للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بقية الكرامات المأثورة
وهي السادسة من مقالات الكرامات

خلاصة ما مرّ في مقالات الكرامات السابقة أنها جائزة وفاقًا لأهل السنة ولا
ينبغي أن ينازع في هذا عاقل - وأن الوقوع بالفعل لا يثبت إلا بالنقل الصحيح عن
المعصوم أو المشاهدة، فإنْ تواتَر كان الثبوت قطعيًّا لا يمكن للعارف به جحوده،
وإلا كان ظنيًّا. وإن مثبتي الوقوع احتجوا بالقرآن العزيز، وقصارى ما سَلِمَ لهم
من احتجاجهم هو وقوع الإلهام الإلهي الصحيح، وبما يؤثر عن الصحابة عليهم
الرضوان، وقد بحثنا في خمس مما أحصاه السبكي وأرجأنا البحث في الباقيات
خشية السآمة من تكرار الكلام، في موضوع واحد كما قلنا في (المنار) ٣٥
وليس في هذا القسم متواتر، وإنما هي آحاد، منها ما إسناده صحيح ومنها الواهي
والمنكر، ودونكم الآن سائر تلك الآثار:
(٦) ومما وقع على يد الفاروق قصة النار الخارجة من الجبل، قال السبكي:
كانت تخرج من كهف في جبل فتحرق ما مرت به، فخرجت في زمن عمر رضي
الله تعالى عنه، فأمر أبا موسى الأشعري أو تميمًا الدّاري -عليهما الرضوان- أن
يدخلها الكهف، فجعل يحبسها بردائه حتى أدخلها، فلم تخرج بعد، قال ولعله قصد
بذلك منع أذاها.
أقول: لا أعرف لهذا الأثر سندًا قويًّا ولا ضعيفًا، ولا يخلو خروج هذه
النار من أن يكون بسبب أو بغير سبب، فإن كان الثاني فهو خارقة من الخوارق
فكيف وقعت تلك الخارقة؟ وهل كانت كرامة لصحابي أو ولي آخر غير معروف،
ثم زالت بكرامة آخر، أم تقع الخوارق بنفسها؟ وإن كانت بسبب، فما هو ذلك
السبب؟ وأين ذلك الكهف، وهل لتلك النار من أثر فيه؟ إذا وقفنا على أجوبة
صحيحة لهذه الأسئلة نتكلم عنها، ومن الحماقة إضاعة الوقت في إيراد الاحتمالات
الخيالية والخوض فيها مع الخائضين.
(٧) ومنها أنه عرض جيشًا يبعثه إلى الشام فعرضت له طائفة، فأعرض
عنهم أولاً وثانيًا وثالثًا، فتبين بالآخرة أنه كان فيهم قاتِل عثمان أو قاتِل عليّ (رض)
وهذا من الإلهام.
(٨) على يد عثمان ذي النورين رضي الله تعالى عنه، قال السبكي: دخل
عليه رجل كان قد لقي امرأة في الطريق فتأملها، فقال له عثمان يدخل أحدكم وفي
عينه أثر الزنا، فقال الرجل: أَوَحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! قال:
لا، ولكنها فراسة المؤمن. أقول: إن هذه الفراسة من قبيل الإلهام الذي أثبتاه، ولكن
يتفق مثله لآحاد الناس، أذكر أن شابًّا جاءني وأنا في ميضأة جامع القلمون (بلدتي
التي ولدت فيها، وهي بجوار طرابلس الشام) حاسرًا عن ذراعي أريد الوضوء،
ففاجأته بحكاية هذا الأثر فقال: إنها لمكاشفة، وإني كنت في الطريق أغازل امرأة
وأمتع نظري بمحاسنها، فقلت: كلا، لا مكاشفة وإنما هو شيء وقع في قلبي عندما
رأيتك، وما أنا مما كان معك على يقين ٠
وسنتكلم على المكاشفة والفراسة في مقالة أو مقالات في وقت ما.
(٩) على يد عليّ المرتضى أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال:
روي أن عليًّا وولديه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم سمعوا قائلاً يقول:
يا مَن يجيب دعا المضطر في الظلم ... يا كاشف الضر والبلوى مع السِقَم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ... وأنت يا حي يا قيوم لم تنم هب لي بجودك فضل العفو عن زللي ... يامن إليه رجاء الخلق في الحرم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ ... فمَن يجود على العاصين بالنعم
فقال علي لولده: اطلب هذا القائل، فأتاه فقال له: أجب أمير المؤمنين، فأقبل
يجر شقه حتى وقف بين يديه، فقال: قد سمعت خطابك، فما قصتك؟ فقال: إني
كنت رجلاً مشغولاً بالطرب والعصيان، وكان والدي يعظني ويقول: إن لله
سطوات ونقمات وما هي من الظالمين ببعيد، فلما ألحّ علي في المعصية ضربته،
فحلف ليدعون عليّ ويأتي مكة مستغيثًا إلى الله، ففعل ودعا فلم يتم دعاه حتى تكتف
شقي الأيمن (كذا) فندمت على ما كان مني وداريته فأرضيته إلى أن ضمن لي أن
يدعو لي حيث دعا عليّ، فقدمت له ناقة وأركبته فنفرت ورمت به بين صخرتين
فمات هناك، فقال له عليّ رضي الله عنه: آلله عليك إن كان أبوك رضي عنك،
فقال: آلله كذلك، فقام عليّ كرم الله وجهه وصلَّى ركعات ودعا بدعوات أسرّها لله
عز وجل، فقال له: يا مبارك قم، فقام ومشى وعاد إلى الصحة كما كان، ثم قال:
لولا أنك حلفت أن أباك رضي عنك ما دعوت لك. قال السبكي: قلت: أما الدعاء
فلا إشكال فيه إذ ليس فيه إظهار كرامة، ولكنا نبحث في هذا الأثر في موضعين:
أحدهما فيما نحن بصدده من السر في إظهاره - كرم الله وجهه - الكرامة في قوله:
قم، فنقول: لعله لما دعا أُذن له أن يقول ذلك، أو رأى أن قيامه موقوف بإذن الله
تعالى على هذا المقال، فلم يكن من ذكره بُدّ، والثاني كونه صلّى ركعات ولم يقتصر
على ركعتين، فنقول: ينبغي للداعي أن يبدأ بعمل صالح يتنور به قلبه ليعضد
الدعاء، ولذلك كان الدعاء، وعقيب المكتوبات أقرب إلى الإجابة وأقل الصلاة
ركعتان، فإن حصل بهما نور وأشرقت علائم القبول فالأولى الدعاء عقيبهما، وإلا
فليصلّ إلى أن تلوح له أمارات القبول فيعرض إذ ذاك عن الصلاة ويفتتح الدعاء،
فإنه أقرب إلى الإجابة. اهـ ملخصًا.
أقول: لا أعرف راوي هذا الأثر ولا درجة إسناده في القوة والضعف، ولا
أُنكر أنه يجوز أن يستجيب الله تعالى دعاء بعض عباده بمحض قدرته، أو بأن
يجعل سبب الأمر الذي يطلب مقارنًا للدعاء، أو عقيبه فيحصل المطلوب.
والأمر المحبوب إذ حصل بسبب خفي أو جلي عند طلبه من الله تعالى يسمّى
حصوله استجابة، إذ لم يشترط أحد في الاستجابة أن تكون بوجه مخالف لسنة الله
تعالى في الخلق، وقد يكون سبب شفاء المرض تأثيرًا أو تأثُّرًا روحانيًّا، والتأثر قد
يكون بسبب الاعتقاد سواء كان حقًّا أم باطلاً، وأما تأثير نفس في أخرى، فأنا أعتقد
أنه سنة إلهية في الناس، وإن أنكره كثير من الحكماء والعلماء، وقد يكون بأعمال
تعين عليه كالصلوات والأذكار مع الخشوع والاستحضار، فإن ذلك يجمع الهمة
ويقوي العزيمة والإرادة على ما تتوجه إليه النفس وصَاحِبه يشعر من نفسه بأن له
هذا الأثر، ولذلك يأتي بما يدل عليه قبيل حصوله، ومنه الإصابة بالعين،
وهذا النوع مما نقل عن جميع الملل، ورأيت الشعراني وغيره من المتصوفة يثبته
حتى لوثنيي الهند وهو بحث فلسفي دقيق سنوفيه حقه من البحث في وقت آخر إن
شاء الله تعالى.
(١٠) على يد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر السبكي قصة
الاستسقاء به عام الرمادة في زمن عمر رضي الله عنه وكيف أن الله أغاثهم بالمطر
سريعًا، أقول: عام الرمادة هو عام ثمانية عشر وسمي بذلك لأن الأرض
اغبرّت لشدة الجدب، والأثر في هذا عند البخاري وغيره، قال القسطلاني في
الشرح: كان من دعاء العباس ذلك اليوم (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم
يُكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث،
فأرخت السماء مثل الحبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس، وليتأمل أهل الفهم
قول العباس عليه الرضوان فهو عبرة لمن يعقل، وذكر السبكي بمناسبة استجابة
الدعاء بالاستسقاء ما كان مشهورًا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من
استجابة دعائه.
(١١) على يد ابن عمر رضي الله عنه، وذكر أنه قال للأسد الذي منع
الناس الطريق: تنحَّ، فبصبص بذنَبه وتنحى وذهب، أقول: ينقل مثل هذا الأثر
عن أهل البوادي والضاربين في القفار ويقولون: إن من شنشنة الأسد وعاده أن
يعف عمن يقابله بالسكينة والوقار، ويلقاه بالملق والاعتبار، ولهم في هذا حكايات
يتراءى لمن نظر في مصادرها المختلفة أنه لابد أن يكون لها أصل، ولا شك أن
أحدًا من المصدقين بتلك الحكايات لا يعدها خوارق عادات، على أنني إذا ثبت
عندي أثر ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح فإنني أعتده كرامة أكرمه الله
تعالى بها بإلهام الأسد التنحي عن الطريق، ولكن لا أقول: إن فيه مخالفة لسنته تعالى
في الخلق، فإن مثل هذه الإلهامات بخلاف ما تقتضيه العادات الطبيعية الغالبة
معهود في العجماوات وفي الإنسان أيضًا، ويعسر على الحكيم إدراج الكثير منها تحت
ناموس طبيعي غير الإلهام.
(١٢) على يد العلاء الحضرمي وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في
غزاة بجيش، فحال بينهم وبين الموضع البحر فدعا الله تعالى ومشوا على الماء،
هذه عبارة السبكي وهي صريحة في أن الكرامة حصلت لكل واحد من الجيش، ولو
كانت هذه القصة واقعة لنقلت بالتواتر، ولرواها أصحاب الصحاح جميعهم، ثم أين
ذلك الموضع؟ وما هو البحر الذي (يحول) بينه وبين المدينة؟
(١٣) ماجاء أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما
صحفة طعام فسبَّحت حتى سمعا التسبيح، أقول: تسبيح الله تعالى تنزيهه عن كل
ما لا يليق بكماله، وقد نطقت به العوالم العلوية والسفلية أي دلت عليه بذواتها
وأصواتها {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: ٤٤) وذهب بعض الناس إلى
أن كل شيء يسبح لله بلسان المقال، ولو كان هذا هو الواقع لقال تعالى: ولكن
لا تسمعون تسبيحهم، ولم يقل: (لا تفقهون) ثم إن الله تعالى لا يبطل سنة من
سنن الكون إلا لحكمة بالغة كإعذار الأمم بآية على يد نبيهم ليؤمنوا فينجوا، أو
يصروا على العناد فيهلكوا بنزول العذاب، فما الحكمة بوقوع هذه الخارقة لرجلين
من أقوى الصحابة إيمانًا، وآية القرآن الذي يتلونه تعلو عندهما على جميع الخوارق؟
والكفار يلحون بطلب الآيات الكونية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله يأمره
بأن يتلو في جوابهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: ٥١) ثم من الذي حدث منهما
بهذه الكرامة مع أن الأصل الذي عليه السبكي وغيره أنه يجب إخفاء الكرامات؟
وإذا قيل: إنهما حدّثا بها لتقوية إيمان بعض الناس نقول: وهل يقوى إلا إيمان من
سمع بأُذنه؟ إذا كان لهذا الأثر أصل فهو أنهما كانا يتكلمان في دلالة الكائنات على
تنزيه مبدعها وغفلة القلوب الضالة من هذا، فقالا ما مثاله: إن هذا الطعام يسبح لله،
أو إننا نسمعه يسبح الله، ومثل هذا التعبير من المجازات الشائعة في اللغة
يسندون النطق إلى الديار والآثار، وينظمون ذلك بالأشعار، أو إنهما لتمكن هذا
المعنى من نفسيهما كان يتجلى لهما في كل شيء، وقد وقع مثل هذا الكثير من
العشاق {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة: ١٦٥) .
(١٣) ما اشتُهر أن عمران بن حصين رضي الله عنه كان يسمع تسبيح
الملائكة حتى اكتوى، فانحبس عنه ذلك، ثم أعاده الله عليه، أقول: تقدم في الكلام
على كرامة مريم العذراء عليها السلام أن سماع كلام الملائكة بالإلهامات
الصحيحة والمعارف الإلهية قد يكون كرامة لأصحاب النفوس الزكية والأرواح
القدسية، وهو من سنن الله في الخلق لا من مبطلاتها أو مبدلاتها، ولا مانع من
ثبوته لهذا الصحابي الجليل.
(١٤) ما اشتُهر من قصة خالد بن الوليد في شرب السُّم وعدم إضراره به،
أقول: إن مقدارًا من السم يقتل رجلاً ضعيف المزاج أو معتدله، ربما لا يقتل
قوي المزاج، وأعرف رجلاً تسمم دمه بالصديد ونجا منه، وقال له الأطباء: لا
نعرفها لغيرك، وأعرف رجلاً آخر كانت تلسعه الأفاعي فتموت هي ولا يصيبه منها
أذى، وقع له هذا غير مرة، فإذا ثبت أن ما شربه خالد رضي الله تعالى عنه
من السم كان كافيًا لإهلاكه ولم يهلك، فلا شك أنه يكون من الخوارق الخارجة عن
سنن الله تعالى المطردة في الخلق، ويعلم الله أن غرضي من فتح باب التأويل
المحافظة على دين الله تعالى، وإرشاد عباده إلى التمييز بين الحقائق والأوهام، فإن
القرآن العزيز أيد العقل والاختبار بأن لهذا الكون سننًا لا تبديل لها ولا تحويل، وما
كان لمؤمن أن يهدم هذه الأركان الثابتة بحكايات أكثرها لم ينقل بسند معروف
صحيح يوجب الظن بوقوع مضمونه، ولولا أن المحدثين (جزاهم الله أفضل
الجزاء) اعتنوا بضبط أخبار السلف والبحث في أسانيدها لرأينا في الكتب ألوفًا من
هذه الآثار التي لم نر منها الآن إلا بضعة عشر أكثرها لا يعرف له إسناد يُحتج به،
وسنتكلم على ما أجابوا به عن قلة كرامات الصحابة عليهم الرضوان وكثرة كرامات
مَن بعدهم في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))