تمهيد: في بيان حالنا مع المبشرين: لا يزال دعاة النصرانية (المبشرون) يطعنون على الإسلام بما ينشرون من الرسائل والمقالات، وإنني أتعمد ترك قراءة ما يصل إلي من مجلاتهم ورسائلهم حتى لا أفتح على نفسي باب الرد عليهم، إذ رد الشبهات الموجهة إلى الإسلام إنما يجب على من علمه وجوبًا كفائيًا، وقد كنت أكره الرد عليهم لولا ذلك، وإن كانوا يظنون أنه من مقاصد المنار ومشروع الدعوة والإرشاد الذي أكبروا أمره، على أنه لم ينلهم منه أذًى بقول ولا فعل، وجميع الطلبة في دار الدعوة والإرشاد من قسم المرشدين الذين يعدون لإرشاد العوام لمقاومة الشرور والمعاصي الفاشية فيهم، فقد كثرت في هذه البلاد جناياتهم في الأنفس والأموال والزروع، وفشا فيهم السكر والقمار والفحش. نعم: إن من مقاصد المنار، رد الشبهات عن الإسلام مقاومة للشك والتشكيك فيه، وإنما أكره الجدل، وأكره تعمد مناقشتهم أو فتح بابها عليّ؛ لأنهم هم الذين يتعرضون لها وينتفعون بها، وما أكثرت من محاجة أهل الكتاب في سنتي المنار الأخيرتين إلا في التفسير؛ إذ اتفق بلوغي فيه إلى سورتي النساء والمائدة المدنيتين، وأكثر ما في القرآن من محاجة أهل الكتاب في هاتين السورتين وأقله فيما قبلهما. على أن فيه أيضًا ما أوجبه الإسلام من إنصافهم والعدل فيهم، وبيان مودة النصارى منهم. وقد انتهينا من ذلك، ووصلنا إلى تفسير السور المكية التي خوطب بها المشركون وقلما يذكر فيها أهل الكتاب إلا في سياق بيان سنة الله تعالى في الرسل وأممهم. لهذا كنا نظن أن باب محاجة أهل الكتاب يكون مقفلاً في المنار إلى ما شاء الله، ولكن مجلة المبشرين العربية (الشرق والغرب) نشرت في العدد الذي صدر منها في أول الشهر الماضي (أبريل) مقالة عنوانها (السنة وصحتها) طعنت فيها على السنة النبوية، وزعمت أن طعنها يوجب الريب في الشريعة، وترك العمل بها، وأنها لا قيمة لها في نفسها، وقد جاءتنا المجلة فلم نفتحها، ثم علمنا بتلك المقالة فلم نقرأها، ثم رأينا لهذه المقالة تأثيرًا سيئًا في المسلمين حتى إن منهم من نقلها عن المجلة وطبع كثيرًا من نسخها بمطبعة الجلاتين، ووزعت على الناس، ووصلت إلينا نسخة منها، واقترح علينا كثيرون أن نرد عليها فوجب شرعًا إجابة طلبهم. ومما أكد وجوب الرد ما رأيناه في المقالة من مطالبة ثلاث مئة مليون من أهل السّنّة بالجواب عنها! فلا ندع لهم مجالاً أن يقولوا للمسلمين: إنه لم يستطع أحد من علمائكم أن يدافع عن سننكم وشريعتكم، ولا يرد شيئًا من حججنا عليها! فها نحن أولاء نرد عليهم ردًّا يعلمون ويعلم الناس به أنهم لم يتحروا الأمانة فيما نقلوا من كتبنا، ولم يفهموا ما قرءوا منها وما نقلوا عنها، وأن طعنهم في أبي هريرة - رضي الله عنه - خطأ، وأنه لو صح لم يترتب عليه بطلان الثقة بالسنة، ولا ما رتبوه على ذلك من عدم وجوب طاعة الشريعة، وإنما قصاراه أنهم افتحروا دعاوى نسبوها إلى الإسلام، وردوا عليها بما لا يصلح أن يكون ردًّا. وقد رأينا أن ننقل كلامهم برمته على ما فيه من الركاكة واللغو والضعف، وإطلاق بعض الكلم على غير المعاني التي نطلقها عليها، ولكن لا نناقشهم في شيء من الألفاظ لذاتها، ولا في العبارة من حيث ضعفها، بل في المسائل والمعاني، وقد كان الغرض الأول من نقل عبارتهم بنصها، وعدم تلخيص مسائلها والرد عليها، أن لا يتوهم أحد منهم أو من غيرهم أننا تصرفنا في التلخيص تصرفًا يخل بالمعنى المراد، أو حذفنا منه ما لا يمكن ردّه بنقض ولا انتقاد، واستتبع ذلك بيان أن القوم لا يوثق بنقلهم ولا بفهمهم. ومن المعلوم بالضرورة أنهم ليسوا كالفلاسفة، الذين يبحثون في المسائل؛ لأجل استبانة الحق في ذاته، وإنما يتحرون بالبحث ما يرون فيه سبيلاً للطعن والاعتراض، ومجالاً للتشكيك وإثارة الشبهات، كما يعلم مما يأتي. *** الجملة الأولى من مقدمة الطاعن افتتح طاعنهم مقالته بجملة تتضمن عدة دعاوى هذا نصها: (إن صحة الشريعة قضية لا بد لكل مسلم سني من التسليم بها وذلك متوقف على صحة السنة، فإذا ارتاب أحد في صحة السنة، فليس ثمة داعٍ منطقي يوجب إطاعة الشريعة؛ لأن جانبًا قليلاً منها فقط يتوقف على القرآن، والجانب الأكبر يتوقف على السنة التي اجتمعت في الأحاديث. فإذا ثبت الريب في هذه الأحاديث تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها من حنفيّ ومالكيّ وشافعيّ وحنبليّ. وعددهم لا يقل عن ثلاث مئة مليون من الأتباع) . نلخص هذه الجملة من كلامه في ثلاث قضايا ونبين ما فيها. *** القضية الأولى (زعمه إذا ارتاب أحد في السنة ينتفي وجوب طاعة الشريعة) هذه القضية بديهيّة البطلان، فإن الإطلاق في جزاء الشرط يدل على أن المراد من القضية الشرطية أن ارتياب فرد من الأفراد في صحة السنة، يستلزم انتفاء وجوب اتباع الشريعة على جميع الأفراد، وإنما المعقول الموافق للمنطق أن ارتياب الفرد أو ظنه أو علمه، يترتب عليه ما يستلزمه في حق نفسه، ولا يكون ذلك مؤثرًا في غيره ممن لم يرتب ارتيابه أو لم يعلم علمه، وكذلك ارتياب الأفراد الكثيرين. وقد ارتاب بعض علماء أوربة الأحرار في وجود المسيح - عليه السلام -، وزعموا أنه شخص خيالي - أو متخيل - لم يوجد، كما زعم بعض المؤرخين مثل ذلك في هوميروس شاعر أساطير اليونان، فهل استلزم ارتياب أولئك المرتابين فيه انتفاء إيمان مئات الملايين من المسلمين والنصارى وغيرهم بوجوده عليه السلام. *** القضية الثانية (زعمه أن أكثر الشريعة يتوقف على الأحاديث) هذه القضية غير مسلَّمة، فإن الشريعة عندنا تشمل العقائد والعبرة فيها بالدلالة القطعية، وجميع العقائد التي تتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بنصوص القرآن وإجماع المسلمين، وإثبات الألوهية والنبوة منها مؤيد بالبراهين العقلية، ولا يوجد شيء منها يتوقف على أحاديث الآحاد التي يمكن الارتياب في بعضها، وكذلك أصول العبادات كلها قطعية، ثابتة بالقرآن والسنة العملية المتواترة التي لا تتوقف على أحاديث الآحاد. وما ثبت من أحكام العبادات بأحاديث الآحاد ولم يجمع عليه أئمة العلم فلا تتوقف عليه صحة الإسلام، وإن كان صحيحًا في نفسه، وإنما هو مزيد كمال في علم السنة، أما أحكام الشرع في المعاملات، فأكثرها مأخوذ من القواعد والأصول وكذا الفروع الواردة في القرآن، إما بالنص وإما بدلالة النص وفحواه، ومن القياس الذي توسع فيه بعضهم كالحنفيّة فالشافعيّة، والمصالح العامة التي توسع فيها المالكيّة والحنابلة. وأقلها من حديث الآحاد. وما بقي من أركان الشريعة بعد العقائد والأحكام العملية إلا الأخلاق والآداب، وجميع ما ورد في الأحاديث من الحكم والفضائل والآداب فهو مستمد من القرآن الحكيم وشرح له، بل السنة كلها بيان للقرآن لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: ٤٤) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها وصفت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقولها: كان خلقه القرآن. وقد اختلف العلماء في أحكام السنة التي لا تستند إلى نص من القرآن فقيل: إنها بوحي من الله - تعالى -، وإن الوحي لا ينحصر في القرآن، ولكن للقرآن مزايا ليست لغيره من وحي الله إلى خاتم رسله ولا إلى الرسل قبله، أعظمها إعجازه والتعبد بتلاوته. وقيل: إن الله - تعالى - أذن لرسوله بأن يحكم، ويشرع برأيه واجتهاده. ومن تأمل كثيرًا من الأحكام التي استدلوا عليها بالسنة وحدها، يرى لها مآخذ من القرآن، كتحريم الجمع بين المرأة وبين عمتها أو خالتها إلى الزواج، وكتحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقد بيّنا ذلك في المنار، كما بينا تفاوت الأفهام في الغوص على دول القرآن، وأين أفهام الناس كلهم فيه من فهمه - عليه الصلاة والسلام -؟ وقد ثبت مع ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي في المسائل السياسية والإدارية باجتهاده، ويستشير فيها أصحابه. *** القضية الثالثة (زعمه أنه إذا ثبت الريب في الأحاديث تزلزلت أركان الشريعة) هذه القضية غير مسلَّمة أيضًا، وفيها إجمال وإيهام، فإذا أراد بثبوت الريب في الأحاديث ما أفادته جملته الأولى من ارتياب بعض الأفراد، ولو واحدًا فقد بينا أن هذا لا يترتب عليه إلا ما يستلزمه الارتياب في نفس المرتاب وحده، وإذا أراد ارتياب جميع الناس أو جميع المسلمين في جميع الأحاديث، فهذا ما وقع، ولن يقع ولا يعقل أن يقع، وسنشرح ذلك على وضوحه في نفسه، فإن فرضنا جدلاً أنه يقع فإنما يترتب عليه حينئذ الاكتفاء في الدين بما في القرآن والسنة العملية المنقولة بعمل مئات الألوف وألوف الألوف منذ العصر الأول، ككيفية الصلاة والصيام والحج وغير ذلك، وبما ثبت بالإجماع والقياس الصحيح، ولا ينقص من كتب الشريعة حينئذ إلا الأحكام والحكم التي ثبتت بأحاديث الآحاد وحدها كما بيناه في الكلام على القضية الثانية. وبهذا وذاك يظهر لك بطلان قوله: (تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها) ، فإن أراد بأركان الشريعة أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها المرء مؤمنًا، فقد علمت أنه لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد، وإن أراد أركان الإسلام الخمسة فكذلك، فإن معرفة هذه الأركان لا تتوقف على ثبوت الأحاديث الواردة فيها، فإنها مُجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة، سواء صح ما ورد فيها من الحديث أم لم يصح، على أنه صحيح، ولله الحمد، وإن أراد بأركان الشريعة أو أركان تابعيها أصولها المستمدة منها عند الأئمة الأربعة فقوله أظهر بطلانًا، فإن هذه الأركان أربعة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس-، وما ألحق بها عند بعضهم كالمصالح والاستحسان، فالأحاديث جزء من السنة التي هي ركن من الأركان، فالارتياب في هذا الجزء لا يوجب الارتياب في الجزء الآخر منها، وهو ما ثبت بالتواتر عملاً أو قولاً، فكيف يوجب الارتياب في القرآن وكله متواتر، وفي الإجماع والقياس؟ قلنا: إن ارتياب جميع الناس أن جميع المسلمين في جميع أحاديث الآحاد ما وقع، ولن يقع ولا يعقل أن يقع، وبيان ذلك أن المعهود من البشر في كل زمان ومكان أن يصدقوا خبر كل مخبر؛ لأن الأصل الغالب في أخبار الناس الصدق، إلا إذا وجدت علة في الخبر أو المخبر تقتضي الارتياب، كأن يكون الخبر غير معقول أو يكون المُخبِر معروفًا بالكذب. على أننا نرى الناس يصدقون أكثر أخبار الجرائد السياسية والشركات البرقية على كثرة ما عرفوا من كذبهما، واعتقادهم أن لأصحابهما أهواء سياسية يحاولون تأييدها بالحق وبالباطل. فإذا كان هذا شأن البشر في أمثال هذه الأخبار التي تحوم حولها الشبهات في أنفسها، وفي سيرة رواتها، فكيف يعقل أن يرتابوا في صحة جميع الأحاديث التي صححها حفاظ المحدّثين بعد نقد متونها، وإقامة ميزان الجرح والتعديل لكل فرد من أفراد رواتها، وقد علم أنهم لا يقبلون في الاحتجاج حديثًا منقطع الإسناد، ولا حديثًا في رواته مجهول، أو أحد ثبت عليه الكذب أو سوء الحفظ أو النسيان أو مخالفة الثقات الأثبات في روايته؟ ها أنتم أولاء تصدقون أخبار أناجيلكم الأربعة وغيرها من كتبكم، وليس عندكم سند متصل لشيء منها، وقد اختلف علماؤكم ومؤرخوكم في كُتّابها، وفي اللغات التي كتبت بها، وفي التواريخ التي كتبت فيها، فلم يتوفر لكم فيها شيء من النقد والتمحيص الذي توفر لنا في نقل الحديث، أفتعقلون مع هذا، أن نرتاب في تصديق جميع الأحاديث التي نقلت لنا بدقة، لم يعهد لها البشر نظيرًا في تاريخهم القديم ولا الحديث، وأنتم ترون أنفسكم، وسائر البشر يصدقون أكبر ما يروى لهم بلا سند ولا بحث في رواته، بل كثيرًا ما يصدقون أخبار من ثبت عليهم الكذب مرارًا، كرواة البرقيات والجرائد؟ *** الجملة الثانية من كلام الطاعن قال: (وسنثبت في الفصول التالية أن من السهل إثبات الشبهات الملقاة على تلك الأحاديث. ونحن مثبتون في هذا الفصل وهن الاعتماد على بعض الصحابة التي تتوقف مئات من الأحاديث على شهادتهم حتى قامت عليها الشريعة، ومنها نشأت السنة، على أن البخاري الذي اشتهر بنقد رجال الحديث، لم يخطر له أن يرتاب في صدق الصحابة؛ لأنهم كانوا في نظره معصومين من الكذب، وهذا يدلك على ضعف حجته، فقد ثبت بوجه لا يقبل الشك أن أبا هريرة وابن عباس لم يكونا مُمَحِّصيْن في رواية الأحاديث. وغرضنا الآن أن نبين أن الريب في أحاديث أبي هريرة تسرب إلى نفوس معاصريه ونفوس الذين جاءوا بعده، ومع ذلك فقد نقل عنه البخاري الأحاديث بالمئات، فتداولتها ألسنة المجتهدين الذين أسسوا المذاهب الأربعة، وبنوا عليها نظامهم الشرعيّ) . أقول: نلخص هذه الجملة في قضايا تابعة في العدد لما تقدم، ونبين ما فيها من الخطإ والأباطيل. *** القضية الرابعة (زعمه وهن الاعتماد على رواة المئات الأحاديث من الصحابة كأبي هريرة) هذه القضية باطلة، فإنها توهم القارئ أن الكاتب يثبت في هذا الفصل مطاعن في عدالة عدة من الصحابة الذي رووا المئات الكثيرة من الأحاديث حتى إذا ما قرأ الفصل كله لم يجد فيه إلا روايات في واحد منهم، وهو أبو هريرة - رضي الله عنه - ويرى أن هذه الروايات لا تسقط عدالته كما نبسطه في هذا المقال. وهذا مما يؤيد قولنا: إن هؤلاء الناس يكتبون ما لا يفهمون؛ لأنهم اعتادوا الجرأة على إلقاء المطاعن من غير تفكير ولا روية، فهم ينقضون ما يبنون ولا يشعرون. *** القضية الخامسة زعمه أن البخاري لم يخطر بباله الارتياب في صدق الصحابة لاعتقاده عصمتهم هذه القضية باطلة أيضًا لأنها حكم بعموم السلب، على شيء يتعلق بالقلب لا يعلمه إلا الرب، فإن مثل هذا الكاتب لا يناقش في مثل هذا التعبير؛ لأنه لا يفرق بينه وبين القول بأن البخاري لا يتهم أحدًا من رواة الصحابة بالكذب، ولا بغيره من العلل القادحة في الرواية، وإنما نريد بيان بطلان زعمه أن البخاري كان يرى أن رواة الصحابة معصومون. والصواب أنه كان يرى ويقول: إنهم عدول صادقون ولا معصومون، وما قال هذا القول هو وغيره من نقاد المحدثين إلا بعد تتبع تاريخهم، كغيرهم من الرواة، وقد نقل عنه الطاعن ما أراد أن يسقط به عدالة أبي هريرة، وشيئًا من تمحيصه لما يرويه، فالبخاري كان أعلم من الطاعن بكل ما قيل في أبي هريرة، وبما رواه أبو هريرة، ولم يره مُسقطًا لعدالته، ولو رآه مسقطًا لها لما روى عنه في صحيحه. وقد كان البخاري من أئمة أهل السنة الذين لا يقولون بأن أحدًا من البشر معصوم من الكذب إلا الأنبياء - عليهم السلام -، وصدق الرواية لا يتوقف على العصمة، وإلا لما قبل أحد من البشر قول أحد بعد تبليغ أنبيائهم الوحي، وإنما يكتفى في تصديق الرواية العلم بعدالة الراوي، وجوده حفظه وضبطه لما يرويه، ولم ينقل عن أحد من مؤرخي البشر، ونقلة الأخبار مثلما نقل عن البخاري من شدة التحري في كتابه الجامع الصحيح، فليأتنا هذا الطاعن بمثله أو بما يقرب منهم من علمائهم، كيف، وكتبهم المقدسة تنسب الكذب وغيره من كبائر المعاصي إلى الأنبياء - برأهم الله تعالى، وصلى الله عليهم وسلم -؟ وهؤلاء المبشرون وأهل نحلتهم لا يقولون بعصمة الأنبياء، دع عصمة ناقلي كتبهم بغير أسانيد متصلة، ولكنهم يقبلون ما عزي إليهم، وسنشير إلى المقابلة بين رجالنا ورجالهم في هذا المقال، ولا حاجة إلى تفنيد قوله بضعف حجة البخاري، الذي بناه على زعمه أن البخاري، يعتقد عصمة الصحابة، فهو ساقط في نفسه، وأضعف منه وأسقط ما بناه عليه. *** القضية السادسة (زعمه أن الأئمة الأربعة أسسوا مذاهبهم على ما رواه البخاري عن أبي هريرة) هذه القضية الباطلة، تدل على مبلغ علم المبشرين الناشرين لهذا المقال، وعلى درجة تحريهم وصدقهم فيما يقولون وينقلون. الحافظ البخاري متأخر عن الأئمة الأربعة، أدرك رابعهم الإمام أحمد بن حنبل وتلقى الحديث عنه. وقد جاء في تهذيب التهذيب عن العقيليّ أن البخاريّ لما ألف كتابه الصحيح عرضه على علي بن المَدينيّ ويحيي بن مَعين وأحمد بن حنبل (وكلهم من كبار شيوخه) وغيرهم، فامتحنوه، وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة. والشاهد في هذا النقل أن البخاري أخذ عمن أدرك من الأئمة الأربعة، ولم يأخذ أحد منهم عنه شيئًا، ولم يكن أحد من المجتهدين يقلد أحدًا في رواية ولا دراية وإنما يأخذ كل منهم بما صح عنده من الرواية. ولد الإمام أبو حنيفة سنة ٨٠ وتوفي سنة ١٥٠ وولد الإمام مالك سنة ٩٣ وتوفي سنة ١٧٩ وولد الإمام الشافعيّ سنة ١٥٠ وتوفي سنة ٢٠٤ وولد الإمام أحمد ١٦٢ وتوفي ٢٤١ وولد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري سنة ١٩٤ وتوفي سنة ٢٥٦ وقد رحل من بلاده لطلب العلم سنة ٢١٠ أي: بعد وفاة الإمام الشافعيّ ببضع سنين وبعد وفاة مالك بإحدى وثلاثين سنة، وبعد وفاة أبي حنيفة بستين سنة. فكيف أجاز لهذا الطاعن في السنة والشريعة، دينه وعقله أن يقول: إن الأئمة الأربعة أخذوا عن البخاري ما رواه من الأحاديث عن أبي هريرة، وبنوا عليه نظامهم الشرعي؟ وكيف توهم أنه جاء بعلوم وحقائق، تزعزع هذه الشريعة التي هي أثبت من الجبال الرواسي؟ أبمثل هذه الدعاوى المخترعة تهدم الحقائق الثابتة؟ *** الجملة الثالثة من كلام الطاعن الشبهات في أبي هريرة الشبهة الأولى (١) قال الطاعن: الارتياب العام في أبي هريرة (بشهادة نفسه) حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ... عن أبي هريرة قال: (إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان من كتاب ما حدثت حديثًا ... إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون) . (البخاري جزء أول كتاب العلم صفحة ٣٧) وكتب في الحاشية ما نصه: (جاء في الإصابة لابن حجر جزء ٧: ٢٣ قوله: (إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله وقد علل هذا الإكثار برواية غريبة) اهـ كلام الطاعن. *** الجواب عن هذه الشبهة استدل الطاعن بهاتين الروايتين على ما سماه الارتياب العامّ في أبي هريرة، ويفهم من هذا أنه يوهم قارئ مقالته أن جميع أهل عصره، أو أكثرهم كان يرتاب في صحة روايته، وهذه دعوى باطلة، ولفظ الناس يصدق بالقليل والكثير، قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران: ١٧٣) . روي في التفسير المأثور أن الذي قال ذلك هو نعيم بن مسعود قال: إن أبا سفيان يجمع لكم الجيش ... إلخ، وقيل: إن القائل ركب عبد القيس، فالناس اسم جنس يطلق على الواحد كما يقال: فلان يركب الخيل: وإن لم يركب إلا فرسًا واحدًا، ويطلق على الكثير. وقد ثبت أن بعض الصحابة أنكروا إكثار أبي هريرة من التحديث كما هو صريح، هذا الحديث الذي اختصره الطاعن من البخاري، وقد صرح في رواية أخرى له بزيادة ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل حديثه ووجه الإنكار أن أبا هريرة من متأخري الصحابة، فينبغي أن يكون أقل سماعًا منهم. ومن المعلوم بالبداهة المتفق عليه من العقلاء، الذين يقضون به في محاكمهم أن الاستنكار والاستغراب في مثل هذا لا يقتضي الاتهام بالكذب، وأن التهمة لا تقتضي بمجردها سلب العدالة؛ لأن من التهم ما يبنى على شبهات وأوهام، ومنه ما هنا. وقد أجاب أبو هريرة عن الإكثار هنا بأنه كان يلزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يفارقه؛ إذ لا تجارة له كالمهاجرين، ولا حرث له كالأنصار، فيشغله هذا أو ذاك، فكان بهذه الملازمة يسمع ما لا يسمعون ويحفظ ما لا يحفظون ويضاف إلى هذا الجواب أنه حدث بما سمعه وبما رواه، وأجوبة أخرى سيأتي بيانها، وأجاب عن أصل التحديث بالآيتين الدالتين على وجوب إظهار العلم وحرمة كتمانه، وهما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} (البقرة: ١٥٩) إلى قوله: {التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: ١٦٠) وقد حذف ذلك الطاعن. وأما الرواية الثانية، وهي ما نقله الطاعن في الحاشية عن الإصابة لابن حجر فهي رواية أخرى لهذا الأثر نفسه، رواهما البخاري عن الأعرج -عبد الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة، وقال الطاعن: إنه علل الإكثار برواية غريبة؛ أي: علل كثرة تحديثه بعلة غريبة أي: عند الطاعن، ولم يذكر هذه العلة! وهي عين العلة التي في الرواية الأخرى مع زيادة تعدّ من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودلائل نبوته؛ ولذلك لم يذكرها الطاعن، وهي: فحضرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا فقال: من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئًا سمعه مني فبسط برده عليّ حتى قضى حديثه ثم قبضتها إليّ، فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئًا سمعته منه بعد، وروى هذا الحديث أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من طرق. وقد فهم أبو هريرة من الحديث عموم السلب المطلق، وصدق عليه ذلك، وإن كان لفظ الحديث يحتمل تقييد العموم بما يقوله - صلى الله عليه وسلم - مدة بسط الرداء، وسنذكر بعض ما قاله الأئمة النقاد في حفظ أبي هريرة، ولم يرو عنه في الصحيح أنه نسي شيئًا حدث به إلا حديث (لا عدوى) فإنه أنكره بعد أن روى ما يدل على ثبوت العدوى، ولعله كان من مراسيله لا من سماعه، فلا يتعارض مع قوله: إنه ما سمع شيئًا ونسيه، أي: بعد مسألة الرداء، أو كان من سماعه قبل بسط الرداء. *** الشبهة الثانية (٢) قال الطاعن: تهمة أبي هريرة بالكذب (بشهادة نفسه) : (عن أبي الرزين قال: خرج إلينا أبو هريرة، فضرب بيده على جبهته فقال: ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله لتهتدوا وأضل، ألا وإني أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها (جزء ٤: ٤٤٠) لا يخفى ما في هذا من الضعف) . (٣) ونقل ابن حجر عن أحمد بن حنبل (جزء ٧ صفحة ٢٠٥) قوله: (قيل: له أكثرت فقال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع أي: الجلود) وقد أردف هذا بشكوى أخرى وهي قوله: (أكثر علينا أبو هريرة) . (٤) نقل ابن حجر عن عائشة (جزء ٧ صفحة ٢٠٥) ما يأتي: قالت عائشة لأبي هريرة: (إنك تحدث بشيء ما سمعته) فأجابها أبو هريرة بما مؤداه أنها كانت مهتمة بزينتها فلم تسمع ما سمعه هو. (٥) عبد الله بن عمرو بن العاص جاء في كتاب أخبار مكة للأزرقي صفحة ١٣٥ قوله: حدثنا أبو الوليد. عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام والكعبة محرقة حين أدير جيش الحصين بن نمير والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف، ومعه ناس غير قليل، فبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تحدَّر كحلاً في عينيه , فقال: يا أيها الناس والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرِّقو بيت الله ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب من أبي هريرة. (٦) عبد الله بن عمر جاء في الترمذي جزء ١ صفحة ٢٨١ قوله: حدثنا ابن عمر فقال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد، أو كلب ماشية. قيل له: إن أبا هريرة كان يقول: أو كلب زرع. فقال: إن أبا هريرة له زرع) , ولا يخفى ما في هذا من التقريع اللطيف. (٧) عن الإصابة لابن حجر جزء ٧ صفة ٢٠٥. كان أبو هريرة قد روى حديثًا عن الصلاة لم يعجب مروان فسأل عبد الله بن عمر فقال عبد الله: لقد أكثر أبو هريرة، فقال له: أتنكر شيئًا مما يقولون؟ فقال: لا، ولكن اجترأ وجبنا. وبلغ ذلك أبا هريرة، فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا؟ . ولا نظن قوله: (اجترأ وجبنا) من قبيل الازدراء، فإن ابن عمر ما كان ينسب الجبن إلى نفسه، أما الجرأة التي نسبها إلى أبي هريرة، فمعناها التهجُّم والتحدي. لعل في هذا ما يميط لنا اللِّثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا على عظم الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن ليجسر على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء. (٨) جاء في الإصابة لابن حجر جزء ٧ صفحة ٢٠٥ أن مروان استاء من كلمة قالها أبو هريرة، فاتهمه بالإكثار من الرواية، وأردف ذلك بقوله: (إنما قدم أبو هريرة قبل وفاة رسول الله. . بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله بخيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين، فأقمت حتى مات) . (ملاحظة) : كان محمد في خيبر في سنة سبع هجرية، أي: قبل موته بنحو أربع سنوات، فالحادثة المذكورة هنا تبين، أن معاصري أبي هريرة أنفسهم كانوا يرون المدة قصيرة جدًّا، لا تعلل إكثاره من رواية الأحاديث التي كان يستشهد بها كلما شاء. اهـ كلام الطاعن بحروفه وإشاراته ورموزه، وحذفه من الروايات وغلطه فيها وهو كثير، ومنه قوله (أتنكر شيئًا مما يقولون) وصوابه (مما يقول) يعني: أبا هريرة، وقوله: (أجرأ وجبنا) وصوابه (اجترأ وجبُنَّا) ولعل هذا الخطأ من الطبع، لا من تحريف الناقل، ولكن بعض غلطه من سوء الفهم قطعًا، كقوله بعد الحديث الذي عزاه إلى أحمد: وقد أردف هذا بشكوى أخرى..إلخ، والصواب أن هذه الزيادة ليست من حديث أحمد. ومنه ما فهمه من كلام ابن عمر. *** الجواب عن هذه الشبهة نقول: أولاً: ليس في هذه الروايات التي أوردها الطاعن، تصريح من أحد بأن أبا هريرة قد ثبت عليه الكذب. وثانيًا: إن التهمة لا تثبت إلا بالبينة والدليل، باتفاق الشرائع والقوانين، وعرف أهل العقل والعدل من البشر أجمعين، ولم يُقم أحد دليلاً، ولا بينة على أن أبا هريرة كذب، وإنما عرض لبعض الصحابة شبهة في رواية أبي هريرة، ولو ثبتت الشبهة، وظلت مجهولة وسببها خفيًّا لصح أن تجعل علة، لعدم إلحاق روايته برتبة الصحيح احتياطًا، ولكن سبب الشبهة معروف، وهو لا يقتضي سلب العدالة ولا عدم الثقة بالرواية. وثالثًا: إن لتلك الشبهة سببين (أحدهما) خاص بكثرة الرواية، وفيه ورد أكثر الروايات، وحاصلها أن مدة صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثلاث سنين وأشهر، وهي لا تتسع للأحاديث الكثيرة التي كان يتوقع التكذيب بها، أو الإيذاء أو القتل إذا حدث بها؛ لأنها من أخبار الفتن التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وقوعها، وهي ما يسميه النصارى بالنبوات، ولما عرف أهل الحديث سبب الشبهة ظهر لهم أنها لا تدل على أدنى طعن في عدالة أبي هريرة، وبيان ذلك من وجوه. *** أسباب كثرة حديث أبي هريرة لكثرة حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أسباب، استخرجناها من عدة روايات (أحدها) أنه قصد حفظ أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وضبط أحواله؛ لأجل أن يستفيد منها، ويفيد الناس، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله، وكان أكثر الصحابة لا يجترئون على سؤاله إلا عند الضرورة، وقد ثبت أنهم كانوا يسرون إذا جاء بعض الأعراب من البدو وأسلموا؛ لأنهم كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن الدلائل على هذا السبب ما رواه عنه البخاري قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث) وما رواه أحمد عن أُبيّ بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء لا يسأله عنها غيره. (ثانيها) أنه كان يلازم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتبعه حتى في زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه، ولو في أثناء الطريق، فكانت السنين القليلة من صحبته له كالسنين الكثيرة من صحبة كثير من الصحابة، الذين لم يكونوا يرونه - صلى الله عليه وسلم - إلا في وقت الصلاة، أو الاجتماع لمصلحة يدعوهم إليها أو حاجة يفزعون إليه فيها، وقد صرح بذلك لمروان، وكما سنبين ذلك في كلامنا على الشاهد السابع من شواهد الطاعن. وأخرج البغويّ بسند جيد كما قال الحافظ ابن حجر: عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه وفي الإصابة عنه أنه قال: أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث، وعن طلحة بن عُبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع. (ثالثها) أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة، وهذه مزية امتاز بها أفراد من الناس كانوا كثيرين في زمن البداوة، وما يقرب منه؛ إذ كانوا يعتمدون على حفظهم، ومما نقله التاريخ لنا عن اليونان أن كثيرين منهم كرهوا بدعة الكتابة عندما ابتدءوا يأخذونها، وقالوا: إن الإنسان يتكل على ما يكتب فيضعف حفظه، وإننا نفاخر بحفاظ أمتنا جميع الأمم وتاريخهم ثابت محفوظ، قال الإمام الشافعيّ: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال البخاري مثل ذلك، إلا أنه قال عصره بدل دهره. وأعظم من ذلك ما رواه الترمذي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظنا لحديثه. (رابعها) بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بعدم النسيان، كما ثبت في حديث بسط الرداء المتقدم، وهو مروي من طرق متعددة في الصحاح والسنن. (خامسها) دعاؤه له بذلك كما ثبت في حديث زيد بن ثابت عالم الصحابة الكبير -رضي الله عنه- عند النسائي وهو: (أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت، فسأله فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد، ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس إلينا فقال: عودوا للذي كنتم فيه قال زيد فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: إني أسألك مثل ما سأل صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى , فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي) . (سادسها) أنه تصدى للتحديث عن قصد؛ لأنه كان يحفظ الحديث؛ لأجل أن ينشره، وأكثر الصحابة كانوا ينشرون الحديث عند الحاجة إلى ذكره في حكم، أو فتوى أو استدلال، والمتصدي للشيء يكون أشد تذكرًا له، ويذكره بمناسبة وبغير مناسبة؛ لأنه يقصد التعليم لذاته، وهذا السبب لازم للسبب الأول من أسباب كثرة حديثه. (سابعها) أنه كان يحدث بما سمعه وبما رواه عن غيره من الصحابة كما تقدم، فقد ثبت عنه أنه كان يتحرى رواية الحديث عن قدماء الصحابة فروى عن أبي بكر وعمر، والفضل بن العباس وأُبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد وعائشة، وبصرة الغفاري، أي: أنه صرح بالرواية عن هؤلاء، ومن المقطوع به أن بعض أحاديثه التي يصرح فيها باسم صحابي كانت مراسيل؛ لأنها في وقائع كانت قبل إسلامه، ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور. وقد روى أيضًا عن كعب الأحبار وهو من علماء يهود، أسلم في أيام أبي بكر، وقيل: في أيام عمر، ووثقه المحدثون، ولكن روى البخاري عن معاوية أنه قال فيه: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. ولم يروِ البخاري في صحيحه شيئًا لكعب. وقد كان في نفسي شيء من رواية كعب قبل أن أرى ما قاله فيه معاوية، وأعلم أن كثيرًا من الناس يتهمونه بالكذب. ثم رأيت للحافظ ابن كثير كلامًا في ذلك. فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة، ولم ير استنكار أفراد من أهل عصره لها موجبًا للارتياب في عدالته وصدقه؛ إذ علم أن سبب ذلك الاستنكار عدم الوقوف على هذه الأسباب. على أن جميع ما أخرجه البخاري في صحيحه له ٤٤٦ حديثًا بعضها من سماعه، وبعضها من روايته عن بعض الصحابة، وهي لو جمعت لأمكن قراءتها في مجلس واحد؛ لأن أكثر الأحاديث النبوية جمل مختصرة. فهل يستكثر عاقل هذا المقدار على مثل أبي هريرة أو من هو دونه حفظًا، وحرصًا على تحمل الرواية وأدائها، فيجاري هذا الطاعن في الشريعة على الطعن في الإمام البخاري لتخريجها؟ كيف، وهذا الطاعن لا يوثق بنقله ولا بفهمه، ولا بقصده إلى بيان الحقيقة، بل نعلم علم اليقين أنه يريد التشكيك والطعن؛ لأن هذا هو عمله الذي يعيش له وبه؟ *** سبب استنكار بعض حديث أبي هريرة: نقل الطاعن في الشاهد الثاني عن أبي رزين أن أبا هريرة قال على مسمع منه: (ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وعزى هذا إلى (جزء ٤٤٥: ٤) ولم يذكر اسم الكتاب، وظاهر عزوه الشاهد الذي قبله إلى البخاري أنه يعني أن هذا في البخاري أيضًا، وإنما نعرفه من رواية مسلم. وذكر في الشاهد الثالث أنه قال: لو حدثتكم بما سمعت لرميتموني بالقِشع. وصوابه: لو حدثتكم بكل ما سمعت، وذكر في الشاهد الخامس عن كتاب أخبار مكة للأزرقي أنه قال حين رأى الكعبة محرقة بعد انصراف جيش الحصين بن نمير: يا أيها الناس لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتِلو ابن نبيكم بعد نبيكم ومحرّقو بيت ربكم، لقلتم ما من أحد أكذب من أبي هريرة. يعني لو حدثهم قبل إحراق بني أمية للكعبة بذلك لكذبوه؛ لأن الخبر مما يستبعد تصديقه. فعلم من قوله أنه كان يعلم بهذا الحديث قبل وقوعه؛ لأنه سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودليل هذا أنه قرنه بخبر مثله في بعده عن الوقوع، ولم يكن قد وقع، وهو أنهم سيقتلون ابن نبيهم يعني: الحسين -عليه السلام- وقد وقع ذلك بعد وفاته - رضي الله عنه-. كان أبو هريرة يعلم أن كثيرًا من الناس لا يصدقون الروايات التي تستبعد عقولهم وقوعها، وإن كانت جائزة في نفسها، فيتوقع أن يكذبوه إذا هو حدث بها، ويظنون أنه عزاها إلى الرسول؛ لأجل قبولها، وكان يعتقد أن بني أمية يقتلونه إذا هو حدث بكل ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحداثهم ومفاسدهم، وهذا هو مراده بقوله الذي رواه عنه البخاري في صحيحه: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين من العلم، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقُطع مني هذا البلعوم - يشير إلى عنقه. قال الحافظ في الفتح: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه، ولا يصرح خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان. يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الفتن اهـ. وقد وفَّى الحافظ بوعده هذا في شرح حديث أبي هريرة في أوائل كتاب الفتن من صحيح البخاري، وهو قوله لسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية: سمعت الصادق المصدوق يقول: (هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش) [١]- وفي رواية أحمد والنسائي (إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش) فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وفلان لفعلت. أي: ولم يكن مروان يعلم حين لعنهم أنهم قومه وأبناؤه، ولكن أبا هريرة هو الذي يعلم ولم يصرح. وذكر الحافظ في شرحه لهذا الحديث حديثًا آخر له من المرفوع في بيان معناه أخرجه علي بن معبد، وابن أبي شيبة عنه وهو: (أعوذ بالله من إمارة الصبيان- قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم في دينكم، وإن عصيتموهم أهلكوكم في دنياكم) . فتبين بهذا أن الأحاديث التي كان يتوقع أبو هريرة تكذيب بعض الناس له فيها هي ما كان من هذا النوع، وظهر بهذا أن ما أورده الطاعن من الشواهد على اتهامه بالكذب لا يفيد شيء منه إثبات التهمة، وقد بينا آنفًا أن رواية أبي رزين عند مسلم، والرواية التي عزاها إلى أحمد، وهي من طريق يزيد بن الأصم عن أبي هريرة، ورواية عبد الله بن سعد عن الأرزقي - كلها صريحة في أن أبا هريرة كان يعتقد، أو يظن أن بعض الناس يكذبونه في بعض أحاديث الفتن إذا هو حدث بها قبل وقوعها لغرابة موضوعها. بقي من شواهد الطاعن أربعة (أحدها) قول عائشة له: إنك لتحدث بشيء ما سمعته. وقد عزا الحافظ هذا إلى تخريج ابن سعد وكتابه ليس في أيدينا، فلا ندري أذكر سببه بعينه أم لا، والظاهر من جواب أبي هريرة أنها أنكرت حديثًا رواه؛ لأنها لم تسمعه هي من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل هذا وقع لها في أحاديث غير واحد من الصحابة لهذه العلة كارتيابها في حديث المعراج، وفي حديث الرؤية في الآخرة، وفي حديث وفي موت العلماء، واتخاذ الرؤساء الجهال الذين يَضلون ويُضلون. ففي صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سمع هذا الحديث من عبد الله بن عمرو، فأخبر به خالته عائشة، فأعظمت ذلك وأنكرته وقالت له: أحدثك أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا؟ على أنها هي التي أرسلته إليه ليأخذ عنه الحديث قال: (قالت لي عائشة: يا ابن أختي بلَغني أن عبد الله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج فسائله، فإنه قد حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمًا كثيرًا) ثم إنها مع هذا ومع ما تعلم ويعلم كل الصحابة من ورع عبد الله وعدالته، قد ارتابت في هذا الحديث، وبقيت مرتباة فيه مدة حول كامل- قال عروة: فلما كان قابل (أي العام الذي بعد ذلك العام) قالت له: إن ابن عمرو قد قدم فالقه، ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكر لك في العلم، قال: فلقيته فساءلته، فذكره لي نحو ما حدثني به مرته الأولى. فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق، أراه لم يزد فيه شيئًا ولم ينقص. والجواب المشهور عند العلماء في مثل هذه المسألة أن من حفظ حجةٌ على من لم يحفظ. (ثانيها) حديث عبد الله بن عمر في قتل الكلاب، نقله الطاعن عن الترمذي، وهو في صحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجه أيضًا. وقد قال العلماء: إن مراد ابن عمر بقوله: (إن لأبي هريرة زرعًا) هو أن أبا هريرة كان محتاجًا إلى معرفة حكم اتخاذ الكلب للزرع؛ لأن له زرعًا فسأل عن ذلك وحفظه وعمل به. ويؤيد هذا ويفند زعم الطعن أنه يريد التقريع ما صح عن ابن عمر من تفضيل أبي هريرة على نفسه، وتقدم بعض كلامه في ذلك، ومنه الشاهد الآتي الذي عده الطاعن تكذيبًا لأبي هريرة، وهو عين التصديق والتعديل - وهو -: (ثالثها) ما نقله عن الإصابة -وهو الشاهد السابع- من أن رواية سمع من أبي هريرة حديثًا لم يعجبه ... إلخ ما تقدم، وقد حرف الطاعن الرواية. وهذا نصها: وروينا في فوائد المزكي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه فقال مروان: أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة. فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا ولكنه اجترأ وجبنا اهـ بحروفه [٢] . وعبارة المبشر الطاعن توهم أن ما أورده هو نص ما في الإصابة، ولعله يريد بقوله في الحديث: (لم يعجب مروان) إيهام القارئ أن موضوع الحديث قبيح أو منكر أدبًا، ثم إنه فسر الجرأة التي وصف ابن عمر بها أبا هريرة بالتهجم والتحدي، وهذا من أكبر الجرأة على القول بغير علم، فالتحدي معناه المباراة والمعارضة، ولا محل له هنا، فالطاعن أثبت بهواه معنى غير صحيح، ونفى معنى صحيحًا، وهو وصف ابن عمر نفسه بالجبن، والمراد به كما تقدم في بيان السبب الأول من أسباب كثرة حديث أبي هريرة، أنه كان جريئًا على سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان أكثر الصحابة يهابون سؤاله، فلا يكادون يسألونه إلا لضرورة. فهذا معنى قول ابن عمر: اجترأ وجبنا. وهو قد صرح هنا بأنه لا ينكر شيئًا من قول أبي هريرة، ولكن القسيس المبشر يريد أن يقنعنا مع هذا التصريح بأنه أنكر كلامه وكذبه!! ، وقد فسر ابن الأثير (اجترأ وجبُنا) بقوله: يريد أنه أقدم على الإكثار من الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجبنا نحن عنه، فكثر حديثه، وقلَّ حديثنا اهـ. هذا وإن هذا الحديث عن أبي هريرة مطعون في سنده، فإن رواية عبد الواحد بن زياد ليس ثقة فيما يرويه عن الأعمش عن أبي صالح كما صرح به الذهبيّ في الميزان، وذكر هذا الحديث من مناكيره عنه، وأما جملة التحدّي التي كتبها الطاعن بغير فهم، فهي مصحفة عليه من أثر في الإصابة عن عبد الله بن عمر. قال الراوي: كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما تقول ولكنا نجبن وتجترئ. أي: نجبن عن كثرة التحديث، وتجترئ أنت عليه. فيكون هذا بمعنى رواية عبد الواحد على الوجه الذي فسرها به ابن الأثير. ولكن كلمة تجترئ صحفت في طبعة الهند للإصابة هكذا (نحتزي) ، ولعل الطاعن رآها في طبعة مصر مصحفة أيضًا بفعل من التحدي، أو ما يقرب منه، وأنى له أن يعرف الأصل؟ وهذا يُثبت قولنا: إن هذا الطاعن يكتب ما لا يفهم، وإنه لا ثقة بنقله، ولا بفهمه، ومن الغريب أنه ترجى أن يكون هذا التفسير الباطل لتلك الكلمة المحرفة من تلك الرواية المنكرة أصلاً للطعن في جميع الأحاديث، لا لتكذيب أبي هريرة وحده، فقال: (ولعل في هذا ما يميط لنا اللثام عن مصادر الأحاديث، فإنه يدلنا على عظم الاستسلام إلى رواة الأحاديث غير المدققين، والأرجح أن عبد الله لم يكن ليجسر على مقاومة أبي هريرة، وإنما جاهر برأيه بلهجة الازدراء) اهـ. فليهنأ المسلمون بهذا الطاعن بشريعتهم بمثل هذا الخبط والخلط والتحريف والدعاوي المضحكة، ومن ذا الذي لا يضحك من ادعاء هذا المبشر أن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين القرشي ما كان يجسر على تخطئة أبي هريرة الدوسي الضعيف؟ . كان ينبغي لك أيها القس المحترم أن تلمَّ قبل تصديك لتشكيك المسلمين في دينهم، وتهجمك على الطعن بشريعتهم، أن تلمَّ قليلاً بتاريخهم، فإننا نرى عوام نصارى بلادنا العربية، يعلمون كخواصهم أن حرية النقد واستقلال الرأي عند الصحابة رضي الله عنهم قد بلغت أوج الكمال، وأن أرقى الأوربيين حرية كالإنكليز لم يبلغوا درجتهم في ذلك، إنهم يعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي كانت تخشى بأسه ملوك الأرض، وتهابه الإنس والجن كان يقول الكلمة على المنبر في المسجد الجامع فتخطئه بها المرأة أو الأعرابي، فيعترف بخطئه إذا كان مخطئًا، فهل يقال في هؤلاء: إن أعظمهم مكانة في العلم والشرف لا يجسر أن يصرح برأيه في تخطئة أضعفهم؟ على أنه كان يكفيك أن تفهم شاهدك الآتي -وهو-: (رابعها) ما نقله عن الإصابة محرفًا ناقصًا كالذي قبله -وهو الشاهد الثامن- ونحن ننقله بنصه ليقابله القراء بما نقله [٣] ويروا درجة أمانته. قال الحافظ: (وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح: سمعت أبا هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك.- وكان الأمير يومئذ غيره- ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان، وقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، وإنما قدِم قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيسير. فقال أبو هريرة: قدمت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين فأقمت معه حتى مات، و (كنت) أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو معه وأحج، فكنت أعلم الناس بحديثه، وقد - والله - سبقني قوم بصحبته فكانوا يعرفون لزومي له فيسألونني عن حديث كان بالمدينة، وكل من كانت له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة، ومن أخرجه من المدينة أن يساكنه. قال: فوالله ما زال مروان بعد ذلك كافًّا عنه) . فخلاصة هذه الرواية أن مروان بن الحكم غضب لإنكار أبي هريرة عليه أمرًا كان لأهل بيته (بني أمية) فيه سياسة -والدولة دولتهم- فلم يجد كلمة يشفي بها غيظه إلا قول بعض الناس: أكثر أبو هريرة، فلما بين له أبو هريرة سبب إكثاره أذعن له، ولم يعد إلى مثل ذلك، أليس من العجائب أن يعمد هذا القس المبشِّر إلى هذه الرواية فيحرِّفها ليستدل بها على كذب أبي هريرة أو تكذيب الناس له، وما هي إلا حكاية لشبهة الإكثار التي فندها أبو هريرة، وأجبنا نحن عنها بما استنبطناه من مجموع الروايات المبينة لأسبابها، وهي سبعة؟ وجواب أبي هريرة يدل على جرأته، وعلى سعة حرية العرب حتى في عهد معاوية أيضًا، فإنه ذكر لمروان نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لوالده الحَكَم، وسيأتي بيان ذلك. *** الجملة الرابعة من كلام الطاعن شبهات أخرى في أبي هريرة قال: (١- جاء في مجموعة الرسائل للغزالي في كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول صفحة ٣٢ قوله: أقلد جميع الصحابة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب. . وأما أبو هريرة كان يروي كلما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ) . (اقتبس كولدزير هذا القول في كتابه (الظاهرية) صفحة ٧٩، ولكن بدون إشارة إلى القيد المذكور، فأبو حنيفة لم يَرْتَبْ في وثائق أبي هريرة، ولكنه ارتاب في قيمة أحاديثه باعتبارها أركانًا للشريعة) . (٢- حلقة أبي حنيفة: على أن ارتياب أبي حنيفة، وأتباعه في قبول كلام أبي هريرة كان مبنيًّا على ارتيابهم في وثائقه، فقد نقل الدميري في كتاب الحيوان، أنه وقع خلاف بين بضعة من رجال الإفتاء في جامع بغداد، فأنكر الحنفيّون الاستشهاد بأبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق روايته، وكان الخليفة هارون الرشيد في جانب الفريق المرتاب) اهـ. هذا ما قاله الطاعن بنصه على ما فيه من الغلط، والتحريف والإيهام من وجوه: (منها) أن مجموعة الرسائل ليست للغزالي، وإنما هي رسائل لكثير ممن قبله وبعده. (ومنها) أن كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول ليس للغزالي كما توهمه عبارته. (ومنها) أن قوله: (أقلد جميع الصحابة) ... إلخ منقول في كتاب المؤمل عن أبي حنيفة , وظاهر عبارة الطاعن أنه للغزالي؛ لأنه هو الذي سبق ذكره في كلامه؛ ولهذا يتعجب من يرى لاحق كلامه، وذكره فيه لأبي حنيفة. (ومنها) أن الأصل (يروي كل ما سمع) لا (كلما سمع) كما كتب الطاعن، والفرق بينهما معروف لكل من له إلمام بالعربية. (ومنها) أنه أورد شبهة واحدة؛ وإنما عقد العنوان لشبهات متعددة، ولكنه قسم هذه الشبهة إلى قسمين: (أحدهما) ادعاؤه أن أبا حنيفة لا يَحتجّ بالأحاديث التي يرويها أبو هريرة. (والثانية) أن أتباعه كذلك لا يحتجون بها. ولعلنا لو راجعنا عبارة حياة الحيوان لاستخرجنا من نقله لها بالمعنى الذي أراده أغلاطًا، وتحريفات أخرى، والغرض من هذا بيان ما قلناه أولاً من أنه لا يوثق بنقله، ولا بفهمه، مع القطع بأنه يقصد الطعن لتشكيك المسلمين في الإسلام لا تمحيص الحقيقة، ولكن بعض خطئه مما لا يهتدي عاقل إلى تعليله، كنسبته كتاب المؤمل، ومجموعة الرسائل إلى الغزالي!! . أما الجواب عن هذه الشبهة فهي أن أبا حنيفة لم يطعن في رواية أبي هريرة بهذه العبارة ولا بغيرها، ولم يتهمه بالكذب، وهذه العبارة التي فسرها الطاعن بهواه لا بما تدل عليه في عرف الفقهاء لا تنهض حجة له، فالتقليد عند علماء الشرع هو العمل برأي المقلَّد (بفتح اللام) لا بروايته، لا خلاف بين المذاهب في هذا. فأبو حنيفة يقول في هذه الرواية عنه: إنه يقدم رأي الصحابي على رأيه - أي: رأيه الذي يستنبطه من الكتاب أو السنة بالقياس - إلا رأي هؤلاء الثلاثة، وعلل ذلك بقوله: (أما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يفتي من عقله وأنا لا أقلد عقله، وأما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ) فقد صرح بأنه كان يروي ما سمعه، وهذا ينفي اتهامه بأنه يكذب، وصرح بأنه ما كان يقصد من الرواية استنباط الأحكام منها بالتأمل في معاني الأحاديث، والبحث عن الناسخ والمنسوخ منها؛ ليقدم الأول عند التعارض. وحاصل ذلك أنه راوٍ غير مستنبط فيؤخذ بروايته لا برأيه وفهمه. وهذا صحيح، فإن أبا هريرة كان يقصد بحفظ الحديث أولاً روايته والاهتداء به بنفسه، وثانيًا نشر السنة وإيصالها إلى الناس ليهتدوا بها بحسب اجتهادهم عملاً بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم -، المشهورة في خطبة حجة الوداع؛ إذ قال (ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه (وفي رواية: رُب مبلَّغ أوعى من سامع) وكلتاهما في البخاري وغيره. وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت مرفوعًا (نضَّر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) . والرواية الأخرى عن أبي حنيفة، وهي الأشهر أنه قال: أقلد من كان من القضاة المفتين من الصحابة كأبي بكر وعمر، وعثمان وعلي والعبادلة الثلاثة، ولا أستجيز خلافهم برأيي إلا ثلاثة نفر. -وذكرهم- والمراد بالعبادلة الثلاثة عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وقد ترك الطاعن نقل هذه الرواية من كتاب المؤمل؛ لأنها أظهر في المراد الذي بيناه، وأبعد عن التحريف الذي ادعاه. وما زعمه من رد الحنفيّة للاستشهاد بحديث أبي هريرة؛ لاشتباههم في صدق روايته اعتمادًا على حكاية محرفة نسبها إلى حياة الحيوان، فهو باطل، وهذه كتب الحنفيّة في الحديث والفقه، تكذب هذه الدعوى، وصاحب الدار أدرى، ومذهب السواد الأعظم من الفقهاء المجتهدين أن رأي الصحابة ليس بحجة في الشريعة سواء كانوا فقهاء مستنبطين، أو رواة ناقلين، وإنما الحجة في الرواية إذا صحت. *** خلاصة الطعن في أبي هريرة، والأجوبة عنه ينحصر طعنه في أبي هريرة في ثلاثة أشياء: ١- استكثار بعض الصحابة لروايته، وقد بيّنّا أسبابها المزيلة لاستغرابها. ٢- توقع أبي هريرة لتكذيب بعض الناس له، إذا هو صرح بكل ما سمعه. وقد بينا أن هذا خاصّ بما سمعه من أخبار الفتن التي أسرّ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا كثيرًا منها، ومثله في ذلك حُذيفة بن اليمان وقد ذكر كل منهما بعض ما سمع تصريحًا أو تلويحًا، فوقع كما قالا، فكان من دلائل النبوة التي لا تحتمل التأويل. ٣- أن الحنفيّة لا يحتجون بروايته، وأنهم يعتقدون أنه كان كاذبًا، وهذه دعوى باطلة تكذبها الألوف من كتب المذهب والملايين من أتباعها، ويعارض هذه الشبهات الباطلة إجماع أئمة الفقه، ومنهم الأربعة المشهورون على الاحتجاج بما صح عندهم من أحاديث أبي هريرة المرفوعة -وكذا المرسلة عند الجمهور- وثناء كثير من الصحابة ومن بعدهم على سعة حفظه وجودة ضبطه، وقد ذكرنا بعضها، ومن الغريب أن أبا هريرة أغضب مروان بن الحكم الأموي -الذي كان أمير المدينة، ثم صار أمير المؤمنين، وعرّض أمامه تعريضًا يقرب من التصريح بأن عشيرته هي التي تفسد على المسلمين أمرهم، ولم يجد مروان كلمة يقولها فيه إلا حكاية قول من قال: أكثر أبو هريرة. ولما جبهه بتذكيره بنفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لوالده (الحكم) من المدينة لم يعد إلى تلك الكلمة ولا غيرها، ولو وجد فيه مطعنًا لما قصر في التشنيع عليه به. وقد ورد أن مروان امتحنه لعله يعثر عثرة يؤاخذه بها, قال الحافظ في الإصابة: وقال أبو الزُّعيزعة كاتب مروان: أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل يحدثه، وكان أجلسني خلف السرير أكتب ما يحدث به، حتى إذا كان في رأس الحول أرسل إليه، فسأله وأمرني أن أنظر فما غير حرفًا عن حرف اهـ. فيا ليت شِعري، ماذا كان يقول هذا الطاعن لو نُقِلَ أن أبا هريرة غيَّر أو بدَّل أو زاد أو نقص في الأحاديث التي حدث بها مروان؟ - وإذًا لعاقبه مروان وشهر به حتى لا يقبل أحد حديثه- أو لو طعن في دينه وإيمانه غير مروان؟ بل ماذا يقول هو وسائر دعاة النصرانية، لو نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرده كما طرد المسيح - عليه السلام - بطرس وسماه شيطانًا، وهو كبير تلاميذه ورسله؟ ففي الفصل ١٦ من إنجيل متى أنه طوبه، وجعله الصخرة التي يبني عليها كنيسته، وقال له: (١٩ وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السماوات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات) . قال متى: (٢٠ حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد: إنه يسوع المسيح ٢١ من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر بتلاميذه، أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرًا من الشيوخ، ورؤساء الكهنة والكتبة. ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم ٢٢ فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشاك يا رب ٢٢ فالتفت، وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لا تهتم بما لله، لكن بما للناس. فهذه الشهادة على بطرس، وهذا اللقب كان على رواية متى بعد تلك المنحة والخصوصية التي خصه بها، فهل نسختها أم يجوز الجمع بينها؟ ونحن نجل حواريّ المسيح، ولا نؤمن بهذه الرواية حتى نحتاج إلى الجواب عنها، وفي متى (١٤: ٣١) أن المسيح قال لبطرس أيضًا: (يا قليل الإيمان) وفي ١٧: ٢٠ وصف التلاميذ كلهم بعدم الإيمان، وأنه ليس لهم منه، ولا مثل حبة خردل. ومثل هذه الشهادة متعددة في غيره من الأناجيل. حتى إن منها ما جاء بصيغة المستقبل كقوله لهم بعدما رأوا آية إطعام خمسة آلاف من خمسة أرغفة: (إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون) ، (يوحنا ٦: ٣٦) ، وكما وصفهم بعدم الإيمان، وصفهم بأنهم أشرار وروى ذلك لوقا في (١١: ١٣) من إنجيله. ثم يا ليت شِعري، لو وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة بمثل هذين الوصفين - أو لو وصف بذلك في كتاب الله المجيد - ماذا كان يقول فيه في روايته هذا المبشِّر المحترم والقس الجدل الذي وضعته جمعيته في أشهر البلاد الإسلامية بالعلم لينصر المسلمين فيها؟ وهل يقبل منا أن نقول له: لماذا تقبل رواية تلاميذ المسيح بلا سند مع وصف المسيح لهم بما ذكر وهو المعصوم من الخطإ، ولا تسمح لنا بقبول رواية أبي هريرة، ولم يجرحه من دون المسيح بمثل ذلك؟ (للرد بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))