للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وفيات الأعيان

الأمير سيف الإسلام محمد
أمير لواء الحديدة وملحقاتها
في منتصف شهر ذي الحجة الحرام خاتمة سنة ١٣٥٠ رزئت المملكة اليمانية
والأمة العربية بوفاة هذا الأمير الجليل، والسيد النبيل، النجل الثاني من أنجال
جلالة أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، الإمام يحيى بن حميد الدين.
توفي شهيد الشهامة الهاشمية، والنجدة العربية، غريقًا في سبيل إنقاذ غرقى
من أتباعه في ساحل الحديدة، فنبضت أسلاك البرق بنعيه لمصر وغيرها من
الأقطار، فاضطربت لها القرى والأمصار، وأكبرت الخطب صحف الأخبار على
اختلاف سياستها وأحزابها، ونوهت بمناقب الفقيد الشهيد التي كانت خاتمتها هذه
النجدة التي بذل روحه الكريمة فيها، وتواترت التعازي البرقية والبريدية على
جلالة والده العظيم من جميع الأرجاء، وكان أحسن الله عزاءه وأطال بقاءه يجيب
كل معز بما يليق به من الطريق الذي جاءت به تعزيته، وإننا نسجل في المنار ما كان
من صفة شهادته، والمهم من ترجمته، ملخصًا من جريدة الإيمان الغراء الشهرية
التي تصدر في صنعاء عاصمة اليمن، ثم ننشر تعزيتنا لجلالة والده الإمام ورده
الكريم:
صفة استشهاده
من رسالة مكاتب الجريدة في الحديدة قال:
خرج رحمه الله في يوم الخميس الموافق ١٥ ذي الحجة سنة ١٣٥٠ في جمع
من خاصته إلى مكان من شاطئ البحر الأحمر يبعد عن ميناء الحديدة بنصف ساعة
بالسيارة تقريبًا، وكانت الخيام قد نصبت فاستراحوا قليلاً ونزلوا يستحمون في
البحر، وكان رحمه الله يجيد السباحة فمكثوا مدة ثم خرجوا بعدها إلى الخيام
يتجاذبون أطراف الحديث ويتذاكرون، وجلس سمو الأمير يحدِّث الجميع بتلك
البساطة، وذلك التواضع الذي هو خير من عرف به، عن المشاريع التي يعدها
لإسعاد اليمن والحديدة خصوصًا، وعن عظيم آماله في أن يرى اليمن وسائر
الأقطار العربية تخطو الخطوات الواسعة إلى الأمام في القريب العاجل، وجلسوا
طول تلك الليلة وسموه يحادثهم بعذب حديثه إلى ما بعد منتصف الليل حيث قام
الجميع إلى النوم، فنام وقام بعد ساعة يحدث الجميع عن رؤياه التي رآها وهي أنه
خرج من جميع ماله وتصدق بالباقي على الفقراء وسافر لأداء فريضة الحج وهو
باكٍ، فجعل كل يفسر تلك الرؤيا تفسيرًا تطمئن له القلوب، ثم تناولوا طعام
الإفطار بعد أداء فريضة الصلاة وجلسوا يتحدثون إلى قريب الظهر، فأظهر سموه
رحمه الله الرغبة في الاستحمام ودفع الجميع إلى البحر؛ ولكن سرعان ما اشتدت
الريح وقوي المد، وصار كل يجاهد ويغالب الموت الذي كان ينشر رايته المشئومة.
وعند ذلك تتجلى شجاعة ذلك الأمير العظيم فيندفع بنفسه يغالب الأمواج الثائرة
والأمواج المتلاطمة مسرعًا لينقذ من كان في خطر، أنقذ الأول ورجع للثاني
والثالث ثم ما رجع للرابع يريد إنقاذه إلا وتعلق به وفي تلك اللحظة حم القضاء
ونفذت إرادة العظيم القادر فهبط إلى قاع البحر وذهب سموه إلى رحمة ربه شهيد
المروءة والإنقاذ شهيد الشهامة والشجاعة، وما علمت تلك الأمواج الثائرة التي
اختطفته أنها اختطفت آمال أمة جزعت وذهلت لهول المصاب الذي عقد الألسن
منها.
عصم الله تلك القلوب الدامية بجميل الصبر، أما ذكراه الطيبة الطاهرة فخالدة
إلى الأبد.
مولده ونشأته:
ولد رحمه الله ورضي عنه في رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف بمقام
جده مولانا الإمام المنصور بالله رب العالمين أبي يحيى محمد بن حميد الدين
رضوان الله عليه، ونشأ في حجر والده إمام الزمن أمير المؤمنين أيده الله وأمد
مدته.
مغارس طالت في ربى المجد والتقت ... على أنبياء الله والخلفاء
وعلى هذا يكون عمره الشريف عند وفاته أربعًا وثلاثين سنة وشهرًا، ونشأ
بمحروس قفلة عذر وهنالك كرع من بحر الفضائل، وجثى بين أيدي العلماء
الفطاحل، فاشترى نفيس الفوائد بنوم أجفانه، حتى تفرد بعرفانه، وكان المجلى
على أقرانه في تحصيل العلوم، والتحلي بمنطوقها والمفهوم، وله مشايخ كثيرون في
جميع العلوم والفنون، منهم في مبادئ الطلب: الفقيه لطف بن سعد السميني، والسيد
الفاضل محمد بن عبد الله المقدمي الأهنومي، والقاضي يحيى بن محمد الغشم
الآنسي، والفقيه المحقق أحمد بن قاسم الشمط الأهنومي.
وعند أن قوي ساعده في الإدراك رشف من معين القاضي العلامة عبد
الوهاب بن محمد المجاهد الشماحي، والقاضي المحدث إسحاق بن عبد الله المجاهد
الصنعاني، والسيد العلامة حسين بن محمد أبو طالب، والمولى العلامة شيخ
الإسلام علي بن علي اليماني، والسيد العلامة المحقق عباس بن أحمد بن إبراهيم
الحسني وغيرهم كثير.
وقد أجازه كثير من أعلام العلماء الذين تشد إليهم الرحال، وتضرب بعلو
درجاتهم الأمثال، في المعقول والمنقول، فممن أجازه إجازة عامة والده جلالة
مولانا أمير المؤمنين أيده الله ومتع الإسلام والمسلمين بمضاعفة أيامه.
وأجازه المولى العلامة الحجة شرف الإسلام القاضي الحسين بن علي العمري
حفظه الله، والمولى العلامة سيف الإسلام أحمد بن قاسم الدين، والمولى العلامة
رئيس المحكمة الاستئنافية السيد زيد بن علي الديلمي، والسيد العلامة الحافظ أحمد
بن عبد الله الكبسي، والمولى شيخ الإسلام علي بن علي اليماني، والأستاذ العلامة
خليل أسعد أفندي رئيس محكمة التدقيق الحنفية، والسيد الحافظ أحمد بن محمد
الغماري المغربي الحسني، والأستاذ الشهير محمد حبيب الله الشنقيطي المغربي
نزيل القاهرة وسواهم كثير وجم غفير اهـ. وللفقيد شعر كثير ذكر منه المترجم
هذين البيتين:
وما هذه الدنيا سوى كسب مغنم ... لأجر جزيل أو لذكر مجمل
فمن جاد منها لم يكن خاسرًا بها ... ولا ناقصًا والفضل للمتقبل
(المنار)
كان ينبغي لكاتب الترجمة أن يذكر ما تولاه الفقيد من الأعمال وسيرته فيها،
وسفره إلى إيطالية وما استفاده منه، وما كان له من الآمال في خدمة أمته ووطنه التي
أشرنا إليها في تعزية والده.
* * *
تعزيتنا لجلالة الإمام الهمام
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة أمير المؤمنين الإمام يحيى حميد الدين
سلام الله عليه وعلى آله الطاهرين.
أما بعد، فإن مصابكم بنجلكم الكريم الهمام، الأمير محمد سيف الإسلام، هو
مصاب لنا وللأمة العربية والملة الإسلامية، هو مصاب لنا لأننا منكم نشعر
بشعوركم، ونألم لألمكم، كما نسر بكل نعمة يسبغها الله عليكم، وهو مصاب للأمة
العربية؛ لأن نجلكم أمير من أعظم أمرائها، وزعيم من خير زعمائها، كانت
ترجو أن يكون من أرسخ دعائم نهضتها، بعلو همته وزكاء قريحته، وحسن
تربيته وسعة علمه وخبرته، في شرف أرومته، وكرم منبته، وقد ظهرت لها
بوادر أعماله ونجدته، وهو مصاب الملة الإسلامية بما كان سيفًا من سيوفها
المسلولة، وربانًا من ربابنة سفينة نجاتها المأمولة، فهذا ما بلغنا من نعوته وشمائله،
وما روي لنا عن آرائه وآماله، المستنبطة من أقواله وأعماله.
فأجدر بأولي الشعور من شعوب أمته، وبمحبي الاتفاق من أهل المذاهب
المختلفة في ملته، أن يعدوا شهادته مصيبة عامة، وكارثة طامة، تملأ القلوب حزنًا
وخشوعًا، وتفيض لها العيون دموعًا، وتردد الألسن فيها حوقلة واسترجاعًا.
وأما أنت أيها الإمام العظيم، والأب الرءوف الرحيم، فلئن كنت أجدر بحزن
القلب وفيض الدمع، بمقتضى سلامة الطبع، وهدي الشرع، فلأنت أحق بالصبر
الجميل، وأحرص على صلوات الله ورحمته للصابرين المسترجعين، بما أوتيت
من قوة الإيمان، وثبات الجنان، وسعة العرفان، وقيامك في محراب الإمامة في
الدين، والأسوة الحسنة في جدك محمد رسول الله وخاتم النبيين، صلوات الله عليه
وعلى آله الطاهرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *
جواب جلالة الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة السيد العلامة والمرشد الفاضل الفهامة، الشريف محمد رشيد آل رضا
صاحب المنار، حرس الله مهجته، وأطال في الرشاد مدته، والسلام الكريم عليه
ورحمة الله وبركاته، أيها السيد الفاضل ما أوفى كتابكم الكريم بأداء سنة الدين،
وأشفاه بيانًا لحسن العزاء بمن مضى شهيدًا ولحق بسلفه الصالحين، وأراع بالفراق
قبل الإمتاع، ولبى نداء ربه ممتطيًا صهوة الإسراع، فلئن كان المصاب بوفاته
عظيمًا، والرزء بمفاجأة يومه جسيمًا، قد بلغ الغاية من مرارة النكاية، وإضرام
حرارة الأحزان، وإثارة عواصف الأشجان - فما في كتابكم الكريم من تحلية الفقيد
رحمه الله بنعوت الممادح، والتوصية بالصبر الجميل في المصاب الفادح والتسلية
بذلك الأسلوب المرغوب من القول الشارح، قد بلغ الغاية في الإفادة، وحسن البيان
والإجادة، فشكرًا لكم على تلك اليد البيضاء المجلوة في الكتاب، وامتنانًا يزف إليكم
مقرونًا بثناء مستطاب، والله سبحانه يجبر المصاب بما نرجوه من وفور الأجر،
والإعانة على دوام الاعتصام بالصبر، والتحلي بالرضا والتسليم لحكم الرب الحكيم،
وإسبال شابيب الرحمة والرضوان على الفقيد الشهيد، والاستعداد ليوم المعاد،
وبلوغ المراد من حسن الختام، والدعاء مستمد وشريف السلام.
... ... ... في ١٨ المحرم سنة ٥١