة عن أسباب مؤقتة. نعمة قَيَّضها الله لبعض الأمم، فنالت بها من العز والمنعة والمجد والعظمة ما نشاهد آثاره ونسمع أخباره، وحرمها بعضها فبقيت راسفة في قيود الجهل تائهة في بيداء الغباوة لا يرعى لها جانب ولا يحفظ لها حق، فلا غَرْوَ أن تحتفل جميع الأمة العثمانية بيومها السعيد احتفالاً يتجلى في أبهج مظاهر الزينة، وأهنأ مجالي الفرح، ولا غَرْوَ أن تشرئب العقول؛ لتعرف معنى هذه النعمة ونسبتها إلى الهيئة الاجتماعية: اختلف فيها أنظار الباحثين، وتنوعت منازع الناظرين، فذهب بعضهم إلى أن حرية الأمة أو حكم نفسها بنفسها ليس هو حقًّا طبيعيًّا لها، بل هو حالة اجتماعية يقتضيها طور من أطوار الأمة، وينبذها طور آخر، وإن الأمم لا تستحقها إلا إذا بلغت مرتبة مخصوصة من مراتب الاجتماع، وإنها قبل أن تصل في اجتماعها إلى هذه المرتبة، فلا حق لها بنيل حريتها ولا بالمطالبة بها، كما أنه ليس لحكامها أن يفوضوا لها شيئًا من شؤون نفسها؛ خشية أن تتصرف تصرفًا يفسد حالها، ويوجب طرؤ الخلل في إدارتها. وزعموا أن حالة الأمة إذ ذاك كحالة الصبي قبل بلوغه، فإنه لا يجوز في نظر العقل السليم أن يطلق له التصرف في شؤون نفسه؛ لئلا يفسد عليه أمره ويضطرب حاله، وإن ما هو للشيء بطبعه لا يتخلف عن ماهيته، مع أن كثيرًا من الجمعيات البشرية عاشت أزمانًا متطاولة وهي مملوك عليها أمرها، مستبد عليها في شئونها، فكيف يكون حكم الأمة نفسها بنفسها حقًّا من حقوقها الطبيعية، ومميزًا من مميزاتها الفطرية. وذهب أهل البصيرة منهم إلى أن حكم الأمة نفسها بنفسها حق طبيعي، ثبت لها يوم صح أن يطلق عليها لفظ أمة، فهو وصف لازم لذاتها غير منفك عن ماهيتها، وإن من عمد إلى سلبها هذا الحق فردًا كان أو جملة، فهو كمن عمد إلى سلب إنسان حقه في استنشاق الهواء وتناول الغذاء، أو كمن قيد إنسانًا عن حركته الطبيعية التي يهم بها بإرادته ويباشرها بقدرته. واستدلوا على ذلك بأن العقول السليمة متفقة على أن كل فرد من بني الإنسان هو بحسب فطرته حر مستقل في: حركته وسكونه وإقدامه وإحجامه وأخذه وتركه، وإن الشرائع السماوية والقوانين الوضعية قد حكمت؛ بأن له حقًا طبيعيًا في أن يتصرف بشؤون نفسه، كيفما شاءت إرادته ومال إليه اختياره، وإن الباحثين في تعريف ماهيات الأشياء وتحديد طبائعها قد عرَّفوا الإنسان؛ بأنه الحيوان الناطق بطبعه المتحرك بإرادته. وإن الأمة لما كانت عبارة عن جملة أفراد مجتمعة بروابط من المصالح المشتركة والصفات الشاملة، فقد وجب أن يثبت لمجموعهم من الحق ما ثبت للفرد الواحد منهم. إذا كان العدوان على حرية شخص واحد يعد شذوذًا عن قواعد العدل، وفسوقًا عن أوامر الله، وخروجًا عن حدود الإنسانية، وهو لم يتعد أن أضر فردًا بعينه، لا تتوقف عليه سعادة ولا يناط به شقاء، فما بال العدوان على حرية أمة كبيرة؛ قد تكون مؤلفة من ملايين من مثل ذلك الفرد لا يعد شذوذًا عن منهج العدل؟ بل كيف يعد ذلك من نتائج الصواب، وحكمة أولى الألباب، لعمري ليس هذا المذهب إلا من وساوس المستبدين الذين لا يروق لهم إلا الأثرة بحقوق الضعفاء، والتلاعب بعقول الأغبياء، وإن الحكم على أمة مجتمعة بأنها غير جديرة أن تحكم نفسها بنفسها؛ لأبعد عن الصواب من الحكم على الرجل العاقل أنه غير أهل للتصرف بشئونه الخصوصية. هل يبلغ الجهل والقصور بمجموع يستقل أفراده بشؤون أنفسهم أن يعجزوا جميعًا عن تدبر شؤون مجتمعهم؟ إن حد التمييز والرشد في الأمة هو أن تكون بحيث يتهيأ لها الاجتماع بأبسط معانيه، فإنها متى بلغت هذه المرتبة، حكم لها بأنها بالغة رشدها قادرة على إدارة نفسها، وكل جمعية بشرية فهي بالغة هذه المنزلة لا محالة؛ ضرورة أن الإنسان خلق على أن يعيش مجتمعًا، فهو لا ينفك عن الاجتماع، والأمة المجتمعة لا تنفك أن تكون مستحقة للاستقلال بطبعها، وإنما تحول دون ذلك أطماع المستبدين أحيانًا فإذا اتفق لأمة أن صرفت همة المستبدين من رجالها عن العبث باستقلالها، فقد قضي لها أن تباشر السير إلى كمالها. لا يشترط في نيل الأمة حريتها واستحقاقها لذلك بطبعها أن تبلغ في اجتماعها مبلغ الأمم الراقية، كما لا يشترط في بلوغ الرجل رشده أن يكون كأصوب الرجال رأيًا وأكملهم رشدًا؛ لأن الرقي والرشد يقالان بالتشكيك، فيكونان في بعض الأشخاص وفي بعض الأمم أرقى منهما في غيرهما، ولا يوجب ذلك نقصًا بالمقصر عن درجة المتقدم يؤدي إلى حرمانه من حقوقه الطبيعية. إذا نالت الأمة حقها في حكم نفسها انفسح لأفرادها مسرح الفكر، واتَّسع لهم مجال العمل، ودَبَّتْ فيهم حياة جديدة شعروا بها أن لإرادتهم وميولهم تأثيرًا في رقي مجتمعهم، فترفَّعت بذلك نفوسهم عن الدنايا، ونهضت إلى معالي الأمور، وانصرفت من هنا إلى الشعور بأن الفوز بالمصلحة الخاصة متوقف على تأييد المصلحة العامة، فاندفعوا بسائق محبة الذات إلى التماس مصلحة أفرادهم في ضمن مصلحة مجموعهم. ومن ثَمَّ تخرج العقول من مضايق أشخاصها إلى متسع الأمة، وتنصرف الأفكار عن البحث في الكليات، فتتمرن على الاستنتاج الصحيح من المقدمات اليقينية، فتستقيم الأفكار وتصان الأعمال عن الخلل. ويتبع ذلك صحة في العزائم، ونهوض في الهمم، ومسابقة إلى الأعمال الشريفة، وتنافس في إصابة المفيد منها للأمة. هكذا يتسنى للأمم أن ترتقي في مدارج اجتماعها مبتدئة بالفكر الصحيح، ومتنقلة من ذلك إلى الصالح لها الموافق لمصلحتها، ثم تتدرج من هناك في مراتب الكمال مرتبة بعد مرتبة! ومن أين للأمم التي ليس لها حظ من الحرية أن تنال هذه المزية؟ إذا تقرر هذا، علم أن نيل هيئة اجتماعية لحريتها يعد مهيأ لرقيها ومقدمة لتقدمها، أو مرتبة أَوْلى من مراتب كمالها، فإذا توقف نيل حريتها على بلوغها مرتبة القدرة التامة على إرادة شؤونها، فقد كلفناها أن تأتي النهاية في البداية، وتصل في مبدأ سيرها إلى الغاية، وهو باطل في نظر العقل، ومحال بحكم الواقع. (يرد هنا نبوغ الأمة الإسلامية بعد الخلفاء الراشدين إلى زمن المعتصم، ورقيها وفيها من المستبدين مثل يزيد وعبد الملك والمنصور والرشيد، ونبوغها أيضًا في دولة بني عثمان من زمن مؤسسها إلى زمن السلطان سليمان القانوني والجواب عن هذه يستغرق بحثا طويلاً لا يتسع الوقت له الآن، فنرجئه لفرصة أخرى) . ومهما يكن الأمر، فلا مراء في أن حرية الأمة هي مبدأ حياتها الاجتماعية، وأن الناهضين في كل أمة لإيصالها إلى هذا الحق هم صفوة رجالها، والنوادر من أبطالها، بل هم القبيل الذين رآهم الأقدمون فحسبوا أنهم ممتارون عن البشر، فأقاموا لهم التماثيل وشيدوا لهم الهياكل، وأفردوهم بالعظمة والكرامة، حتى وضعوهم بمصاف الألهة، فلا عجب أن تحتفل الأمة العثمانية اليوم بنيل حريتها، وتترنم بآيات الثناء لأولئك الأبطال العظام من جمعية الاتحاد والترقي، فلتحيا الجمعية، فليحيا السلطان الدستوري، فليحيا المنقذ الثاني للوطن محمود شوكت باشا، فليحيا الجيش المظفر.