بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١-٤) وبعد، فقد كتبت هذه المقالة، وهي بحث تاريخي عقلي في العهد الجديد وفي عقائد النصرانية، تتميمًا للبحث السابق في مسألة الصلب والفداء، راجيًا من الله أن يوقظ بها الغافلين، ويهدي بها الضالين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، فأقول وبه تعالى وحده أستعين، إنه حسبي ونعم الوكيل: اتفقت شهادة علماء النصارى الأقدمين على أن متَّى لم يكتب إنجيله اليوناني الحالي، وإنما الذي فعله، كما سيتضح لك، هو أنه جمع بعض أقوال المسيح عليه السلام باللغة العبرية، وأقدم شهادة وصلت إلى النصارى في هذا الموضوع هي شهادة بابياس (Papias) أسقف هيرابوليس الذي استشهد في سنة ١٦٤ أو ١٦٧ ميلادية، فإنه كتب في منتصف القرن الثاني كتابًا ضخمًا في خمسة مجلدات، فُقِدَ ولم يبقَ منه سوى جمل قليلة نقلها عنه أوسابيوس (Eusebius) وإيريناوس (Irenaeus) فمن هذه الجمل التي نقلها أوسابيوس (مات سنة ٣٤٠ م) قوله: (إن متَّى كتب مجموعة من الجمل (Logia) باللغة العبرية) يعني بعض كلمات المسيح باللغة الآرامية (وقد ترجمها كل بحسب طاقته) . اهـ. ومع أن أوسابيوس المؤرخ وغيره وصفوا بابياس هذا بسخافة العقل وضعف الإدراك؛ فإنه لا يوجد عند النصارى شهادة لكتبهم أقدم وأعظم من شهادته هذه على ضعفها؛ فهي سندهم الوحيد من عصر المسيح إلى منتصف القرن الثاني. وفي سنة ١٨٠ ميلادية، ذكر إيريناوس الذي مات سنة ٢٠٢ م أن متى كتب إنجيلاً باللغة العبرية أو الآرامية ولا ندري لماذا فقدت كتابات متى العبرية ومن ترجمها ومتى ترجمت؟ وإذا لاحظنا أن الأصل الذي كتبه متى كان عبارة عن بعض عبارات المسيح وكلماته (Logia) كما هو صريح شهادة بابياس المذكورة - ظهر لنا أن واحدًا مجهول الاسم أخذ هذه المجموعة وترجمها وهذَّبها ورتَّبها وأضاف إليها ما شاء من الحوادث وغيرها لربط الجمل بعضها ببعض حتى صارت هي الإنجيل اليوناني الذي سمي باسم متى فيما بعد، فهل بمثل هذا الإنجيل يمكننا أن نثق ونحن لا نعلم من ترجمه؟ ومن الذيتوسع فيها؟ وهل الترجمة صحيحة أم محرَّفة؟ وهل الزيادات التاريخية التي فيه صادقة أم كاذبة؟ وأين هو الأصل الذي ترجمه هذا المترجم؟ واعلم أنه لم يروِ أحد من قدمائهم أن متى كتب إنجيلاً يونانيًّا كما يدّعون الآن بلا برهان. فهذا هو حال إنجيلهم الأول، ومنه يُعلم أن أول من نص على أن متَّى كتب إنجيلاً عبرانيًا هو إيريناوس سنة ١٨٠ ميلادية أي في أواخر القرن الثاني، ولا نعلم إن كان الإنجيل اليوناني الحالي مترجمًا عن هذا الذي ذكره إيريناوس أم لا؟ أما مرقس فإنه جمع بعض أخبار المسيح وأقواله غير مرتبة كما هي الآن على ما صرح به بابياس المذكور، وعليه فَيَدٌ أخرى رتبت هذا الإنجيل وزادت فيه، ثم زيد فيه شيئًا فشيئًا حتى صار كما هو الآن، ومن أحدث الزيادات فيه العبارات المذكورة في آخره (١٦: ٩-٢٠) ولذلك لم توجد في بعض نسخهم القديمة التي عثروا عليها؛ لأن زيادتها إذ ذاك لم تعم جميع النسخ، ولكنها عمتها فيما بعد كما هو الحال الآن؛ وهذه العبارات المشار إليها تتضمن ظهور المسيح لتلاميذه، ودعوة العالم كله للنصرانية، ورفعه إلى السماء ودعوى إعطاء المؤمنين بالمسيح القدرة على خوارق العادات والمعجزات (عدد ١٧ و١٨) وهي دعوى يردها الحس والعيان وسيأتي البحث فيها. هذا وقد كتب مرقس ما كتب بعد موت بطرس وبولس كما صرح بذلك إيريناوس (Irenaeus) فلم يطلع إذًا بطرس على ما كتبه مرقس بالرواية عنه. ومرقس لم يجتمع بالمسيح ولم يره قط. فأي ثقة لنا بمثل هذا الإنجيل؟ وهو لم يذكر إلا في أواخر القرن الثاني كإنجيل متى. وأما ما ذكره بابياس في منتصف هذا القرن فعن مجموعة أخرى من أقوال المسيح وأخباره غير مرتبة بحسب زمن وقوعها بخلاف هذا الإنجيل فإنه مرتب. وأما لوقا فإنه أيضًا ليس تلميذًا للمسيح ولم يره وكذلك بولس أستاذه [١] ، ولا يوجد دليل على أنه كتب إنجيله بالوحي، بل الظاهر من مقدمته أنه كتبه بالاجتهاد (١: ١-٣) ولم يذكر أيضًا هذا الإنجيل صريحًا في القرن الأول والثاني إلى سنة ١٨٠ ميلادية، وقد اعترف مؤلفه أنه وجد قبله أناجيل أخرى كثيرة، وهو يدل على تأخر زمنه. وأما إنجيل يوحنا فلم يذكره أحد إلا في أواخر القرن الثاني، وفيه من الأقوال والآراء ما لم يروِه أحد غيره. مثال ذلك دعواه أن المسيح قال: ٨: ٥٨ (قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن) . ولا ندري لماذا لم تذكر أمثال هذه العبارة في الأناجيل الثلاثة الأخرى؟ فهل كان العالم غير مستعد لهذه التعاليم قبل كتابة إنجيل يوحنا كما يزعمون؟ مع أن بحث الناس في الكلمة (Logos) بدأ قبل المسيح بقرون عديدة، فكان الفيلسوف اليوناني زينو (Zeno) أستاذ الرواقيين من سنة ٣٤٠ - ٢٦٠ قبل الميلاد يعتقد أن الكلمة هي الشيء العامل في الكون والخالق له والكائن فيه، وكان الناس في زمن المسيح كثيري البحث في مثل هذه المسألة وغيرها، شديدي الشغف بأمثال هذه الفلسفات اليونانية اليهودية التي نشأت عنها بعض العقائد المسيحية. ولذلك نجد بحثًا طويلاً في هذه المسألة في كتابات فيلو (Philo) الفيلسوف اليهودي الإسكندري الذي كان معاصرًا للمسيح، وفي الترجوم الكلداني، وأيضًا في كتاب الحكمة (Wisdon) المنسوب لسليمان عليه السلام. فلماذا إذًا لم يذكر بحث الكلمة إلا في مؤلفات يوحنا دون سائر التلاميذ الآخرين مع أن البحث كان شاغلاً لأذهان الناس قبل المسيح وفي زمنه وبعده؟ فإن كان المسيح حقيقة قال تلك الجملة السابقة أو نحوها، فلماذا تركها الإنجيليون الآخرون؟ ولماذا لم يرشدهم روح القدس بعد حلوله عليهم إلى جميع الحق أو أهمه ليدونوه كما دونه يوحنا؟ أم كان الخوف من اليهود هو الذي منعهم من ذلك كما يزعمون؟ ولماذا لم يمنع هذا الخوف النصارى الأولين من المهاجرة بعقائدهم حتى نالهم من الاضطهاد والأذى والقتل ما نالهم على ما يقولون؟ فكيف يمنع الخوف الرسل من بيان الحق للناس ولا يمنع من هم أقل منهم من المجاهرة به في كل مكان وزمان؟ . وهناك مسائل أخرى كثيرة مذكورة في هذا الإنجيل الرابع ذكرنا بعضها سابقًا في مقالة الصلب، ولا أثر لها في الثلاثة الأولى، كدعواه أن يوحنا ذهب مع بطرس إلى دار رئيس الكهنة وقت محاكمة المسيح ودخوله وحده قبل بطرس ثم استئذانه له (١٨: ١٥ و١٦) وأنه دون سائر التلاميذ كان واقفًا عند الصليب مع مريم أم عيسى (١٩: ٢٦) وذهابه مع بطرس إلى القبر بعد قيامة المسيح منه (٢٠: ٢ و٣) وتسميته نفسه في أغلب الأوقات بالتلميذ الذي يحبه يسوع (٢١: ٢٠ و١٣ و١٣: ٢٣ - ٢٦) إلى غير ذلك مما لم يرد في الأناجيل الأخرى، وهي كلها مسائل موضوعة من مؤلف هذا الإنجيل للمبالغة في مدح يوحنا، وتعظيمه وتفضيله عن باقي التلاميذ، ولذلك لم يروها إنجيل من الأناجيل الأخرى وهي من الأهمية بمكان عظيم لو صحت. ومما يلاحظه الإنسان أن يوحنا يتكلم في رسائله بصيغة المتكلم، وأما في هذا الإنجيل فيتكلم دائمًا عن نفسه بصيغة الغيبة. وورد في آخر هذا الإنجيل (٢١: ٢٤) هذه العبارة: هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق. وهي تشعر بأن بعض أتباع يوحنا في أفسس أخذوا ما كتبه يوحنا وتوسعوا فيه ومنه ألفوا هذا الإنجيل ونسبوه إليه وعظموه فيه كثيرًا، واخترعوا له من الحوادث ما لم يذكره غيرهم، ثم قالوا: ونعلم أن شهادته حق، ولذلك ترى هذا الإنجيل أصح عبارة في اللغة اليونانية من سفر الرؤيا لمهارة كاتبيه فيها. ومن غرائب استدلال النصارى على أن لبطرس يدًا في تأليف إنجيل مرقس، أنه خالٍ من مدح بطرس مع أنه قد خص بطرس بالذكر في أعظم المقامات (مر ١٦: ٧) وهو إنجيل مختصر وترك تفصيل كثير من المسائل. وفي مقابلة هذا النقص والاختصار لم يذكر تفاصيل أخرى من الخالية عن المدح تكون مكتسبة من معلومات بطرس. ومع ذلك فإذا صح استدلال النصارى هذا في بطرس فكيف ساغ ليوحنا مدح نفسه كل هذا المدح حتى خص نفسه بحب المسيح أكثر من كل أحد سواه وذكر لنفسه من الحوادث ما لم يروه أحد غيره. فالحق أن هذا الإنجيل هو من وضع بعض أتباع يوحنا المتأخرين في أفسس، كما قلنا؛ ولذلك نجد أن بوليكارب (Polycarp) تلميذ يوحنا الخصيص لم يشر إلى هذا الإنجيل بكلمة واحدة مع أنه ذكر كثيرًا من العبارات عن المسيح توجد في الأناجيل الأخرى وكذلك بابياس (Papias) لم يذكره، وإن كان في يوستينوس (Justin) الشهيد المتوفى نحو سنة ١٦٦ ميلادية، يقول: إن سفر الرؤيا هو ليوحنا. لكنه لم يذكر أن يوحنا كتب هذا الإنجيل مطلقًا وهو ينقل كل ما يكتبه من حياة المسيح عن الكتاب المسمى (Memoris Of The Apostles) (مذكرات الرسل) تاركًا ذكر جميع هذه الأناجيل الحالية، وما في كتاباته عن حياة المسيح يختلف كثيرًا في بعض المسائل عما في إنجيل يوحنا، فلو كانت هذه الأناجيل معروفة في زمنه لنقل عنها وخصوصًا إنجيل يوحنا فإنه يناسب آراءه، ومع ذلك لم يشر إليه بكلمة واحدة. وفي هذه المذكرات أشياء لا توجد في الأناجيل الحالية أو تناقضها. وقد صورت الأناجيل الثلاثة الأول المسيح بأنه ما كان يعلم أن يهوذا الإسخريوطي سيسلمه (متى ١٩: ٢٨ ولو٢٢: ٣٠) إلا في آخر حياته، وأنه ما كان يعلم متى تقوم القيامة [٢] (مر ١٣: ٣٢) وأنه كان حزينًا جدًّا؛ ويستغيث بالله مرارًا لينجيه من الصلب (مت ٢٦: ٣٨ - ٤٤ ومر ١٤: ٣٤ - ٤١) حتى صار يتصبب عرقًا من كثرة الإلحاح في الدعاء فنزل عليه ملك من السماء ليقويه (لو ٢٢: ٤٣ و٤٤) وأما الإنجيل الرابع فصوَّره بأنه كان من أول الأمر يعلم أن يهوذا سيخونه (بو ٦: ٧٠ و٧١) وأنه يعلم كل شيء (٦: ٦٤ و٢: ٢٥ و١٦: ٣٠) وأنه ما كان حزينًا لأجل الصلب (إصحاح ١٤ - ١٧) غير أنه اضطرب قليلاً (يو ١٢: ٢٧) وأنه أسلم نفسه لليهود طائعًا مختارًا (يو ١٠: ١٨) حتى كانوا يسقطون على الأرض من هيبته (١٨ : ١ - ١١) . وقد ترك أيضًا هذا الإنجيل ذكر تجارب الشيطان له [٣] وصيامه أربعين يومًا وليلة لله تعالى (مت ٤: ١-١١) وصلواته الكثيرة (لوقا ٦: ١٢ و ١١: ١ و٩: ١٨ ومر ٦: ٤٦ ومت ١٤: ٢٣) وصراخه وقت الصلب من الألم (مت ٢٧ : ٤٦) وكذلك ترك قصة شجرة التين [٤] (مت ٢١: ١٨ - ٢٢) ومر ١١: ١٢ - ١٤) لأنها تؤدي إلى نسبة الجوع والجهل والظلم والعجز للمسيح؛ حيث إنه لم يعرف إن كان بالشجرة تين أم لا مع أنه لم يكن وقت التين كما ذكر مرقس (١١ - ١٣) ثم إنه ظلمها وظلم صاحبها أو كل من كان ينتفع بها من السابلة بدعائه عليها حتى يبست، وكان الأولى به أن يُوجِد التين فيها في غير وقته بقدرته!! فإن ذلك يكون أفيد وأحكم وأدل على القدرة، أو يشفيها إن كان عدم ثمرها لمرضها!! لذلك ترك يوحنا هذه القصة كما ترك كل أمثالها خوفًا مما تؤدي إليه، فكل ذلك يدل على أن هذا الإنجيل كتب في زمن كان فيه الناس قد تغالوا في المسيح ورفعوه لدرجة تقرب من درجة الأب (الله) [٥] فهو مظهر من مظاهر ترقيهم في هذه العقيدة تدريجيًّا؛ ولذلك اختلف هذا الإنجيل المتأخر عن الأناجيل الثلاثة الأول في هذه وغيرها وتركها عمدًا لغاية له علمها العلماء من الناس الآن. فإن قيل: لعل يوحنا أراد أن يكون إنجيله مكملاً للأناجيل الثلاثة الأولى فلذا لم يذكر ما ذكرته منعًا للتكرار. قلت: إن ما سبق بيانه لا يصلح أن يعتبر تكميلاً بل هو تناقض بيِّنٌ كما لا يخفى على المتأمل، والظاهر من الأناجيل أن كُلاًّ منها كتب ليكون كاملاً بنفسه لا مكملاً لغيره، وإلا إذا صح قولكم هذا فكيف ذكر يوحنا كثيرًا من الحوادث التي ذكرتها الأناجيل الثلاثة مع أنها ليست من الأهمية بمنزلة الأشياء التي تركها؟ مثال ذلك معجزة إطعام خمسة آلاف رجل قد ذكرها متى (١٤: ٢١) ومرقس (٦: ٤٤) ولوقا (٩: ١٤) فكيف بعد ذلك ذكرها يوحنا؟ (٦: ١٠) وكذلك دخول المسيح أورشليم راكبًا حمارًا [٦] [٧] قد ذكروه كلهم (انظر مت ٢١: ٢ ومر ١١: ٢ ولو ١٩: ٣٠ ويو١٢:١٤) فإن قيل: إن ذكرهم لركوب الحمار هو لأنه كان تتميمًا لنبوة زكريا (٩: ٩) قلت: كذلك كان صراخ المصلوب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ تتميمًا للمزمور (٢٢: ١) فلِمَ لم يذكره يوحنا؟ ألا يدل ذلك على أنه تحاشى ذكر كل ما من شأنه أن يقلل من درجة المسيح التي يريد رفعه إليها؛ ليجعله كلمة الله القديمة التي وُجدت قبل جميع المخلوقات، وبها كانت المخلوقات ثم تجسدت وقبلت الصلب بإرادتها لا رغمًا عنها كما يفهم من الأناجيل الأخرى؟ راجع رسالة الصلب (ص ١٢٤ و١٥٦ و١٦١) فالحق أن كلاًّ منهم كتب إنجيله على استقلال، وتوخى فيه غاية مخصوصة فذكر من الحوادث والأقوال ما يلائم غرضه؛ ولو كان مكررًا في الأناجيل الأخرى فتجدها تتفق في بعض المسائل حتى في لفظها؛ ثم تختلف في الأخرى، حتى يتعسر أو يتعذر الجمع بينها وما دام هذا حال الأناجيل فهي من الوجهة التاريخية لا قيمة لها؛ لأنها تابعة للأغراض تدور معها حيث دارت. وقد ذكرت الأناجيل الثلاثة الأول (مت ١٩: ١٧ ومر ١٠: ١٨ ولو ١٨: ١٩) أن رجلاً نادى عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله: أيها المعلم الصالح، فأنكر المسيح عليه ذلك تواضعًا، وقال له: لماذا تدعوني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله. وأما يوحنا فلم يذكر هذه القصة مطلقًا كعادته، وروى عن المسيح أنه كان يقول مرارًا (يو ١٠: ١١ و١٤) أنا هو الراعي الصالح، وأنه قال: (يو١٠: ٣٠) أنا والأب واحد، وغير ذلك كثير مما لم تروِه الأناجيل الأخرى، وإن كانت العبارة الأخيرة التي رواها يوحنا ليست نصًّا في ألوهيته؛ إذ حملها على المجاز سهل كما هو ظاهر وقد قال المسيح أيضًا نحوها في تلاميذه (يو ١٧: ١٤ - ٢٦) إلا أن روح العظمة والكبرياء التي في رواية يوحنا هذه لا تتفق مع روح التواضع التي تُرى في رواية الآخرين عن المسيح، فإن كان ما رواه يوحنا عنه (مثل ٣: ١٣ و٨ و١٢: ٤٥: ١٠ و١٦: ٢٨ و١٧: ٥) صحيحًا، فمن أقبح النقص ومن أعظم أسباب تضليل الناس في أمر المسيح أن يترك ذلك الإنجيليون الثلاثة، وخصوصًا لوقا الذي تعمد أن يكون إنجيله كاملاً وجامعًا لجميع أخبار المسيح وأقواله المهمة؛ إذ قد تتبع كما يقول عن نفسه (١-٣) كل شيء من الأول بتدقيق. فلا يعقل أن مثل هذا الكاتب المدقق يترك كل أقوال المسيح المهمة في مبحث ألوهيته؛ ليكملها له يوحنا أو غيره كما يدَّعون، وإن خالفوا قول لوقا نفسه، وهو عندهم موحى إليه، وكتب إنجيله بالإلهام الإلهي بعد نزول روح القدس عليهم جميعًا!! فلم إذًا لم يوحَ إليه ما أوحى إلى يوحنا مع أن يوحنا لم يُرد أن يكون إنجيله كاملاً كلوقا؟ (يو ٢١: ٢٥) أم نسي الله أن يلهمه هذا المبحث العظيم ولم يعلم أن ذلك سيكون سببًا في إنكار كثير من الناس ألوهية عيسى في كل زمان ومكان وتكذيبهم يوحنا فيما رواه وانفرد به دون جميع زملائه الآخرين حتى إن تسمية المسيح (بالابن الوحيد) و (بالكلمة) بالمعنى الذي أراده يوحنا لم ترد في كتاب من كتب العهد القديم أو الجديد إلا في المؤلفات المنسوبة إلى هذا الرجل؟! وما هي إلا فلسفة يهود الإسكندرية وغيرهم سرت إلى المؤلف فطبقها على المسيح، والمسيح براء مما ينسبه إليه، أو يرويه عنه، كما هو ظاهر من الأناجيل الأخرى. فإن قيل: لعل لوقا أراد أن يكون إنجيله شخصيًّا؛ لأنه قدمه لثاوفيلس، وربما أن هذا الرجل كان يعرف ألوهية المسيح وأقواله في هذه المسألة وما كان يشك فيها؛ فلذا تحاشى لوقا ذكر كل ما يثبتها له من أقوال المسيح؟ قلت: إن الذي يفهم من إنجيل لوقا نفسه (١: ٤) أن ثاوفليس ما كان يجهل شيئًا مما جاء في هذا الإنجيل، وإنما كان الغرض من كتابته له تثبيته، فلماذا لم يُثَبِّتْهُ لوقا في عقيدته في لاهوت المسيح، ولم يروِ له ما قاله المسيح نفسه في ذلك كما ثَبَّته في غيرها من الحوادث؛ وإن كان يعرفها من قبل؟ وأيُّ ضرر إذا ذكر لوقا أقوال المسيح في ألوهيته؟ حتى إنه تجنب ذكرها [٨] في إنجيله بالمرة؟ وسماه إنسانًا ونبيًّا (لو ٢٤: ١٩) . ولو فرض أن لوقا لم يذكر إلا ما جهله ثاوفيلس، فهل يُعقل أن هذا الصديق العزيز للوقا (١: ٣) والذي يعلم النصرانية من قبل (لو ١: ٤) كان يجهل أو يشك في وجود عيسى وفي جميع تفاصيل حياته وولادته من العذراء وفي صلبه وقيامته وصعوده إلى السماء، حتى فصَّل له لوقا كل ذلك تفصيلاً؟ وإذا كان يجهل هذه المسائل أو يشك فيها فكيف لم يشُك في ألوهية المسيح؟ وكيف علم ثاوفيلس أقوال المسيح في ألوهيته ولم يعلم باقي تفاصيل قصته التي فصَّلها له لوقا، مع أن هذه الأقوال ما كانت منفصلة عن حوادث حياته كما يفهم من إنجيل يوحنا، ومن علم هذه علم، تلك فلمَ فصَلها لوقا عنها وتركها؟ وإذا كان هذا الإنجيل شخصيًّا فلمَ لم يكتب تلميذ من تلاميذ المسيح إنجيلاً عموميًّا يكون وافيًا بجميع المسائل؟ ولم إذًا جعلتم إنجيل لوقا عموميًّا ونشرتموه بين الناس في كل زمان ومكان وهو غير وافٍ بالغرض؟ وأي إنجيل عندكم أوفى منه؟ وكيف يجب على البشر الإيمان بأكبر معضلة في العالم مخالفة للعقل ولما نُقل عن جميع أنبياء بني إسرائيل، وهي مسألة ألوهية المسيح - كيف يجب الإيمان بها لمجرد رواية شخص واحد خالف فيها جميع التلاميذ الآخرين، وأتى بما لم يأتوا به؟ وهل نسيتم أن من دعا لعبادة غير الله يجب قتله كما في سفر التثنية (١٣: ١-٥) ولو كان مؤيدًا بالآيات والمعجزات؟ فكيف إذًا يصدق يوحنا هذا، وهو لم تتواتر عنه أيّ معجزة؟ ولو تواترت لما عافته من استحقاق القتل بنص التوراة. على أن جميع عباراته في هذه المسألة ليست نصًّا قاطعًا كما بُين في إحدى الحواشي الماضية، وفي كتابنا (دين الله) ص ٧٦ و٧٧ وهي كلها مما يمكن تأويله. ولا أدري لِمَ لم يأولوها وباعهم في التأويل أطول من جميع العالمين، ولهم في التعسف والتكلف آراء تعجز عنها الجن والشياطين؟! فالحق أن لوقا إنما لم يرو ما رواه يوحنا؛ لأن كاتب إنجيل يوحنا افتجره من عند نفسه افتجارًا وليس هناك من سبب آخر غير ذلك؛ فلا تجهدوا أنفسكم في انتحال الأعذار والأسباب ولا تكونوا في كل شيء مكابرين، وعن الحق دائما معرضين. وهناك مسائل أخرى كثيرة ذكرها علماء النقد تدل على أن كاتب هذا الإنجيل ليس يوحنا تلميذ المسيح بل ولا يهوديًّا ممن يعرفون أرض فلسطين ولا هيكل أورشليم ولذلك وقع في الغلط في أثناء وصف تلك البلاد ومعبدها. فمن ذلك قوله (١: ٢٨) (هذا كان في بيت عنيا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يُعمِّد) . كما في جميع النسخ القديمة، وهي مدينة لا وجود لها في هذا المكان، ولم يعرفها أحد حتى ولا أوريجانوس المتوفى نحو سنة ٢٥٤ ولذلك أبدلوها في نسخهم الحالية (ببيت عبرة) وقوله (٣: ٢٣) (وكان يعمد في عين نون بقرب ساليم؛ لأنه كان هناك مياه كثيرة) ، وهذا الموضع أيضًا ما عُرف قط حتى ولا في القرن الثالث، وأقرب مكان يمكن أن يقال: إنه هو المراد، موضع في شمال السامرة، ولكن الذي يُفهم من إنجيل يوحنا أنه في اليهودية (٣: ٢٢ و٤: ٣) وقوله (٤: ٥) (فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار) وهي غير معروفة ويظن بعضهم أنها (شكيم) ويرُد هذا الظن أن بئر يعقوب عند مدخل الوادي تبعد ميلا ونصف ميل عن شكيم، ولا يعقل أن المرأة السامرية كانت تذهب هذه المسافة البعيدة لجلب الماء مع أن الماء غزير بالقرب من المدينة (راجع قاموس بوست مجلد ١ص ٥٩٢) . ومن ذلك أيضا قوله: (يو٢: ١٤ و١٥) (إن البقر والغنم كانت تباع في هيكل أورشليم) وقد حقق العلماء أنه لم يكن لها موضع هناك بل كانت تباع في سوق بعيدة عنه خارج أورشليم (راجع كتاب دين الخوارق ص ٥٥٠) على أن هذه القصة ذكرت في الأناجيل الأخرى متأخرة عن الزمن الذي ذكره يوحنا (انظر متى ٢١: ١٢ ومر ١١: ١٥ ولو ١٩: ٤٥) والظاهر أن الحق معها، فإن المسيح ما كان ليقدم على طرد الباعة وكب الدراهم وقلب الموائد وضرب الناس بالسوط (يو ٢: ١٥) وهو لا يزال في أول أمره في السنة الأولى من بعثته قبل أن يعرفه الناس مع أنه كان بعد ذلك يذهب إلى أورشليم مختفيًا خوفًا من اليهود كما قال يوحنا نفسه (٧: ١٠ - ١٣ و١١: ٥٣ - ٥٧) ثم قصة بِركة بيت حسدا (٥: ٢ - ٩) ومع أن هذه البِركة الآن غير معروفة مطلقًا، فمن العجيب أن يكون لها هذه الخاصية العظمى التي ذكرها يوحنا في شفائها للمرضى الذين كانوا ينزلون أولاً فيها بعد تحريك المَلَك ماءها مباشرة، ولا يذكرها يوسيفوس ولا غيره من المؤرخين في ذلك العصر؟! فهي قصة كاذبة ولذلك حاول النصارى حذفها من الإنجيل من قديم الزمان وهذا هو سبب حذفها في كثير من نسخهم القديمة كالسينائية والفاتيكانية ولكنها موجودة في الإسكندرية وغيرها، فانظر إلى مقدار تصرف هؤلاء الناس في كتبهم المقدسة. والخلاصة أن هذه الأناجيل الأربعة ما كانت معروفة إلا في أواخر القرن الثاني، وكان هناك كتب أخرى كثيرة يستشهد بها المؤلفون غير هذه الأناجيل كمذكرات الرسل [٩] المذكورة سابقًا وإنجيل العبرانيين وإنجيل الأبيونيين والأناجيل المنسوبة إلى بطرس وتوما والاثني عشر وبرنابا ونيقوديموس وغيرها كثير، وبعد ذلك صارت تشتهر الأناجيل الأربعة شيئًا فشيئًا حتى جُعلت هي القانونية ورُفض غيرها الذي ضاع أكثره أوأعدموه تدريجيًّا. ولعل السبب في بقائها دون غيرها هو أنها أصح عبارة في اللغة اليونانية وأقرب إلى غرض النصارى في تلك الأزمنة وأقل تناقضًا وخطأً من غيرها، وربما كان مروجوها بينهم أكثر وأمهر من مروجي تلك وأبرع منهم في حسن السبك. هذا، وقد امتدت فلسفة اليهود في الكلمة (Logos) أو الحكمة كما يسميها سفر الأمثال (٨: ١٢) وكتاب الحكمة ليشوع بن سيراخ (٢٤: ٩) امتدت من الإسكندرية إلى آسية الصغرى، وهناك وجدت وسطًا صالحًا لنموها فامتزجت بآراء بولس وغيره في المسيح في الفداء والخلاص وهي الآراء التي فشت في النصارى وقتئذ، ومن مجموع ذلك صدرت الكتب المنسوبة إلى يوحنا من كنيسة أفسس، وهي المدينة التي كان يوحنا مقيمًا فيها؛ ولذلك لم تعرف هذه الكتب (الأناجيل والرسائل) المنسوبة إليه بين النصارى الأقدمين إلا في آخر القرن الثاني كما سبق. فإن قيل: إذا كانت الأناجيل الحالية مما كُتب في القرن الثاني، فكيف لم يحذف النصارى منها أقوال المسيح الدالة على قرب مجيئه وعلى أن ذلك يكون عقب خراب أورشليم مباشرة (راجع مثلا مت ١٠: ٢٣ و١٦: ٢٨ و٢٤: ٣ و٢٩ -٣٤ ومر١٣: ٢٤ - ٣٠) مع أن ذلك لم يتحقق؟ قلت: إن هذه الأقوال كانت تعزية المسيحيين الكبرى على مصائبهم في هذه الدنيا (١ تس ٤: ١٨) من عهد المسيح إلى أوائل القرن الثاني بعد موت يوحنا الذي كانوا يظنون أنه يبقى حيًّا إلى مجيء المسيح عليه السلام (يو ٢١: ٢٣) فإذا صح أن عيسى قال شيئًا منها فلا بد أنهم لم يفهموا مراده الحقيقي فنقلوا عبارته محرفة حتى خرجت عن معناها الأصلي وشاعت بينهم على غير حقيقتها. والأرجح عندي أن اليهود الذين دخلوا في المسيحية استنتجوا من كتبهم أن زمن عيسى هو آخر الزمان وأن القيامة قريبة جدًّا منهم كما يفهم من سفر أشعيا (٢: ٢) وأرمياء (٢٣: ٢٠) والتكوين (٤٩: ١) ويوثيل ٢: ٢٨ - ٣٢) فانتشرت هذه الأقوال بين النصارى الأولين (راجع أيضا أع ٢: ١٦ - ٢١) وفشت فيهم حتى نسبوها إلى المسيح نفسه، وزعموا أنه قال: إن القيامة ستقوم عند خراب أورشليم مباشرة (مت ٢٤: ٣ و٢٩ - ٣٥) ولذلك قال سفر الأعمال أيضًا نقلاً عن يوئيل ما يفهم منه أنها ستقوم عقب نزول الروح على التلاميذ يوم الخمسين (٢: ١ - ٢١) فكان النصارى في القرن الأول وفي أوائل الثاني يظنون قرب مجيء القيامة فدخلت هذه الأقوال فيما كتب من الأناجيل إذ ذاك (كأصل إنجيليْ متى ومرقس القديم) وتداولها الناس بينهم واشتهرت عندهم هذه النبوات وصاروا يرتقبون تحققها يومًا بعد يوم، فلا يُمكن بعد أن كُتبت وشاعت أن يتلاعبوا فيها؛ وأعين الناس متجهة إليها في ذلك الزمن. أما كاتب الإنجيل الثالث، وفالظاهر أنه كان في زمن يئس فيه الناس من تحقق هذه النبوات وأمثالها في القرن الثاني أو الجيل الثاني كما يفهم من مقدمة إنجيله، فلذا شك في رواية ألفاظها الواردة في أصل الإنجيل الأول والثاني وحور عباراتها تحويلاً يجعلها أصلح للتأويل مما في الإنجيلين الأولين، ولم يذكر الأقوال الأخرى الواردة في إنجيل متى التي أشرنا إليها هنا (راجع لو ٢١: ٧ و٢٥ - ٣٢) تجد عبارته مخففة في هذا الموضع عن سابقيه ولم يمنعه اشتهار ألفاظها الواردة في الأناجيل التي قبله وشيوعها بين الناس واعتقادهم لها من هذا التحوير؛ لجزمه بخطأ روايتها، وإلا لكان المسيح نفسه هو المخطئ فيها، وهو غير جائز طبعًا. وأما الإنجيل الرابع، فتركها بالمرة وهو مما يدل على شدة تأخر زمنه وتحقق الناس من عدم صحتها ويأسهم منها يأسًا تامًّا [١٠] . ولا يلزم من اشتهار هذه الأفكار والنبوات بين النصارى في القرن الأول كله والثاني أن غيرها مما في الإنجيل المنسوب لمتى ومرقس كان شهيرًا شهرتها ومعروفًا بينهم مثلها. فكاتباهما وإن تحاشيا تحريفها أو تحويرها لشهرتها، إلا أن ذلك لا يضمن لنا صحة رواية الأشياء الأخرى التي ليست شهيرة بين الناس شهرة هذه النبوات. وهذا وعدم علم بابياس المتوفى نحو سنة ١٦٤ - ١٦٧ ميلادية بهذين الإنجيلين (متى ومرقس) بحالتهما الحالية - كما بيَّنا - يدل على أنهما لم يكونا بهذه الحالة في زمنه أو لم يشتهرا بها إذ ذاك، بل كان إنجيل متى عبارة عن بعض أقوال عن المسيح باللغة العبرية وإنجيل مرقس عبارة عن مجموعة من أخبار المسيح وأقواله باللغة اليونانية إلا أنها غير مرتبة كما سبق بيانه؛ وربما كان الذي منع التلاميذ من الاعتناء بكتابة الإنجيل هو توهمهم قرب انتهاء العالم، فإذا صح أن نبوات يوم القيامة كانت في أصل هذين الإنجيلين فمترجم الأول ومرتب الثاني لم يجسرا على تحويرها أو تحريفها نظرًا لشهرتها بين الناس أو لظنهما أنها ربما تحققت عن قريب ولكن هذا السبب لم يكن عند كاتب الإنجيل الثالث كافيًا لمنعه من إصلاح ما اعتقد خطأه لتأخر زمنه ويأسه، وخصوصًا لأنه كان كثير الاجتهاد والتدقيق كما هو صريح مقدمته ولم يقصد بكتابة إنجيله أن يكون لجميع الناس بل لشخص صديق له يسمى ثاوفيلس فلا يهمه إن قبله الناس منه أو لم يقبلوه ما دام مقتنعًا بصحة ما استنتجه وكتبه وصدقه فيه صاحبه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي البقية تأتي ((يتبع بمقال تالٍ))