للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأزهر والأزهريون، وفاضل هندي

(الرسالة الثانية مما وعد به الشيخ عبد العزيز العريشي الأزهري
والأولى نشرت في الجزء ١٠)
من القاهرة إلى حيدر أباد
إليك أيها الأخ، سلام صديق طبع قلبه على الإخلاص لك، وارتبط بأسباب
محبتك، وشكوى شوق قد برح بي برحًا، لا أستطيع له شرحًا. وبعد فقد ذكرت لك
في رسالتي السابقة طرقًا من نظام مدرسة الأزهر وطرق التعليم بها على وجه
الجملة، والآن أريد أن آتي لك بعبارة أوسع وتفصيل أشفى على كل ما رأيته من
نظام طلبتها وسلوكهم مناهج التحصيل مقتفيًا أثر الطالب في كل دور من أدوار
طلبه من إبان دخوله فيها حتى يترشح لنيل شهادتها مُبينًا لك قوته وما حصل عليه
في كل دور منها.
زرت أيها الأخ تلك المدرسة من تاريخ الرسالة الأولى حتى اليوم زورات
متعددة في أوقات مختلفة وقفت فيها على تلك الدروس وقفة العاشق الدنف على
الربع المحيل وهو يبكي لأناس عاهدوا الرحيل على أن لا يملُّوا الذميل.
فكانت نتيجة ذلك البحث الدقيق والتنقير المتواصل أن ظهر لي ما عليه تلك
المدرسة الواسعة الكثيرة العدد، ووقوفي على مواضع خللها وسوء نظامها على ما أنا
عليه من الغربة وبعد الدار. ورأيت أن أجعل كل موضوع رأسًا مستقلاً بنفسه أذكر
فيه كل ما استبان لي من النقد كما سيمر بك إن شاء الله.
انتظام الطلبة: وأول أمر رغبت في كشف سره وبيان سببه من أمور هذه
المدرسة هو سبب كثرة طلابها حتى بلغوا التسعة آلاف أو يزيدون، وأغلبهم من
المصريين كما قدمت لك في رسالتي السابقة فكان غاية ما وقفت عليه من ذلك ما
سمعته هناك من أخ ثقة خبير قال: لا يكاد يمر الإنسان ببلدة من البلدان المصرية
أو قرية من قراها حتى يرى مئات من شبان المصريين حلفاء المتربة وضيق ذات
اليد وهم يطاردون الجوع بالفأس والمحراث، وتمضية يومهم الطويل في الحقول
والمزارع والتعب والنصب تحت شمس تذيب بوهجها رأس الضب. ومن بينهم
أفراد لا يكاد يخلو منهم بلد من البلدان أو قرية من القرى معطلون عن كل عمل
يطلقون عليهم تارة لقب الفقهاء أو الوعاظ وطورًا اسم المأذونين، ترى الواحد منهم
في جبة وقباء وعمامة عجراء يأكل جميع ساعات نهاره إما متربعًا في بيته خاليًا من
كل عمل أو قاعدًا في إحدى الزوايا ينثر من فيه على بُسطاء أهل الفلاحة ما يسمونه
وعظًا وإرشادًا، وما هو إلا أقاصيص أو لغو في حكمها يدعو الناس به إلى حب
التواكل والبطالة حتى إذا أتى على آخر الدرس لبث مكانه منتظرًا ما تدر به أيدي
أولئك العملة المساكين الذين لم يحصلوا على الدرهم إلا طرادًا، ولم ينالوا اللقمة إلا
جهادًا، ومن ذلك يتألف لهؤلاء المعطلين عيشة لا تعب فيها ولا نصب فإذا رزق
الله أحد الفلاحين الفقراء ولدًا وقع بين نارين إما أن يدعه يشتغل بما يشتغل هو به
فيعيش عيشة البؤس والخصاصة، وإما أن يدفع به إلى الأزهر ويثابر على أن
يقسم له ما يناله من الأجر على أعماله حتى يمضي عليه عدد من السنين فيخرج
منه وقد ترشح لأنْ يأكل من أوساخ الناس ويعيش عالة على العباد متوسدًا الراحة
من عناء كل عمل.
فإذا ترجح عنده الأمر الثاني دفع به إلى الأزهر، وأخذ يجري
عليه من النفقة ما يقطعه من قوت يومه الضروري. لذلك لا تكاد تجد في المائة
واحدًا من الطلبة من البيوتات الشريفة التي يعمل أهلوها لمستقبل شريف كالقضاء
والإفتاء. فأنت إذا سرت في ساحة تلك المدرسة فإنما تشق أجسامًا تنبو عن
رؤيتها النفس وهم مختلفون متبعثرون ليس لهم نظام ولا ترتيب، ويغلب أن يكون
سن الطالب عند اندراجه في سلك الأزهريين ما بين الخامسة عشرة إلى الثلاثين،
وقد كان امتحان الدخول في هذه المدرسة بسيطًا قاصرًا على معرفة القراءة والكتابة،
أما اليوم فهم يشترطون مع ذلك حفظ جميع القرآن للكفيف ونصفه لغيره.
ولأجل أن أتمكن من أن أبين لك أدوار الطالب هناك وأوقفك على قوته في
كل دور منها أقسمها إلى ثلاثة أدوار؛ كل دور ثلاث سنوات فيكون المجموع اثنتي
عشرة سنة، وهي أقل مدة أمكن بعض الطلبة نيل الشهادة فيها.
الدور الأول: يتقدم الطالب للانتظام في الأزهر وهو في السن الذي قدمت لك
فإن كان من الفلاحين (وهو الأغلب) رأى نفسه قد انتقل طفرة من بين رعاء
الشاء، إلى حلقات المدرسين ومجالس العلماء، وإن كان من البيوتات الكبيرة والأسر
الخاصة (وقليل ما هم) انتقل المسكين وثبة في يوم واحد من نعيم العيش وحسن
الحال إلى عيش الشظف والخشونة، وبُدّل في ساعة واحدة برؤية أهله وهم على ما
عهد من النظافة وجمال الهندام رؤية أولئك الذين ذكرت لك. وسواء كان الطالب
من العامة أو من الخاصة فإنه يتساوى مع غيره في الطلب وطرق التحصيل.
يدخل الطالب تلك المدرسة وهو لا يدري كيف يحضر، ولا ماذا يقرأ، ولا على
من يتلقى دروسه، ولا على أي وجه يسير فيها، ولا ما هي الكتب تُشرى لذلك
الغرض من حيث لا ناظر له هناك ولا رقيب عليه يأمره بشراء كتاب معلوم
والاختلاف إلى درس مخصوص، بل يمكث هناك المسكين أيامًا يجول في أركان
الأزهر وهو على ما ذكرت من البساطة والسذاجة ويأخذ كل يوم في التطواف
بحلقات الدروس يتساءل من الطلبة المتقدمين عن كتاب يشتريه، ودرس ينتظم في
سلك طالبيه، حتى إذا تيسر له ذلك بعد الذي تقدم من الحيرة والتعب وضياع الوقت
وحضر أحد الدروس أخذ يقلب طرفه فيما بين يديه، ويحدد أذنيه لسماع ما يلقى
عليه، فلا ينظر إلا نقوشًا لا مَقْدِرَة له إلا على النطق بها دون أن يعقل لها أقل
معنى. ولا تقع في أذنه إلا ألفاظ هي أشبه بالرطانة منها بما يتكلم به الناس، فيظل
سنته الأولى وهو يروح إلى الدروس كما يغدو إليها خاليًا من الفائدة مجردًا من فهم
أي شيء مما يتلوه عليه معلمه، اللهم إلا أن يحفظ بعض كلمات مثل: ضرب زيد،
وقتل بَكر عَمرًا، وتأبَّط شرًّا، وقال رحمه الله تعالى، إلخ.. هذا مبلغ ما يصل
إليه الطالب من اختلافه إلى دروس النحو في سنته الأولى - وأريد قبل أن أسلك
بالكلام إلى دروس الفقه أن أقول: كنت أود أن أطلعك على جميع ما يشتغل به
الطالب من الكتب على المذاهب الأربعة إلا أني لا أرى في استقصائها كبير فائدة
بل الأحسن أن أفصل كتب مذهب واحد، واخترت أن يكون الحنفي لأنه الأشهر،
وإن لم يكن الأكثر، ثم أنت تقيس ما بقي من الكتب في المذاهب الأخرى عليه لما
بينهما من المشاكلة التامة في صناعة التأليف وأسلوب التحرير.
وما حصل عليه في سنته الأولى من النحو يحصل على ما يشاكله في الفقه،
وأول كتاب في النحو يسمونه الكفراوي وما يقابله من الفقه يُسَمَّى مراقي الفلاح.
أما الكفراوي فقد وضعه صاحبه شرحًا لمتن صغير اسمه الآجُرُّومِيَّة، مشوش
العبارة مختصرًا جدًّا.
وأما مراقي الفلاح فهو كتاب يقتصر من الفقه على العبادات فقط وهو على
ذلك مجلد ضخم سلك به مؤلفه مسلك الإسهاب والإطناب. على أنه على ما به من
التطويل يعد أحسن كتاب في الفقه هناك. وقصارى القول أن الطالب يقطع شهور
سنته الأولى كلها ولا يعلق بذهنه ما يستحق أن أذكره لك. وإنما هي كُليمات
يسمعها فتمر عليه مر الخيال الساري - ثم يدخل في سنته الثانية وهو على هذه
الحال فيأكل أيامها وهو بالحيرة والذهول لقصور ذهنه عن إدراك أيّ شيء مما
يسمع أو يقرأ. وكثيرًا ما يلحق الطالب أو أهله القنوط من النجاح فيخرج من هناك
ليحترف. ولا كتب يحضرها في سنته الثانية على الغالب إلا ما أمضى فيها سنته
الأولى وسيره فيها لا يتميز عن السنة الفائتة إلا بكونه وصل إلى أن يعرب جملاً
بسيطة معلومة حفظ إعرابها حفظًا على غير فهم ولا تفكر. ويعرف بعض أسماء
الأئمة وشيء من الاصطلاحات الفقهية في الفقه.
ثم يتدرج من هاتين السنتين إلى السنة الثالثة، وفي أولها يكون قد أثر في ذهنه
كثرة ما يرد عليه من تعقيد الجمل وتشويش العبارات تأثيرًا يحمله على الجلد والتصبر
على تلك الأساليب، وربما فهم إذ ذاك بعض الجمل بعد أن ينصب نفسه ويتعب فكره
كل التعب وينتقل حينئذ من الكفراوي إلى كتاب يسمونه (الشيخ خالد) وهو كتاب
أصغر في الحجم من الكفراوي وأسهل منه عبارة، ولكن يظهر أن سهولته لم ترُق
للأشياخ هناك فانبرى له بعضهم وعلق عليه حواشي من المفروض على الطالب
الأزهري أن يكد ذهنه في فهمها ولم أر - علم الله - كتابًا يكد الفكر ويتعب القارئ في
فهم عباراته المشوشة المضطربة مثل ذلك الكتاب. ويقابل هذا بكتاب من الفقه في
هذه السنة كتاب (الطائي) أخو تلك الحاشية في فساد العبارة وسماجتها وقبح
تحريرها ركب به مؤلفه أسلوبًا لم أر ما يشاكله في كل ما وقع لي من مؤلفات العرب
فهو يحذف ما يلزم إثباته ويكتب ما من حقه الحذف ويؤخر ما له التقديم، ويقدم ما
من شأنه التأخير.
وأعجل إليك قبل أن أرتقي إلى ذكر الكتب الفقهية الكبيرة ببيان أن هذا
الطالب الضعيف يفاجأ في هذه المدة بتلك الأبواب الطويلة المحشوة بالخلاف
وتضارب آراء الأئمة فيما لا يعود بأقل فائدة على التلميذ، ولا ينتظر أن تكون منه
فائدة لغيره مثل أبواب العتق والرق، إلخ. وهناك أبواب أخرى فتحها نافع ولكن
توسعتها ضارة؛ لأن مؤلفي تلك الكتب خرجوا بها عن دائرة التشريع إلى بيداء
واسعة من الخيال المحض فلا تكاد تنظر في باب من أبواب الطلاق مثلاً حتى ترى
الكثير من الصور الغريبة النائية عما يقصد الشرع في كتاب الله الحكيم وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم وما جرى عليه أصحابه وأئمة السلف في الصدر الأول من
الإسلام.
على ما قدمت ينتهي التلميذ من دوره الأول، ولو أتي بغلام سليم الفطرة إلى
معلم حكيم في التعليم وأخذ يملي عليه كل يوم قليلاً من النحو والفقه ويفهمه إياه حق
التفهيم لبلغ في ثلاثة شهور من التحصيل إلى أضعاف ما يبلغه طالب الأزهر في
ثلاث سنوات.
الدورالثاني: إذا خرج الطالب من هذا الدور وهو على ما مر بك وأخذ
يدخل في الدور الثاني كان أول شيء يبدأ به أن يضم إلى درسي النحو والفقه درسًا
أو درسين في التوحيد أو المنطق أو البلاغة أو العَرُوض، واختيار الطالب أي فن
من هذه الفنون أمر موكول إلى المصادفات التي تسوقه إلى أي فن منها، وكثير من
الطلبة لا يمد عينيه إلى تلك العلوم إلا بعد مضي ست سنوات، ولا أريد أن أذكر لك
الآن ما هي هذه الكتب وما يستفيده الطالب منها، بل أدع ذلك لفرصة أخرى وآتي
لك قبل ذلك على وصف ما يشغل به من الكتب في العلمين الأصليين عندهم الفقه
والنحو.
وأول كتاب يفتحون به السنة الرابعة في الفقه كتاب يقال له: (منلا مسكين)
يقضي فيه الطالب على الغالب سنتين، ومنلا مسكين هذا كسائر ما تقدم من
الكتب محشوّ بالخلافات على غير جدوى والتعمق في فروع تنقضي الأعمار، ولا
تقع، ولا يُحتاج إليها، غير أنه يمتاز عن تلك الكتب بالخطأ فيما يورده من تَقول
أئمة المذاهب الأخرى في معترض الرد عليهم وتزييف أقوالهم، وهو ما لا يكاد
يخلو منه كتاب أو باب من الأبواب. بعد أن يُتمم المسكين (منلا مسكين) يأخذ في
تلقي كتاب بعده يقال له: (العيني) ، وهو كتاب بلغ به صاحبه حد النهاية من
الخطأ والغلط والتمحل في تزييف مذهب الإمام الشافعي واختراع الصورة الفقهية،
ولا يكاد يأتي الطالب على آخره وفي صدره شيء من جوهر العلم، اللهم إلا تلك
الصور الذهنية والمسائل الخيالية والمماحكات اللفظية، وحفظ أسماء أغلب من
اشتغلوا بهذا الفن لكثرة ما يرد من أسمائهم في صدد الخلاف. وإن تعجب فعجب
بل ألف عجب اتفاق أكثر جماعة الأزهر وجل مشايخه على استحسان هذا الكتاب
وامتداح كل من حذا حذوه في صناعة التأليف. وعندي أن ذلك كافٍ لبيان ما هم
عليه من الذكاء والنيل، وما وصلوا إليه من العلم والفضل. ويشتغل الطالب فيما
يقابل ذلك من النحو في الدور الثاني بثلاثة كتب: الأزهرية والقطر والشذور، أما
الأزهرية فكتاب سهل العبارة اقتصر من النحو على المبادئ إلا أنه مبتلى كإخوانه
بحاشية شط فيها مؤلفها في أغلب المواضع عما هو بصدده. وأما كتابا القطر
والشذور فكلاهما درة متلألئة بين أطمار بالية ألفهما ابن هشام رحمه الله، غاية في
حسن العبارة وانسجام الأسلوب، لم يترك قاعدة يحتاج إليها الطالب إلا أتى عليها
في هذين الكتابين. ولو اقتصر الأزهريون على قراءتهما متنًا مجردًا من الحواشي
والتقارير لحصل الطالب منهما على الغرض المقصود من النحو. ولكن الأمر على
عكس ذلك فقد وضع بعض الأشياخ على كل كتاب حاشية لم يقع طرفي حتى اليوم
على عبارة أبرد ولا أسمج من عبارتها، وقد سلك بها طريق التعسف والتعقيد حتى
صارت سجفًا يحول بين الطالب وما توخى بيانه المؤلف رحمه الله. ومن غرائب
الاتفاق أن وقعت في يدي اليوم حاشية القطر فكانت أول جملة وقع طرفي عليها من
غير قصد ما كتبه صاحبها تعليقًا على بيت أورده المؤلف وهو:
ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البِلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
(قال المحشي) أَلا: حَرْفُ استفتاح، واسلمي: فعل أمر، وميّ: اسم امرأة،
والبلى مقصور مكسور، المراد به الاندراس والفناء. أي: اسلمي وإن كنت قد
بليت. ثم قال بعد كلام واعتراض على الشاعر: إنه لم يحترس لأن دوام المطر
يخرب الدار. وأجيب بأنه قدم الاحتراس في قوله اسلمي وبأن ما زال تقتضي
ملازمة الصفة للموصوف مذ كان قابلاً لها على حسب قابليتها، ثم قال وقد ضمن
بعضهم هذا البيت حيث قال:
إليك اشتياقي يا كنافة زائد ... فما لي غناء عنك كلا ولا صبر
فلا زلت أكلي كل يوم وليلة ... ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطر
(والكنافة) أشهى الحلوى للمصريين. هذا ما يشتغل به الطالب هناك في
مدة ست سنوات من النحو والفقه، وأقسم أيها الأخ أني لم أر حتى ساعتي هذه ممن
بلغ السنة السادسة وحضر تلك الكتب في النحو من يحسن أن يكتب سطرًا واحدًا أو
يقرأ جملتين بغير لحن وغلط، وأريد أن أختم هذه الرسالة الآن مقتصرًا على ما
ذكرت، وفي الرسالة الآتية ترى البقية الباقية. والسلام عليكم ورحمة الله.