للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جبر ضومط


اللغة العربية [*]

من هم الأصليون في الجزيرة العربية
القحطانيون [١] أم العاديون [٢]
هذه المسألة على ما يخيل لي من المسائل الصعبة التي لم يتصد لها أحد بعد
فيما أعلم ليزيح عنها الخفاء أو ليقطع فيها الالتباس وكأني بالشائع المتعارف أن
العاديين والعمالقة وغيرهن من القبائل العادية هم الأصليون وأن القحطانيين تغلبوا
عليهم وحلوا محلهم فانقرض هؤلاء وبقي أولئك. والذي أراه أن القحطانيين هم
قرارة سكان العربية والأصليون في اليمن وجباله وما يليها من المواطن كحضرموت
ونجد وأرض البحرين وجنوبي الحجاز مما يتصل باليمن. وأن العاديين جاءوا
إليها متأخرين، ومع الأيام وبالاستيلاء على طريق التجارة تقوَّوا شيئًا فشيئًا إلى أن
دانت لهم العربية كلها وأخضعوا القحطانية لسلطتهم واستمروا على ذلك زمانًا إلى
أن أصابت إحدى دولهم جائحة سماوية في الراجح فذلوا وقامت القحطانية تطلب
الملك والاستيلاء ورفع سلطة العاديين عنها فتم لها ذلك.
وما زال النزاع بين الفريقين يتجدد من زمن إلى زمن إلى أن قام الفرع
الحِميري الظِّفاري فتغلب على البلاد واشتدت وطأته على أهل مأرب فارتحلوا في
البلاد فمنهم من قصد نجران ومنهم من أمّ عمان ومنهم من استمرت به رحلته حتى بلغ
العراق وهم لخم وغسان، وأذلوا من بقي في البلاد من العاديين وأشياعهم من
العدنانيين في الحجاز ونجد واليمامة وأرض البحرين ذلاًّ شديدًا فاشتدت بسبب ذلك
البغضاء بين القحطانيين والعدنانيين حتى ضرب بها المثل واستمر ذلك فيهم إلى أن
ظهر الإسلام فأخمد ظهوره شيئًا من تلك الثائرة بما كان له من التأثير في نفوسهم
وبما شغلهم به من المغازي والفتوحات وامتداد السلطة والغلب. على أن تلك العداوة
لم تلبث أن عادت إلى شدتها في أيام المروانيين من بني أمية وانتقلت مع
القوم حيث انتقلوا.
وبلغ من حدتها في الجيل الرابع للهجرة المبلغ الذي وصفه أبو الطيب المتنبي
في إحدى كافورياته حيث يقول في شبيب الخارجي وكان خرج فيمن
تبعه من قيس على كافور وحاصر دمشق وكاد يفتحها عنوة.
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني

والذي يظهر لي أيضًا أن العدنانيين الذين بقيت فيهم اللغة العربية كانوا من
العاديين (إلا من انضم إليهم بأخرة من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل) ولذلك
أذلتهم القحطانية وناصبتهم العداء من حين ظهرت على العاديين أسلافهم في أوائل
المسيحية ولم تألُ جَهدًا عن إذلالهم والتحكم فيهم إلى أن عادت لهم الدولة بواسطة
قريش وبفضل الإسلام.
فإن لم يكونوا أي العدنانيون من العاديين العمالقة في النسب فلا أقل من أنهم
كانوا حلفاءهم ينقلون لهم تجارتهم وبقوا على ذلك أحقابًا متطاولة جعلت لسانهم
وعصبيتهم مع لسان العاديين وعصبيتهم أمرًا واحدًا. أقول هذا وأنا أرجح ما قلته
أولاً أي: أن العدنانيين (معظمهم إن لم يكن كلهم) عاديون [٣] دارًا ولسانًا. وإقامة
الدليل على ذلك خارج عن موضوعي، ولعلي أعود إليه في فرصة أخرى.
***
بيان أن القحطانية أصلية في شبه الجزيرة العربية
وأن قرارة دارهم اليمن
قلت: إن المسألة صعبة الحل لما في الأخبار المنقول إلينا من التشويش
والتضارب وكان يمكنني أن أضرب عنها صفحًا إلا أني لا أرى هيئة من أهل العلم
والأدب أرقى من الهيئة التي أمامي الآن تستطيع أن تتبعني في هذه المزالق
التاريخية؛ ولذلك لا أرى بدًّا من الإشارة إلى البراهين التي حملتني على ترجيح ما
قلت أي أن القحطانيين هم أصليون في جزيرة العرب وقراراتهم منها اليمن وهم
سابقون فيها على العاديين. وبيانه:
(أولاً) : إنه لا خلاف أصلاً بين العدنانيين والقحطانيين لا في تاريخ ولا
في تقليد أن القحطانية هي العريقة بسكنى اليمن، وأنها هي التي بقيت في البلاد بعد
انقراض الدولة العادية. وقد أجمع المؤرخون عن آخرهم على تسمية العاديين
بالعرب البائدة بعدما نقلوا عنهم ما نقلوه من الغنى والقوة وضخامة الملك. ولو كانوا
عريقين في البلاد كالقحطانيين ولهم مثل ما لهم من العدد والتأصل في السكنى لكان
يستحيل انقراضهم حتى لا يبقى من يشار إليه منهم، فالأقرب إلى المعقول إذن أن
المعنيّ بانقراضهم انقراض دولتهم , ولما انقرضت دولتهم وزالت السلطة من أيديهم
ظهر بعدهم بالضرورة سكان البلاد الذين كانوا خضعوا لدولتهم وظهورهم معناه
خروجهم من ربقة العاديين واسترداد استقلالهم أولاً ثم منازعة العاديين الغلبة والملك
في ديارهم التي نزلوها إلى أن تم لهم ذلك وذهبوا بالملك والسيادة من أيديهم جملة ,
وهذا معنى انقراضهم.
(ثانيًا) كانت عاد في هذا الرمل من الأحقاف بين عمان واليمن إلى
حضرموت فكيف يُعقل أنهم انقرضوا ولغتهم باقية في هذه البلاد لحد هذه الساعة
ثم كيف ينقرض أهل اللغة وتبقى اللغة نفسها؟ إن هذا لغريب وأغرب منه أن يكون
العاديون الذين انقرضوا هم أهل البلاد الأصليون والذين قرضوهم من القحطانيين
دخلوا عليهم البلاد فاتحين ولهم لغة خاصة بهم ثم بعد أن استمر ملكهم ولغتهم مئات
سنين عدنا فرأينا في آخرها أن لغة البلاد حينئذ كانت لغة العاديين الذين انقرضوا لا
القحطانيين الذي بقوا.
(ثالثًا) يكاد يكون كالمجمع عليه أن اليمن دار القحطانية وإليك ما نقل في
ذلك:
قال الإمام العلامة الطبري: وولد لعابر ابنان أحدهما فالغ ومعناه بالعبرية
قاسم وإنما سمي بذلك؛ لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه وسمي الآخر
قحطان فولد لقحطان يعرب ويقطان ابنا قحطان بن عامر بن شالح فنزلا أرض
اليمن وكان قحطان أول من ملك اليمن (جزء أول طبع ليبسك وجه ٢١٧) وقال
أيضًا: وجه ٢٢٢ ولحقت بنو قحطان ابن عامر باليمن فسميت اليمن حيث تيامنوا
إليها.
وقال ابن خلدون: فأما عاد فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن
وعمان إلى حضرموت. ويقال: إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب باديةً مخيمين ثم
كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور حسبما نذكره إلى أن غلب عليهم بنو
يعرب بن قحطان. (قال) : وكان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب
وطال عمره وكثر ولده - وعاش ألف سنة ومئتي سنة - وذكر المسعودي أن الذي
ملك من بعد عاد وشداد منهم هو الذي سار في الممالك واستولى على كثير من بلاد
الشام والهند والعراق (الجزء الثاني طبعة بولاق وجه ١٩) وقال أيضًا: وجه
٢٠ ثم ملك لقمان ورهطه من قوم عاد واتصل لهم الملك فيما يقال ألف سنة أو
يزيد. ولم يزل ملكهم متصلاً إلى أن غلبهم عليه يعرب بن قحطان واعتصموا
بجبال حضرموت إلى أن انقرضوا.
وقال أيضًا: (قال ابن سعيد) - فيما نقله عن كتب التواريخ التي اطلع
عليها في خزانة الكتب بدار الخلافة من بغداد - قال: كانت مواطن العمالقة تهامة
من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النماردة من بني حان وجه
٢٧ وقال أيضًا: وأما (جُرْهم) فقال ابن سعيد: إنهم أمتان أمة على عهد عاد وأمة
من ولد جرهم بن قحطان ولما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز
- وجه ٣١.
وظاهر من هذه النقول وغيرها أن القحطانيين أصليون في الجزيرة وقرارتهم
منها اليمن، وأما العاديون وإخوانهم العمالقة فجاءوا على أثر مضايقة الملوك
النماردة لهم. فنزل العاديون أحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت
والشحر ونزل بقية إخوانهم من العمالقة وطسم وجديس وجاسم أرض البحرين
وعمان ونجد والحجاز إلى تيماء. ولم يلبثوا مدة بعد دخولهم حتى صار لهم الغلب
على كل الجزيرة وشادوا لهم دولة من أعظم وأقوى الدول التي قامت في تلك البلاد
ومن ثم غزوا [٤] الشام ومصر والهند والعراق ومازال الملك فيهم إلى أن ضعفوا
في أواخر دولتهم الثانية فغلبهم على الملك يعرب بن قحطان وأزال سلطتهم عن
اليمن.
***
نتيجة ما ذكرناه
إن المتدبّر ما مرّ بنا (أن مهد السامية هو جزيرة العرب وأن القحطانيين هم
الأصليون في البلاد وقرارتهم اليمن، وأن العاديين قدموا عليهم من أرض بابل)
يحكم على ما أرجح أن القحطانية الأولى انشعبت إلى فرعين فرع بقي في شبه
جزيرة العرب وفرع ذهب شمالاً إلى العراق واستعمر بابل وهناك تأثل هذا الفرع
وما زال أهله حتى زاحمهم النماردة أبناء كوش [٥] فخرج من هناك آشور وبني
نينوى ورحوبوت عير وكالح وراسن بين نينوى وكالح على ما جاء في التاريخ
المقدس الإصحاح العاشر من سفر التكوين. وخرج أيضًا عاد وعماليق وقبائلهما
فعادوا إلى العربية بعد زمن طويل ونزلوا بين أظهر القحطانيين وكان قد تحيز
لسانهم واستقل كما تحيزت قبائلهم واستقلت عن غيرها أيضًا.
والأرجح أن الذين رحلوا إلى نينوى وكالح كانوا من الحضر أهل المدن
والقرى بدليل أنهم بنوا المدن حالاً، وأما الذين رحلوا إلى الجنوب فكان أكثرهم
أهل طعن وخيام وعبارة العلامة ابن خلدون واضحة في ذلك فإنه ذكر أنهم لما
زاحمهم بنو حام انتقلوا إلى جزيرة العرب وسكنوها بادية مخيمين. ويقوي ذلك ما
هو متواتر مشهور من سكنى العاديين رمال الأحقاف بين عمان واليمن إلى
حضرموت والشحر. وسكنى بديل وراحل وغفار من العمالقة بنجد وبنو الأرقم
منهم بالحجاز إلى تيماء. وكل هذه البلاد من منازل أهل البادية والغالب على أكثر
أهلها الترحل والانتقال كانوا ولا يزالون لحد هذه الساعة.
وأرى أني وصلت على غير قصد مني إلى التقليد المشهور الذي يجعل
السريانية أقدم من العربية؛ لأننا رأينا الدليل التاريخي في جانب أن القحطانية
متقدمة على العادية وسابقتها في الزمان. والقحطانية كما بينا من نص المؤرخين
هي السريانية كما أن العادية هي العربية.
***
تجريح ما قاله العلامة نولدكي
لنرجع الآن إلى ما قاله العلامة نولدكي في شأن لغة سبأ. قال هذا العلامة:
ما يؤخذ منه أن اللغة السبئية هي قسيمة اللغة العربية وأخت لها انشعبتا من الفرع
الجنوبي ونسبتها إلى العربية كنسبة الحبشة إليها أي إلى العربية. وأنا أقول: إن
كان يقصد بالسبئية الحميرية فبه لكن تكون السبئية والحبشية شعبتين من القحطانية
أو السريانية؛ لأن القحطانية والسريانية كما بينا بالنص التاريخي هما لغة واحدة أو
هما شعبتان من جذم واحد هو القحطانية القديمة. وإن كان يريد أن السبئية هي لغة
أخرى غير الحميرية الظفارية أي لغة الدولة التي قامت قبل التاريخ المسيحي بقليل
وتعرف عند القوم الآن بدولة سبأ وريدان وأنها كانت أيضًا لغة بلاد سبأ التي
عاصمتها مأرب وفيها السد المشهور فالأستاذ نولدكي وَاهِم والتاريخ يعارض رأيه؛
لأن لغة أهل هذه البلاد أعني أرض سبأ [٦] كانت منذ أوائل التاريخ المسيحي ولا
تزال إلى الآن اللغة العربية العادية العدنانية والتاريخ مؤيد ذلك وإليك البيان:
جاء في كتاب وصف جزيرة العرب للعلامة الهمداني طبع ليدن وجه ١٣٤
إلى ١٣٦ قطعة خصها هذا العلامة بوصف لغات أهل الجزيرة العربية في أيامه
(فليطالع هذه القطعة في موضعها من أراد) والذي يظهر منها أن الحميرية كانت لا
تزال لغة حية في كثير من جبال اليمن وإليك ما يقول في لغة بعض تلك البلاد:
(حقل قتاب فإلى ذمار) الحميرية القحة المتعقدة (وظفار مدينة هذا القسم) . حراز
والأخروج وشم وماضح والأحبوب والجحادب وشرف أقيان والطرف
وواضع والمعلل - خليطي من متوسط بين الفصاحة واللكنة وبينها ما هو أدخل في
الحميرية المتعقدة لا سيما الحضورية من هذه القبائل - نجديّ بلد همدان البون منه
المشرق والخشب - عربي يخلط حميرية - من ذمار إلى صنعاء متوسط - صنعاء
في أهلها بقايا من العربية المحضة ونبذ من كلام حِمير - شبام أقيان والمصانع
وتخلى حميرية محضة.
والنفيس في هذه القطعة لهذا العلامة أنه فرق بين الحميرية والعربية. وسمى
البلدان التي كان يُتكلم فيها بالعربية أو بالحميرية إلى أيامه. وأنفس منه أنه بين
الفرق بين لغات المتكلمين بالعربية فقال في بعضهم: إنهم فصحاء وفي آخرين:
إنهم أفصح وفي آخرين: إن لغتهم متوسطة أو خليطي كما بين الفرق بين لغات
المتكلمين بالحميرية فقال عن بعضهم: إنهم غتم وعن آخرين: إن لغتهم حميرية
محضة وعن آخرين: إنها حميرية متعقدة وعن آخرين: إنها داخلة في الحميرية
المتعقدة أو فيها عسرة من اللسان الحميري.
ثم إليك ما قاله في لغات أهل حضرموت وسبأ قال ما نصه بالحرف الواحد:
حضرموت ليسوا بفصحاء وأفصحهم كندة وهمدان وبعض الصدف. سر
ومذحج [٧] ومأرب وبيحان وحريب (وهي من بلاد سبأ) فصحاء ورديء اللغة
منهم قليل. سكن الجوف [٨] فصحاء إلا من خلطهم من جيرة لهم تهاميين. ثم
الفصاحة من العرض في وادعة فجنب فيام فزبيد فبني الحارث فما اتصل ببلد شاكر
من نجران إلى يام فأرض سنحان فأرض نهد اهـ همداني وجه ١٣٤ و١٣٥
و٣٥.
يظهر من شهادة هذا العلامة أن أهل مأرب والجوف ونجران وهي البلاد التي
كانت فيها الدولتان السبئية والمعينية كانوا في أيامه أفصح من الكنديين قبيلة امرئ
القيس وقبيلة المتنبي أشهر شاعرين قبل الإسلام وبعده. وكذلك كانوا في صدر
الإسلام. فإن مذحج وبني مرة وطيء والأشعريين أبناء عريب بن زيد بن كهلان
بن سبأ والهمدانيين أبناء مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ كلهم كانوا من فصحاء أهل
العربية العدنانية المضرية في صدر الإسلام وقبله ومع أنهم كانوا يدعون أنهم هم
والحميريين أبناء عم؛ (لأن كهلان بن سبأ وحمير بن سبأ) لم يكن في لسانهم
شيء من الحميرية بل كانوا في فصاحتهم العربية كفصاحة قبيلة امرئ القيس
المشهور إن لم يكونوا أفصح منهم. وإذا نظرنا إليهم أي الكهلانيين من ولد سبأ
وممن كان منهم يسكن مأرب والجوف في الجيل الأول للمسيح أو في بدء الجيل
الثاني رأيناهم أيضًا عربًا يتكلمون بهذا اللسان العربي. وبيانه أن الأزد من ولد
كهلان، وكانوا في مأرب فلما اشتدت عليهم وطأة الحميريين ملوك ظفار على
الأرجح ارتحلوا من ديارهم جماعات كثيرة فمنهم من وصل العراق ومنهم من وصل
الشام ومنهم من وقف بنجران ومنهم بمكة ومنهم بيثرب وهم الطائيون (وكانوا
يسكنون الجوف) رحلوا أولاً إلى فيدو سميرا ثم احتلوا الجبلين أجا وسلمى وكل
هؤلاء كانوا عربًا ومن الفصحاء الذين ترتضى فصاحتهم في العربية لم يسمع ولم
يعرف أصلاً عن ملوك الحيرة من المناذرة ولا عن ملوك الشام من الغساسنة ولا
عن الأوس والخزرج من أهل المدينة ولا عن الطائيين في جبليهم (وهؤلاء هم
الذين ارتحلوا من أرض سبأ قبل سيل العرم أو بعده بقليل) إنهم تكلموا غير هذا
اللسان العربي المضري. ولو كانت لغتهم الحميرية (أو السبئية) لاستحال أن
تنقرض فلا يبقى لها أثر في مدى أربعة قرون كما لم تنقرض الحميرية من ظفار
ولا من بلاد صنعاء في مدى أربعة قرون مع أنهم كانوا في ملكة المضريين ودولتهم
الغالبة القاهرة بعزها وعز الإسلام، وقد أسلم القوم عن آخرهم منذ بدء الإسلام.
***
ماذا نصدق إذًا التاريخ والعقل
أم الآثار التي وجدها القوم مؤخرًا في مأرب والجوف ونجران
الجواب: أولى بنا أن نصدق التاريخ والعقل من غير أن نجرح في صدق
الآثار وذلك بأن نقول: إن دلالة الآثار مغلوط في تأويلها ويمكننا أن نأولها بما
يوافق التاريخ والعقل - وبيانه أن الآثار التي اكتشفها القوم (العلامة إدوارد غلارز
ويوسف هاليفي ويوليوس أوتين وتومس أرنو وآخرون) على ما نقله العلامة
زيدان في كتابه النفيس (العرب قبل الإسلام) هي آثار واقعية لا نشك بها. ولا
يُشك أيضًا أنها من آثار الدولة الحميرية الظفارية التي استولت على بلاد سبأ في
الجيل الأول قبل المسيح. نسلم بكل ذلك. ولكنا نقول: إن هذه الدولة كان حكمها
في بلاد سبأ حكم دولة الأتراك الأخيرة في اليمن فإنا لا نعدم آثارًا ونقوشًا كثيرة في
صنعاء وغيرها من مدن اليمن مكتوبة باللغة التركية، وكما لا يصدق الاستدلال
بمثل هذا الآثار على أن لغة اليمن هي اللغة التركية كذلك لا يصدق الاستدلال بهذا
القدر الذي وجده القوم من النقوش على أن لغة بلاد سبأ أعني بلاد مأرب والجوف
كانت لغة حميرية. وهذا التلميح يرى منه العارف المتدبر ما يغنيني عن إطالة
الشرح والإسهاب فإن مقالتي والغرض منها لا يحتملان من إطالة الشرح فوق ما
أطلته. ولكني أرجح أن المستقبل سيكشف لنا آثارًا غير التي اكتشفت لحد الآن
وتكون دلالتها وفقًا لما نظنه وفوق كل ذي علم عليم.
***
في سبب غنى اللغة العربية واتساع دائرة ألفاظها وعباراتها
(واقتدارها على التعبيرات الفلسفية والاجتماعية وما إلى ذلك)
(مما قامت به سائر أخواتها ولا تقل فيه عن أعظم وأشهر لغات العالم سواها)
إن العلامة نولدكي يعجب باتساع قاموس هذه اللغة الشريفة، ويذهب إلى أن
ذلك مقتبس عن الآرامية بما كان لأهلها من مخالطتهم الآراميين بالتجارة والجوار.
والذي حمل العلامة المُومأ إليه على هذا التعليل هو على الراجح ما كان يظنه أن
اللغة العربية هي لغة القبائل العدنانية في الحجاز ونجد فاستبعد من ثم أن يكون لمثل
هؤلاء القوم الذين غلبت عليهم البداوة مثل هذه اللغة الواسعة. أما وقد تبين لنا أن
هذه اللغة كانت لغة الدولة العادية ودولة غلبت على البلاد العربية كلها وامتدت
سلطتها إلى الشام ومصر وأفريقيا ودامت سيدة التجارة على ما نظن ما يزيد على
ألف وخمسمائة سنة أولاً تحت اسم الدولة العادية وعلى نحو من ثمانمائة سنة تحت
اسم الدولة السبئية [٩] فلا داعي لمثل تعليل العلامة نولدكي. وما زال العاديون ومن
خلفهم باسم السبئيين أرباب تجارة وزراعة حتى بعد أن غلب عليهم الغِفاريون
بمئات من السنين، وسدُّهم شاهد يؤيد ما ذكرنا. إن الأمة التي بنت مثل سد مأرب
وقصر غمدان وغير هذين من السدود والقصور والمصانع، ووصلت من الغِنى إلى
الدرجة التي ضُربت بها الأمثال لا يستبعد أن تكون لغتها في الغنى والاتساع كاللغة
العربية.
والمرجح عندي أنه لم يقم في سوريا ومصر والعراق دولة أعظم غِنى وتجارة
من الدولة العادية في عمان وحضرموت واليمن , ولم يقتصر العاديون على
التجارة - والتجارة لوحدها من أكبر الأسباب لارتقاء لغة الأمة واتساع دائرة
ألفاظها وتراكيبها - بل كان لهم في الزراعة شأن لم يبلغ البابليون ما هو أعظم
منه على خصب بلادهم، وإن فيها النهرين العظيمين الفرات والدجلة فإنهم بنوا سد
مأرب وثمانين سدًّا غيره في يحضب العلو.
وبالربوة الخضراء من أرض يحضب ... ثمانون سدًّا تقلس الماء سائلاً [١٠]
وسد مأرب هو إحدى أعاجيب الدنيا، وكان لهم عن يمينه وشماله الجنتان
اللتان ما زال صدى ذكرهما يتردد في أودية التاريخ مئات سنين بعد خرابهما.
ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت: إن نسبة سد أسوان على ضخامته في عصرنا
الحاضر إلى سد مأرب هي كنسبة الصبي الصغير إلى الرجل الكبير، وأما
قصورهم وهياكلهم التي بنوها فمنهما قصر غمدان. وقد بقي هذا القصر والهيكل
قائمًا إلى خلافة عثمان بن عفان وكان من الفخامة والضخامة على ما يضارع أعظم
القصور البابلية. وإليكم ما جاء في وصفه نقلاً عن ياقوت الحموي.
قال ما نصه: - فقال (ليشرح) : ابنوا القصر في هذا المكان فبُني هناك
على أربعة أوجه وجه أبيض ووجه أحمر ووجه أصفر ووجه أخضر. وبنى في
داخله قصرًا على سبعة سقوف بين كل سقفين منها أربعون ذراعًا. وكان ظله إذا
طلعت الشمس يُرى على عينان [١١] وبينهما ثلاثة أميال. وجعل في أعلاه مجلسًا بناه
بالرخام، وجعل سقفه رخامة واحدة وصير على كل ركن من أركانه تمثال أسد من
شبه كأعظم ما يكون من الأسود. فكانت الريح إذا هبت إلى ناحية تمثال من تلك
التماثيل دخلت من مؤخره وخرجت من فيه فيسمع له زئير كزئير السباع. وكان
يأمر بالمصابيح فتُسرج في ذلك البيت ليلاً فكان سائر القصر يلمع من ظاهره كما
يلمع البرق فإذا أشرف عليه الإنسان من بعض الطرق ظنه برقًا أو مطرًا ولا يعلم
أن ذلك ضوء المصابيح اهـ.
وقد نقل ياقوت هذا الوصف عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي ولا يبعد
أن يكون هشام هذا قد أخذ ما نقل عنه من الوصف عمن شاهدوا القصر قبل أن هُدم
بأمر الخليفة عثمان. ويوافق هذا الوصف المنثور ما جاء منظومًا عن ذي جدَن
الهمداني قال:
دعيني لا أبا لك لن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي
وهذا المال ينفد كل يوم ... لنزل الضيف أو صلة الحقوق
وغمدان الذي حدثت عنه ... بناه مشيدًا في رأس نيق
بمرمرة وأعلاه رخام ... تحامٌ لا يغيب بالشقوق
مصابيح السليط يلُحن فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق
فأضحى بعد جِِدَّته رمادًا ... وغيَّر حسنه لهب الحريق
والظاهر مما قاله هذا الشاعر في بيته الأخير أن آثار هذا القصر كانت ظاهرة
في أيامه، وكان يظهر عليها أثر النار؛ لأنهم استخدموها في هدمه على ما يرجح.
وقد ذكر الهمداني عدة محافد وقصور في كتابه وصف جزيرة العرب، وإليك
ما قال: - ونذكر الآن المشهور منها ذكرًا مرسلاً فأولها وأقدمها غمدان ثم تلفم.
وناعط. وصرواح. وسلحين بمأرب. وظفار وهكر. وضهر. وشبام.
وغيمان. وبينون وريام وبراقش. ومعين. وروثان. وإرياب. وهند وهنيدة.
وعمران والنجير بحضرموت اهـ ٢٠٣.
والأرجح عندي أن معظم هذه الآثار كان في أيام الدولة العادية والسبئية الأولى
دون الحميرية، فإن هذه كانت دولة ظلم وبغي أكثر مما كانت دولة تجارة وزراعة
أو دولة عدل وأمن. فإن في زمانها خرب السد المشهور وأقفرت الجنتان في أرض
سبأ وفي أيامه كانت ملوك حمير تسطو على الأعراض وتحرق المخالفين في الدين
وتذل الكهلانيين والعدنانيين وتسومهم كل نوع من الخسف فاضطروا إلى مهاجرة
أوطانهم مرة وإلى الاستنجاد بالحبشة مرة أخرى ومازال سوء الحال والتدبير وشدة
الظلم مرافقًا هذه الدولة حتى انقرضت ولم تطل أيامها كثيرًا. ولعل الأحباش كانوا
خيرًا منها للبلاد. فاتني أن أذكر أن هذه الدولة أعني العادية أولاً والسبئية ثانيًا
اعتنت بالتعدين كما اعتنت بالتجارة والزراعة والصناعة ولا تزال آثار عشرات من
معادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والحجارة الكريمة في اليمن
ونجد والحجاز وعلى جانب أفريقيا المقابل شاهدة على ما كان لهذه الدولة والأمة من
الاقتدار والهمة والنشاط. وأرجح أن المستقبل سيرينا من آثارهم التي لا تزال تحت
الردم والرمال ما يزيد عن آثار إخوانهم الكنعانيين والفينيقيين.
قلت وأعيد القول: إن أمة كهذه الأمة وشعبًا كهذا الشعب الذي من بقاياه
العرب العدنانية في نجد والحجاز والكهلانية في أرض سبأ وحضرموت وعمان
حري بأن يكون له لغة كاللغة العربية سيدة اللغات السامية. ولعلها سيدة اللغات
القديمة كلها فقد ماتت تلك وبقيت هذه وستبقى بَعْدُ أجيالاً لا يعلمها إلا الله مهما
عورضت واضطهدت أو صودرت واتهمت.
أرى أني استوفيت كل ما في وسعكم من الإصغاء فلا يليق بي من ثم أن
أحملكم فوق ما حملتم فدعوني أختم بذكر خلاصة ما أراني وصلت إليه بالمسلك
التاريخي الذي سلكته في شأن الأرومة السامية ونسبة اللغات المعروفة منها بعضها
إلى بعض فأقول:
(١) إن اللغة السامية كان مهدها في البلاد العربية والأرجح أن قراراتها
كانت بلاد اليمن وما إليها من السروات.
(٢) انشعب منها فرع إلى بلاد بابل وبقي فرع في قرارته الأولى وهم
القحطانية الأولى. ثم الفرع الذي اتجه شمالاً إلى العراق انشعب منه شعبتان شعبة
تسكن المدن وأخرى تسكن البدو.
(٣) مازال هذان الفرعان متجاورين إلى أيام دولة النماردة [*] فضيقت هذه
الدولة عليهما واضطرَّت كثيرين منهم إلى الجلاء عن البلاد فجلا أهل بابل العظيمة
وغيرها من مدن العراق إلى أرض الجزيرة وعمَّروا راسن وكالح ونينوى وغيرها
من المدن الآشورية، وجلا كثيرون آخرون معظمهم من أهل البدو إلى جزيرة
العرب موطن أسلافهم الأقدمين ونزلوا الحجاز ونجد وأرض سبأ وعمان. وكانت
لغتهم قد استقلت وتمايزت عن القحطانية التي فارقها أجدادهم الأولون في اليمن ثم
ما لبثوا أن استولوا على ملك القحطانيين وضيقوا عليهم في يمنهم كما كان النماردة
قد ضيقوا عليهم في جوار بابل فهاجر جماعة كبيرة منهم إلى الحبشة، وكان هاجر
قبلها أو أثناءها جماعة أخرى إلى الأمهرة والشطوط المقابلة من أفريقيا فكان منهم
هناك الأمهرية والحبشية ثم هاجرت جوال أخرى من العمالقة والعاديين إلى الشام
وشطوط المتوسط إما رأسًا من العراق هربًا من النماردة أو من البلاد العربية بقصد
التجارة والاستعمار والأرجح أن كان الأمران معًا.
ومن هؤلاء المهاجرين كان العبرانيون وأمم الشام من الكنعانيين والفينيقيين.
وعليه تكون العبرانية الفينيقية والعربية شعبتين من الفرع العادي، والحميرية
والحبشية من الفرع القحطاني.
هذا ما تدل عليه التقاليد وما وصلنا إليه من شذرات التواريخ، وأظن أن
الأبحاث الفيلولوجية لا تنافيه إن لم تطابقه. ومعرفتي القليلة بالعبرانية والسريانية
تسوغ لي بعض التسويغ أن أقول: إن العبرانية أقرب إلى العربية مما هي إلى
السريانية. ولو لم يكن بينهما من المقاربة إلا أن في كلتيهما أداة للتعريف (ها) في
العبرانية و (آ) في العربية فوقف عند العرب مع الحروف القمرية على اللام بدلاً
من المدّ وأدغم أي حرف المد بالحروف الشمسية - لكفى ذلك شبهًا في أن يجعل
اللغتين صِنوين من فرع واحد. وكذلك أقول: إن الآرامية ويدل فيها على التعريف
بالوقوف على الألف (أي حرف المد) ينبغي أن تكون صنوًا لتلك التي يدل فيها
على التعريف بالوقوف على حرف الغنة أي (النون أو الميم) فإن هذين الحرفين
أعني حرف المد وحرف الغنة يبدل أحدهما بالآخر. وفي العربية ما يدل عليه
ويسمى تنوين الغنة ومعناه الوقوف على حرف الغنة بدلاً من الوقوف على حرف
العلة. وأظن أن الحميرية (وهي التي سموها السبئية) هي التي رأوها وفيها هذا
الضرب من الدلالة على التعريف أعني الوقوف على حرف الغنة (أي النون)
فالأولى من ثم أن تقرن بالسريانية وتجعل صنوًا لها.
لكن هنالك من المشابهة بين العربية والعبرانية في الإضافة ما يؤيد المشابهة
الحاصلة من حرف التعريف ويدعمها فإن طريقة الإضافة في هاتين اللغتين أعني
العربية والعبرانية واحدة. وكذلك هي في السريانية والحميرية (أو التي سموها
السبئية) قريبة الشبه جدًّا إن لم تكن واحدةً.
ومما يزيد المشابهة بين العربية والعبرانية طريق استعمال الفعل فإن الماضي
والمضارع يوضع أحدهما موضع الآخر كثيرًا في كلتيهما، كما يظهر ذلك لمن تأمل
وهو عارف باللغتين. ويقل اعتمادها على الصفة وإقامتها مقام الفعل كما هو الشائع
أو الكثير في السريانية. ومن التهجم أن أقول: إن السريانية في هذا تشابه
الحميرية نظرًا لقلة ما وقفت عليه من هذه اللغة ولكني أوجه أنظار الباحثين إلى هذا
الأمر.
وهناك مشابهات أخرى بين العربية والعبرانية في الضمائر وحروف
المضارعة مما لو جمعت كلها معًا لرجح بها جانب الكِّفة من الوجهة الفيلولوجية كما
رجح من الوجهة التاريخية، أي أن العربية والعبرانية صنوان من جذم واحد.
إن كنت وصلت في طريقة بحثي هذا إلى الحقيقة أو ما يقاربها أو إلى ما يدل
على الوجهة التي هي فيها فحسبي ذلك. وإلا فيكفيني أني نبهت إلى أهمية مقارنة
البحث التاريخي بالبحث الفيلولوجي، ولعل الحقيقة أقرب أن تكون في الجانب الذي
يتفقان فيه أو على الأقل في الجانب الذي لا يعارض فيه أحدهما الآخر أو ينافيه.
واسمحوا لي أن أختم بتقديم مزيد تشكراتي لرئيسنا الفاضل الدكتور هورد بلس الذي
دعاني إلى درس هذا الموضوع أولاً ولكم على ما أوليتموني من المجاملة وحسن
الإصغاء ثانيًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته اهـ.