على كتاب الوحي المحمدي (نشره في مجلة المشرق الكاثوليكية في بيروت فألخص مسائله فيما يأتي وأرد عليها) (١) تعريفه الموهم بالمؤلف صاحب المنار: افتتح الكاتب كلامه بأنه (لا حاجة إلى تعريف القراء بالسيد محمد رضا [١] منشئ مجلة المنار الإسلامية ومحررها المجاهد) ولكنه عرفه أو وصفه بقوله (والشيخ محمد عَلَم من أعلام الأدب الديني الإسلامي المحافظ في مصر، وصديق ابن سعود الوهابي، وأحد دعاة المسلمين إلى التمسك بالقديم، ونبذ ما يستحدثه المحدثون، مخالفًا لتقاليد السلف) . فهذا التعريف بمن هو غني بشهرته عنه باعترافه يفهم منه قراء المشرق خلاف الحقيقة يفهمون من كلمة (المحافظ) ، وكلمة (نبذ ما يستحدثه المحدثون) ... إلخ ما يشمل الأمور الدينية والعلمية والفنية والصناعات، وإنما أنا محافظ على القرآن والسنة النبوية وإجماع السلف وسيرتهم الصالحة في هداية الدين فقط، وداعٍ للمسلمين إلى الأخذ بكل نافع من مستحدثات العلم والفنون والنظم المدنية والعسكرية التي لا تخالف تلك الأصول، ولا الهداية الدينية التي أكمل الله بها الدين، وأتم نعمته على العالمين، وإن خالفت بعض تقاليد المتقدمين، التي مناطها اجتهاد المجتهدين، ولينظر ماذا يعني بصداقة ابن سعود الوهابي في التعريف بعالم مؤلف؟ (٢) وصفه للكتاب كما رآه: قال: (إنه ليس كتاب الوحي المحمدي ما يزيدهم معرفة بالمشاكل الجوهرية التي يدور الجدال حولها بين المسيحيين والمسلمين) وإنه (ليس مستنفد المواد متناسب الأجزاء، متسلسل القضايا، فيغور فيه فكر المفكرين، بل هو مجموعة عجالات ظهرت أولاً في المنار، ثم برزت بكتاب مستقل، على أن سهولة مطالعتها لما فيها من العناوين والفهارس، ووقع المواضيع التي عالجها ردًّا على مسائل تجددت، ومسها الدين المسيحي تحول دون الإغضاء عنها، من غير إعادة النظر فيها) . اهـ. (أقول) إن كتاب الوحي المحمدي لم يوضع للجدال بين المسلمين والنصارى؛ فتجعل مواده مناسبة لما بينهما من الخلاف، متسلسل القضايا فيها، وإنما ذكر فيه بعض هذه المسائل بالقصد الثانوي، والمناسبات الاستطرادية، ولو وُضع للرد على النصارى كالكتب التي ذكر بعضها لرآه في نسقه وترتيبه وتسلسله ونظامه بحيث يغور فيه فكره، فيقع في غور أو تيهور لا يجد له منه مخرجًا إلى بقاع يرى فيه النور إلا أن يهتدي به إلى الإسلام، وإنما وُضع الكتاب لإثبات الوحي المحمدي بالقرآن فشهد له نقاد الكتاب بأنه خير ما كتب فيه حجة ونظامًا، بل اضطر هو على نظره إليه بعين السخط من وراء زجاجة يسوعية سوداء أن يصفه أخيرًا بما وصفه من السهولة وحسن التقسيم، والرد على المسائل التي تجددت في هذا العصر، وهو الذي حمله على الرد عليه. * * * (٣) فساد الأخلاق والآداب الروحية على نسبة ارتقاء العلوم والأفكار المادية: خالفنا الكاتب الكاثوليكي الجزويتي في هذه الحقيقة التي بيناها في مقدمة كتاب الوحي، فذهب إلى أن كفة ميزان الفضائل والآداب والخير في هذا العصر أرجح مما كانت عليه في جميع العصور السابقة في الشرق والغرب، بفضل التمدن الأوربي! ! ! يا سبحان الله! أكاتب ينتمي إلى الديانة المسيحية يقول هذا؟ نعم وإنه قد كتبه ونشره في مجلة المشرق اليسوعية، وما كان هذا ليخطر في قلب بشر. إن هذه الحقيقة التي بينتها بالإجمال ليست رأيًا افتحرته افتحارًا من تلقاء نفسي، وإنما سبقني إليه حكماء أوربة وكُتَّاب الغرب والشرق فنقلته مقتنعًا به. وقول المنتقد: إنني أحكم به حكمًا عامًّا على جميع الشعوب. هو صحيح في الجملة لا التفصيل، فأنا أحكم به على شعوب الإفرنج أولاً وبالذات، وعلى المفتونين بمدنيتهم المادية الإباحية من سائر شعوب العالم، وإني لأنعي على الإفرنج انسلاخهم من بقايا ما حفظه نظام التربية فيهم من الفضائل المسيحية، لا جهلهم بالفضائل الإسلامية فقط. وإن أول حكم سجلته على أوربة في هذا الموضوع، هو ما رواه لنا شيخنا الأستاذ الإمام عن شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر الإنكليزي من حكمه على قومه، وعلى أوربة كلها، ومثله من ينظر إلى لُبَاب الحقائق الواقعة، ويتخذ منها القياس المنطقي على نتائجها المستقبلة. وإنني أنقل من الصفحة ٨٦٨ من تاريخ الأستاذ الإمام نص ما رواه لنا من حديثه مع الفيلسوف في مصطافه في (برايتون) من جنوب إنكلترة في ١٠ أغسطس سنة ١٩٠٣، أي: منذ ثلث قرن مشيرًا إلى الفيلسوف بحرف (ف) وإلى الأستاذ الإمام بحرف (م) وهو: (ف) هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة؟ (م) نعم زرتها منذ عشرين سنة. (ف) كيف وجدت الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة؟ (م) إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص، وهو البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني، وأقمت أيامًا قليلة لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله، وقد ألممت بها الآن منذ أيام، فلم أدرس حالة الناس، إنما يجب أن آخذ عنكم ذلك. (ف) إن الإنكليز يرجعون القهقرى، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة. (م) فيم هذه القهقرى؟ وما سببها؟ (ف) يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا، وهكذا سائر شعوب أوربة. (م) الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء، واجتهادهم أن ينصروا الحق والفضيلة على الأفكار المادية. (ف) إنه لا أمل لي في ذلك؛ لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مده غاية حده في أوربة، إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة. (م) هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها. (ف) مُحِيَ الحق من عقول أهل أوربة بالمرة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض (ولعله ذكر الحرب) ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم، أو فيكون سلطان العالم. اهـ. وقد كتب الأستاذ في مذكرته تعليقًا على هذا الحديث، ونشرناه في ص ٧٥١ من مجلد المنار ١٨، ثم في ص ٨٦٩ من تاريخه وهو: (ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف (الحق للقوة) ... إلخ؟ جاءت منه مصحوبة بشعاع الدليل، فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، ولو جاءت من ثرثار غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد، فكانت (تكون) جيفة تعافها النفس فلا تحرك إلا اشمئزازًا وغثيانًا هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان وتوفير راحته، وتعزيز نعمته أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها، هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من الحديد (المظلم) اللامعُ المضيءُ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟ حار الفيلسوف في حال أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء؟ الرجوع إلى الدين ... إلخ، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان لكنهم يعودون فيجهلونها) . اهـ. ولقد رأى أهل البصيرة بعد الحرب الأوربية الكبرى ما رآه شيخ الفلاسفة قبلها، كما سمعنا بآذاننا فيها، ثم ما صرنا نقرؤه عنها، إلى أن بلغ في هاتين السنتين درجة الخطر عليها من استعداد جميع دولها للحرب الآتية الحالقة الساحقة الماحقة، ومن انغماس شعوبها في حمأة الإباحة، وانحلال عرى الزوجية المقدسة فيها، ولا أقول وعبادة المال، فإن الجزويت أشد إسرافًا وغلوًّا في عبادة المال من اليهود وغيرهم من الرأسماليين، وعندي قانونهم السرى في ذلك، فهو مما يخالفون فيه وصايا الإنجيل بقاعدتهم (الغاية تبرر الواسطة) ، وأما إباحة أعراض النساء بالسفاح واتخاذ الأخدان وما سمي الرقيق الأبيض، وإباحة هذه الضراوة بالحرب بهذه الدركة من الغلو المنذر للشعوب بالهلاك الذريع الذي تنقله البرقيات عن أوربة كل يوم، فما كنت أظن أنه ما يدخل في عموم تلك القاعدة عندهم. أين الدين في أوربة، وهذه أكبر دولة فيها (الروسية) تبذل كل قواها في محوه من بلادها الواسعة، بل من جميع الأرض، ودعايتها قد تغلغلت في سائر شعوبها الغربية، ولولا النظام العسكري الخاضع لحكوماتها المالية خضوع العبيد، بل المستعمل بأيديها كاستعمال آلات الحديد، لقضي عليها كلها، وها هي ذي فرنسة تتفق معها لأجل التعاون على الحرب القاضية التي تستعد لها؟ أين الدين في أوربة، وهذه الدولة الجرمانية التي تلي الروسية في كبرها وعظمتها، وتفوقها في علومها وفنونها، تبتدع في مسيحيتها على علاتها فيها ما تراه الكنيسة الكاثوليكية وثنية محضة، وهي لا تزال في أول حجلها في مرقصها هذا؟ بل أين النصرانية في أوربة، وقد صرح بعض أساقفة إنكلترة بأن المسيح ليس أبًا ولا إلهًا، واستفتى الشعب في اعتقاده بعصمة الكتب المقدسة، فأفتى الألوف بعدم عصمتها، كما نشرنا ذلك في المنار. ظن الكاتب أنني أشكو من ضعف الدين الإسلامي فأجعل الشكوى عامة! كلا، إن الدين الإسلامي يجدد هدايته وعلمه ونوره في كل قطر من أقطار الأرض، وإنما يعارضه فساد أوربة الإباحي المادي، وظلمها الاستعماري، ولكنهما سيزيدانه حياة وقوة، ونورًا وظهورًا، كما يزيدان الإباحيين الظالمين خزيًا وضعفًا. حتى إذا ما بلغ فسادها غايته في شعوبها علمت هذه الشعوب أنه لا منقذ لها غير الاهتداء به؛ لأنه هو الدين الوحيد الوسط بين أطراف الغلو من إفراط وتفريط في العقل والوجدان ومصالح الروح والجسد، وأنه الحلال لمشاكل الاجتماع المالية والحربية والنسائية الموصل لسعادة الدنيا والآخرة، كما بيناه في (كتاب الوحي المحمدي) (للرد بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))