للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد العزيز محمد


أميل القرن التاسع عشر

من أراسم إلى هيلانة فى ٣١ أغسطس سنة - ١٨٥
الطفل يتلقى علومه الأولى من العالم الخارجي , ولكنه هيهات أن يرضى
بمجرد الانفعال بالمؤثرات الأجنبية كغيره من الحيوانات التي ترضخ لما يقرر لها
من أحوال المعيشة ساكتة عليه غير مفرقة بين ضاره ونافعه , فإنه لا يكاد يخرج
من ظلمة الرحم إلا ويكون قد أثبت حريته بصراخه الذي يعارض به ملمات الألم
وفواعل الطبيعة.
فترينه يبكي ويتبرم ممن حوله من الناس والأشياء , ويوجِد عليهم إن لم
يجروا على مقتضى رغائبه , وهو على عزله وعجزه يلج في الشكوى من سلطان
القدر , ويتذمر عليه بحسب حاله.
وبعد بضعة أسابيع أو أشهر من ولادته تنفتح عيناه وأذناه تدريجًا في مشهد
الكون، فمن ذا الذي كان يحسب أن هذا الجسم الضئيل الصغير لا يرتعد لما يراه
يثور حوله من قوة الفواعل الكونية.
بلى إنه لا يحسب لها حسابًا , فلا يلبث أن يتأمل في هذا الدولاب الأرضي
العظيم , ويرجع فيه بصره الرائق , وهو هادئ البال آمن مع أن أقل أداة فيه ربما
كانت كافية لسحقه ومحقه , وهو وإن ولد أسير الفطرة لكنه لا يلبث أن يكون
حاكمها المستبد فيطلب إلى أمه بلغته المبهمة الخفية الدلالة أن تجمع له بين الحر
والقر والمطر والصحو , بل إنه ربما استسهل أن يسألها إنزال القمر والكواكب من
السماء تحصيلاً للذته , ولما كانت الأم على كل حال ليست في نظره إلا مثالاً حيًّا
للنوع الإنساني كان شعوره بالقوة إنما يستمد من انتسابه لهذا النوع , فتسبق إلى
ذهنه العاجز عن الفكر غريزة السلطان الذي لتلك اللذات المختارة على العالم , فلا
يبقى تلقاء هذه القوة المعنوية التي لا يدركها إلا حدسًا غير بَيِّنٍ أدنى تأثير في نفسه؛
لعظم تسلط المادة.
ليس الطفل كما يقال لوحًا مصقولاً مجردًا من الإدراك , بل إن له ذاتًا تشعر
بالوجود , ولا تلبث أن تثبت وجودها بما لها من الطريقة المخصوصة في المعيشة
والإحساس , وبما يصدر عنها من الانفعالات اختيارًا , وبما لها من الغرائز خلقة.
وكما أن مشاعره قد جعلت بينه وبين ما حوله من الأشياء اتصالاً , كذلك
أمياله ورغائبه تتدرج في تعريفه من يعيش بينهم من الناس وتقريبه منهم , نعم إن
معظم انفعالاته النفسية تأتيه في مبادئ الأمر من الخارج , فيكون حبه لغيره
وضحكه وكلامه ناشئة من حب ذلك الغير إياه ورؤيته يضحك وسماعه يتكلم , لكنه
عما قليل يبدي ما يستقر في نفسه من ضروب النفور والميل والترجيح وجملة القول:
إن طبعه يستبين , وسأتكلم عن هذا الموضوع في بحث آخر.
أنا لا أعتقد مطلقًا أني قد أجبت في رسالتي هذه عن أسئلتك التي سألتنيها في
التربية , فإن توفية الإجابة حقها تستلزم زمنًا , وأنا قد عدوت فيها عدوًا أسرع ما
يكون , فوصيتي إليك أن تفرضي على نفسك أنت أيضًا مراقبة أميل، فإن أبعد
الأشياء عن نظر القائمين بأمر التربية إلى الآن وأكثرها انفعالاً هو اختبار الطفل
ومعرفته.
كلما فكرت فيك وفي أميل كان مثلي كمثل الخنفساء الطيارة يمسكها التلميذ ,
ويربط أحد أطرافها بخيط , ويرسلها فتطير في الشمس ناسية رباطها , وتسبح في
الهواء وتطن , فلم يكن إلا أن يجذب التلميذ الخيط حتى تسقط على الأرض , فها
هو السَّبَحان يدعوني لأن هذا الوقت هو وقت التنزه على أسوار السجن فأودعك ,
وأرجو أن يبقى الحب بيننا وثيق العرى. اهـ
(٥) من هيلانة إلى أراسم في ٢ أكتوبر سنة- ١٨٥
إن أميل لأجمل غلام في الدنيا , أقول هذا القول وأنا عالمة حق العلم أن
جميع الأمهات يدَّعين ذلك مثلي لأول مولود يرزقنه , وهذا يدلك على أننا نرى
أيضًا بقلوبنا أكثر مما نرى بأبصارنا.
المرأة تتعلم الحب , وتتعلم كيف تكون أمًّا ففي كل يوم تبدو لي شواهد على
ذلك بما يبعثه في نفسي هذا الغلام المحبوب من الرحمة والحنو المتزايدين , لكن لا
يدعونَّك هذا الأمر إلى أن تخاف علي الاستعباد لوجداني , والعجز عن القيام بما
فرضته على نفسي من تربيته , فإني اتباعًا لنصائحك ونصائح صديقك أقدم
مصالحه الحقيقية على ما تقتضيه أميالي وأذواقى , وقد أقام لي الدكتور على وجوب
ذلك دليلاً مستوفى الشرائط , فقال بما تعهده فيه من أدب المنطق وحسن اللهجة:
(خلق الله لسائر الحيوانات أعضاء تقوم لها مقام الأسلحة في الذود عن أنفسها، أما
الطفل فلا سلاح له إلا ضعفه وصراخه , ولكن ما أشد مقاومته لنا بهما , وما أكثر
ما يستفيد منهما , فهو وإن كانت أنواع الإحساس فيه لا تزال مبهمة؛ لكنه قد
طبعت فيه غريزة العدل من نشأته , فهو لا يلبث أن يميز بها ما يصدر عنا من
الأفعال في حقه صوابه من خطأه , فاعلمي وثقي بما أقوله لك أن الواجب في
سياسة الأطفال خاصة هو أن نكون نحن المحقين لا هم لأنه إذا انعكس الأمر فجعل
الحق والسلطة لهواهم واستبدادهم فقد أضعفنا كل شيء ذلك أن الطفل يبكي أحيانًا
للحصول على ماعوده أهله اشتهاءه ابتداء موافقة لهواهم فإذا لم يبادروا إلى إرضاء
شهوته إما إغفالاً منهم لها أو غضبًا عليه فإنه يستمر في بكائه ساعات كاملة , بل
إنه يبكي حتى يشارف الموت , فإذا انتهى الأمر بالإذعان إلى رغبته كان ذلك
أيضًا شرًّا من مخالفته؛ لأنه يبين منه أن والديه خلو مما يدرعانه لمقاومة شديد
أهوائه , فلا ينبغي أن يعارض الطفل في شيء مما يشتهيه إلا متى كان في
المعارضة خير له , وإذ ذاك يجب أن تكون عزيمتنا كالقانون ثباتًا وصرامة) .
هذا ما قاله لي , وإني لأخاله عقودًا من الدرر يلفظها من فيه، فقد اتفق لي -
ولا أخفي عليك - أني كنت أنسى أحيانًا الأخذ بنصائحه في سياستي لأميل , وفي هذه
الحالة كنت أنا وهو نتألم من عاقبة هذا النسيان.
قرأت الفصل الأول من كتابك , وهو على ما أرى كتاب تؤلفه في التربية ,
وأنا في انتظار قراءة باقيه لأكاشفك برأيي فيه فأعتقد تمام الاعتقاد أن تربية أميل
ستكون على وفق آرائك ورغائبك , ولكن لا يغرب عن فكرك أن خط المعاني على
الورق أسهل من نقشها في صحف الحياة ومجاري الواقع.
أنشأ ورق الشجر هنا يحت ويسقط , لكن فصل الخريف في هذا البلد
جميل وإن كان غزير الأمطار فهو كوداع العزيز ابتسام في بكاء , وتأتي فيه أيام قد
يتوهم الإنسان فيها أنه لا يزال فصل الصيف , ومما يزيد هذا الوهم قوة أن زِنْجِيَّنَا
البارَّ قد غرس في حديقتنا المربعة المقابلة لشباك حجرة نومي أشجار العود والصبار
والمانوليا [١] وأراد بهذه العناية اللطيفة أن يهديني شيئًا من جنى أرض بلاده التي
يحفظ لها في فؤاده أشد ذكر , ويؤكد الناس أن بعض نباتات المنطقة الحارة يمكن
إذا حيطت ببعض ضروب من العناية أن تغرس هنا وتنمو , ولا ينالها من
فصل الشتاء أدنى أذى , فقد قال لي بستاني السيدة وارنجتون ما نصه:
(إن السبب في هلاك هذه النباتات في غير إقليمها ليس هو فقدانها
ما كانت فيه من الحرارة , بل هو ما تلاقيه من الجليد في الأقاليم الأخرى ,
وحينئذ فهي تنجح في كورنواي لأن إقلميها معتدل , إذ ليس فيه إفراط في الحرارة,
ولا في البرودة) .
فكم من امرأة تعيش معيشة هذه النباتات مطوحًا بها عن مطلع شمس محبتها ,
فلا تموت لتستريح من عناء هذه المعيشة اهـ.
(٦) من هيلانة إلى أراسم في أول يناير سنة- ١٨٥
قد حيرني سكوتك وانقطاع رسائلك عني , فقد مضى زمن طويل جدًّا لم أحظَ
فيه بشيء من إخبارك فلعل السر في ذلك أن دخول المكاتيب في السجن أيسر من
خروجها منه , وإني على يقين بأنك لا ذنب لك في هذا , ولكني لبعدي عنك تراني
أوجس خيفة من كل شيء.
فشا في كورنواي منذ بضعة أسابيع مرض معدٍ أودى بكثير من الأنفس ,
ويقال: إنه وفد علينا من جنوب إنكلترا.
ترى هل كان يدور في خلدك أن مسقط رأس الطبيب جنار [٢] يصح أن يكون
أحد بلاد أوروبا التي فيها طبقتا الفعلة والمزارعين هما أشد مقاومة لنشر الفوائد
التي نجمت من اكتشاف ذلك الطبيب؟ فكثير من الأسر (العائلات) يرفضون تقديم
أولادهم للتلقيح إما بلادة فهم أو حذرًا أو وسوسة , بل إن منهم من يعتقدون أن في
إبعاد المرض باتخاذ الوسائل الواقية منه معارضة لمشيئة الله تعالى , ثم إن مصلحة
الطبيبات في هذا البلد , وهن طائفة من القوابل يطببن في القرى من على شاكلتهن
تنحصر في ترويج مثل هذه الأوهام، فإن هؤلاء النساء لما كان معظمهن يجهل
طريقة التلقيح كانت وظيفتهن القيام على من يصابون بالمرض , وهل بعد هذا
يستغرب ازدياد عدد وفياته؟ لم يكتفِ الدكتور وارنجتون بتلقيح أميل بل أراد أن
يجدد تلقيحي للتوقي من الخطر المحدق بنا.
إني ولا أخفي عليك عندما أفكر في الجدوى آنس من نفسي رعبًا واشمئزازًا
لا يحيط بهما الوصف , وخصوصًا إذا تمثل في خاطري أنه لم يسلم من آثار هذا
المرض الشنيع إلا قليل من رجال القرن الماضي ونسائه , ولا شك أن الإنسان
يقضي يومه عناءً وكدرًا إذا خطر في ذهنه أن كثيرًا من أخدان الملوك كالآنسة
فاليير والسيدة دوباري وعدة غيرهما من ربات الحسن اللاتي طار صيتهن بالجمال
لتعاسة حظهن كن جميعًا مجدورات بدرجات متفاوتة في القلة والكثرة , أما أنا فإني
أشكر لعلم الطب نعمته على الإنسان وهي تحرير وجهه وإعفاؤه مما كان يؤديه من
الجزية لذلك الداء المريع في أغلب إغاراته.
فلقد كانت الفتاة منا - معشر النساء - ترى أملها في أن تُحَب قد انقطع بزوال
ما كان ينمحي بسببه من محاسنها , وإني وإن لم أكن الآن فتاة لكني لو جعلت لي
الدنيا بما فيها على أن أخسر ما لي من بقية الجمال القليلة ما رضيتها منها بدلاً! فإني
أخال أنني لو فقدت تلك البقية لأنكرتَني , وانقطعتْ عنك معرفتي.
إنك بما كلفتني من مراقبة أحوال الطفولية واستعراف شئونها في شخص
أميل كأنك قد بعثتني لاكتشاف بلد مجهول , فإنه من المحقق الذي لا ريب فيه وجود
عالم للأطفال على حدته لأن جميع من رأيتهم منهم لا يكادون يختلفون في شيء من
طرق إحساسهم وإبداء انفعالاتهم , ولكن من الصعب جدًّا الرجوع إلى دخول هذا
العالم بعد الخروج منه , فإذا رجعنا إلى ما نذكره من ماضينا ابتغاء معرفة شئ من
أموره تَبَيُّنًا له , فالجنة الأرضية التي لم يخرجنا منها إلا مجرد نمونا وكبرنا وإنه
يكون من العبث البحث عن موقعها في خريطة ذاكرتنا , فليت شعري هل الطفل
الساكن في تلك الجنة التي هي مطلع فجر حياته ودار هدوئه وسكونه يعرف من
أمرها أكثر مما نعرف؟ أنا ربما ملت إلى اعتقاد هذا , ولكن إذا كان الله سبحانه قد
استودعه سرها فهذا السر هو في غاية الحفظ لم يطلع عليه أحد إذ كيف يصح
تخمين ما يقع في نفس ذات صغيرة عاجزة عن بيان لذاتها وآلامها اللهم إلا بلهجة
مبهمة وأصوات غير معروفة المخارج.
إني بما ألاحظه في الأطفال كل يوم قد تبينت أن لهم لغة تكون قبل الكلام
بكثير , ولكن ما أبهمها وأعسر فهمها حتى على الأمهات أنفسهن , وإني أخالنى أفهم
بعض رغبات أميل , وأدرك أفراحه وأحزانه فهل هذا يكفي في معرفته؟
منتهى ما يمكنني أن أقول فيما وصلت إليه من استعراف أحواله هو أني
لاحظت فيه حصول استحالات كبرى فإنه في مدة الشهرين الأولين من ولادته كانت
معيشته كلها في نفسه (إن صح تسمية هذا معيشة) فلم يكن له ارتباط بالعالم
الخارجي أما الآن فهو يميز بعض ما يحيط به من الأشياء تمييزًا فيه نوع من
الوضوح وفوق ذلك فهو يتبسم لي.
يومنا هذا هو عيد أول السنة الجديدة , ولكن ما أشد حزني فيه وأعظم كدري,
وأنت تعلم أن من عادة الناس في مثل هذا اليوم أن يتمنوا لمن يحبونهم من الخير ما
يشاءون وأنا أتمنى لك شيئًا واحدًا هو أن تعود إليك نعمة الحرية اهـ.
حاشية - هديتي إليك في هذا العيد هي جزء من شعر أميل أرسله طي هذه
الرسالة.
((يتبع بمقال تالٍ))