جرت العادة بأن تدعو محافظة مصر الكبراء والوجهاء من أهل العاصمة لوداع سمو الخديوي المعظم عند سفره للاصطياف في الإسكندرية ولاستقباله عند قدومه منها فَيُلَبُّوا الدعوة، وقد ارتأى بعض المقربين من جنابه العالي أن يحتفلوا لقدومه في هذا العام بتزيين الطريق من المحطة إلى قصر عابدين المعمور، فأعلنوا ذلك في الجرائد وفي مقدمتها جريدة المؤيد الغراء، ودعوا الناس إلى الاكتتاب، وألَّفوا لجنة برئاسة سعادتلو عبد القادر باشا حلمي، فأقبل طائفة من الأغنياء والوجهاء على الاكتتاب حتى بلغ ما جمعته اللجنة ألفًا ومائتي جنيه، فأنفقوا على الزينة ألف جنيه، فكانت أحسن زينة رآها الناس في شوارع القاهرة. أنشأوا ثلاثة أقواس أحدها عربي في ميدان المحطة، والثاني إفرنجي في ميدان الأزبكية بالقرب من تمثال إبراهيم باشا، والثالث مصري في ميدان عابدين، وأنشأوا بالقرب من هذا مسلتين بهيئة المسلات المصرية القديمة، وزيَّنوا المسلة الكبرى والأقواس بالأنوار الكهربائية الملونة والنقوش الجميلة، ونصبوا على جانبي الطريق سلاسل من أغصان الأشجار، علَّقوا فيها قناديل (فوانيس) من الورق، وزاد الزينة بهاء وكمالاً أصحاب الدكاكين والفنادق والحانات الذين زينوا أبوابهم بالأنوار الكهربائية والأعلام، وأكثرهم من الأجانب كما هو معلوم. وقد أقام المحتفلون سرادقين عظيمين أمام قصر عابدين أحدهما لاستقبال سموه، والآخر للعزف والغناء، فشرَّف الأمير - أعزه الله - ليلاً ما أُعِدَّ له إجابة لدعوة المحتفلين، وأظهر لهم البشر والارتياح، وأثنى على عملهم وأريحيتهم، وكانوا قرروا أن ما زاد عن نفقة الزينة من المال الذي يُجمع لها يكون إعانة لمدرسة محمد علي الصناعية التي أنشأتها جمعية العروة الوثقي في هذا العام، فشكر لهم الأمير وضع هذه المساعدة في محلها، وتلك عادته الممدوحة يثني على العاملين ويذكرهم بخير. ثم مر سموه في شارع الزينة ليلاً ذاهبًا إلى قصر القبة المعمور، وقد حُشر الناس إلى هذا الشارع من كل صوب وناحية، فكان مزدحمًا بالألوف من الرجال والنساء والولدان إلى ما بعد نصف الليل، وكانت تلك ليلة الجمعة التي يستريح الأكثرون في يومها، وكان فرح الناس بالزينة مختصًّا بالأجانب وأبناء الطبقة الدنيا من المصريين، إذ كانوا يمزقون قناديل الورق ويأخذون الشمع منها، حيث لم يجدوا أحدًا من الشرطة يمنعهم، وبهذا قلَّ بهاء الزينة بعد الساعة التاسعة حيث كثر هؤلاء الرعاع المعتدون، وأما الخواص فقد كانوا في همٍّ وغَمٍّ؛ لأن يوم الزينة هو اليوم الذي تحقق فيه احتلال فرنسا بقسم من أسطولها وعسكرها في جزيرة مدللي (متلين) بالقرب من زقاق الدردنيل، أما حكم مثل هذه الزينة شرعًا فلا يخفى على مسلم، وربما نكتب عنه بالتفصيل في جزء آخر. استدراك على المقالة الأولى من هذا الجزء ذكرنا في المقالة الافتتاحية أن الشرقيين اقتدوا بالغربيين في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم، وأن هذه الاحتفالات لأجل إحياء الشعور بعظمة وعزة الدولة التي يمثلها الملك والأمير، فأما خبر الاقتداء فقد سبق به القلم على غير بينة ولا دليل، والصواب أن الشرقيين أشد الناس تعظيمًا لملوكهم منذ القدم، وحسبك أنهم عبدوهم من دون الله، وأنهم لا يزالون يقدسونهم بقدر ما لهم من السلطة والاستبداد، وأما مسألة إحياء الشعور فنرى بعض الجرائد تنوِّه بضدها ذاهبة إلى أن هذه الاحتفالات منبعثة عن الشعور بعظمة من احتُفل لأجله وحبه، وربما يصح هذا من بعض المحتفلين الذين لهم فيه منافع تولِّد هذا الشعور؛ ولكن الظلم في إسناده إلى الأمة مع أن القائمين به أفراد معدودون معروفون، وقد علمت من بعض كبار الموظفين من الإنكليز بمناسبة ذكر عيد مولد ملكهم أن هذا العيد لا يكاد يعرفه الإنكليز، ولا في لوندرة، ولا يُحتفل به، ولا بعيد الجلوس أحد إلا السفراء والوكلاء عن الدولة في البلاد الأجنية؛ فإنهم يرفعون الأعلام ويقبلون التهاني من سفراء سائر الدول ووكلائها، وقال إن الملك إذا قدم من سفر إلى لوندرة لا يستقبله الكبراء والوجهاء في المحطة كما يستقبل المصريون الجناب الخديوي، ولا يزينون له المحطة ولا الشارع الذي يمر منه، فهل كان الإنكليز فاقدي الشعور والإحساس وغير مخلصين لملكهم؟ كلا إن الفرق بيننا وبينهم عظيم. ولا يخفى أن الكلام عام في الاحتفالات والشعور الباعث عليها أو المنبعث عنها لا في سمو الخديوي وحب المصريين لمقامه الكريم؛ فإن هذا مما لا نزاع فيه. سفر الجناب العالي إلى السودان يسافر سمو الخديوي المعظم في هذا الشهر إلى السودان بصفة رسمية، وإننا نرى آراء الناس مختلفة في هذا السفر، ومنهم أصحاب الجرائد، وسنذكر ذلك مفصلاً بعد السفر إن شاء الله تعالى.