للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة من يحيى محمد البكري

بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل والسيد [١] ؛
سلامًا وتكريمًا، وتحية وتعظيمًا , ما أوضح مناركم للمؤمنين سبل الإسلام،
وبدد عن طريق رفعته غياهب الأدران والأوهام، أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى،
وطعن الإسلام في صدره طعنات قاتلة، وأوشك المسلمون أن يفقدوا ما بقي بين
أيديهم من رمق القوة والأمل، فبينما نحن نرى السواد الأعظم من الدول الإسلامية
يرسف في قيود الاستعمار والعبودية، إذا بالقسم المستقل منها تلعب فيه أيدي
العابثين، ثم بينما نرى تركيا قد أديرت عنا وشغفت بمظاهر الغربيين الذين شغفوا
بإفنائها إذ بإيطاليا ترسل عقاربها وتبث سمومها باليمن، وإذ بإنكلترا تحاول أن
تخادع ابن سعود , وتريد أن تظفر به، وإجمالاً هذه كلمتي التي أملاها ضميري
على لساني، الذي أناب عنه بناني في تحريرها إليكم، وليس على فضيلتكم إلا أن
تنظروها وتفحصوها نقدًا وتمحيصًا، ولكم أن تدرجوها في صحيفة مذاكرات
النهوض الإسلامي , أو أن تنشروها على صفحات صحيفتكم الغراء؛ كي يتمكن
القراء من الاطلاع عليها ويبدوا فيها الآراء العامة، ولكم أن تضربوا عنها صفحًا
وعفوًا عن إقدامي هذا وإنا لما يرتضيه الأستاذ لمنتظرون.
***
روح الثقة في الإسلام
للدين الإسلامي المكان الأجل من قلوب معتنقيه، والسلطة العظمى على
خواطرهم وأعمالهم، حتى إنك لتجد من إذا طرق سمعه اسم من بعث به في
الأرض بشيرًا عليه أزكى السلام لابتهل فازعًا إلى الله بالصلاة والتسليم عليه , لا
فرق بين عامتهم وخاصتهم في ذلك - أو إذا نودي إلى الصلاة؛ لرأيت منهم كل
مقبل من كل فج ابتغاءًا لمرضاة الله واجتنابًا لمعصيته وخشية من عقابه، يقفون
صفوفًا في انتظام وقور يؤدون ما كتب الله عليهم في كتابه الحكيم والخشوع يملأ
جوانحهم {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} (الفتح: ٢٩) .
الديانة الإسلامية هي العقيدة التي تكفل لبني الإنسان طريق السعادة الدنيوية
والسعادة الأبدية , لا يجنح من يسير ويستنير على سننها وشرائعها إلى ضلة الإثم
والعدوان، أو إلى هاوية الذل والخذلان، بل لا يهتدي إلا إلى طريق الهدى والمنهج
القويم والصراط المستقيم، ولا يرضى أن يشوب ما أوضحه له دينه الحنيف من
المبادئ والشرائع أدنى شائبة من الحبائل الأجنبية ومظاهرها الخلابة، ويشفق على
نفسه أن يصيبها تزعزع في العقيدة أو أن يتصدع منها في قلبه ركن من أركانها
يتهدم به كل ركن من أركان الخير والفلاح , وكل أصل من أصول السعادة، ويبذل
في سبيل صيانتها وقوتها ونصرتها ما كان بين يديه وكل ما تملك أيمانه من قوة
ومال ونفوذ، بل يقدم أبناءه وفلذات كبده واحدًا واحدًا، بل يقدم نفسه معهم في
ساعة الحرب طعمة لما يريد أن يهشم شيئًا من أطراف شدة عقيدته وعظمتها
ومجدها , ولا ينثني مطلقًا عن هذه الجهود والتضحيات، ما لم يكن قد تسرب إلى
قواه العقلية والنفسية شيء من النقص والاضطراب، أو تطاير شيء من أوراقها
وعروقها مع عواصف الانقلابات والتطورات الاجتماعية، أو أصيبت صحتها
بعدوى أخلاقية خارجية.
الدين الإسلامي هو نور الحق الذي انبلج في أفق الكون منذ أربعة عشر قرنًا
مضت، ذلك النور الذي أديرت وانقشعت أمام أشعته ظلمات الجهالة والضلالات،
وعلى بنيانه خفقت أعلام اليقين والعمران، وانتشرت روح الثقة والإيمان،
ورسخت في نفوس الشعوب كرسوخ النقوش في الأحجار الصلدة، فبذلك أصبحوا
بنعمة الله إخوانًا يشد بعضهم بعضًا، يتعاونون في السراء، ويتناصرون في
الضراء، يشفق غنيهم على فقيرهم؛ فيساعده، ويلتف صغيرهم حول كبيرهم؛
فيظاهره، فتجدهم أشداء على الكفار العادين رحماء فيما بينهم، يرون السعادة كل
السعادة في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته وإظهار دينه على الدين كله ولو كره
المشركون. هكذا دينهم في كل زمان ومكان {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ} (البقرة: ٥) .
الدين الإسلامي هو الدين الذي ألف بين قلوب الناس؛ فجرى في عروقهم دم
المحبة والألفة، وأمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يستعفوا، وأن يأكلوا
بالمعروف؛ فانغرست في نفوسهم الأمانة والعفة.
وعد الصابرين بأحسن الأجر، وأمرهم إذا عزموا أن يتوكلوا على الله،
فجبلوا على الإقدام والصبر، وبين لهم أن الأعمال بالنيات، وأمرهم بالطهارة؛
فنبت في قلوبهم الإخلاص والطهر، أمرهم أن يتعاونوا على البر والتقوى , وكرم
منهم من يمشي سويًّا على صراط مستقيم؛ فنشئوا على الاتحاد والاستقامة، وأمرهم
أن يقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونهم؛ فتمكن منهم روح الشمم والشهامة، بين لهم
أن في كتابه آيات لأولي النهى، وعبرة لمن يخشى، وأن من يؤت الحكمة فقد أوتي
خيرًا كثيرًا؛ فادرعوا بالموعظة والحكمة، وأمرهم أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء
لله ولو على أنفسهم؛ فلاذوا بالعدل والرحمة، أمرهم أن يتقوا الله ويكونوا مع
الصادقين , وأن يثبتوا ويذكروا الله كثيرًا؛ فاستعانوا بالصدق والثبات، وبين لهم
أن من اعتدى عليهم فليعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليهم؛ ففطروا على الحرية
والمساواة، بين لهم أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وأمرهم إذا
قضيت الصلاة أن ينتشروا في الأرض , ويبتغوا من فضل الله؛ فلجئوا إلى العمل
والعلم، وبين لهم أن علو الهمة من الإيمان؛ فحثهم بذلك على المجد والعزم، أمرهم
أن يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فتوطد بينهم أساس النجدة والمروءة،
وبين لهم أن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وأمرهم أن
ينفقوا أموالهم في سبيل الله؛ فسادت بينهم الآداب والسماحة. ذلك هو دين القيمة الذي
منحه الله عباده , وفضل المؤمنين به على سائر الأمم، يأمرهم بالمعروف والعدل
والإحسان، وإيتاء ذي القربى واليتامى أموالهم، ويجنبهم عن الفحشاء والمنكر
والبغي , وأكل أموال الناس بالإثم، وينهاهم عن النميمة والحقد والحسد , وما فيه
الخسران المبين لهم، وما كانت تلك الأوامر والنواهي منه سبحانه إلا رحمة منه ,
ونعمة من كبريات نعمه رغبة في سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحفظًا لكيانهم من أن
يصيبه عدوان المعتدين , وهم في غيهم وغفلتهم يعمهون.
كان والله عجبًا أن يحدث ما يقع في كل يوم , بل في كل ساعة تحت مشاهد
أنظارنا ومدارك حواسنا من صنوف الفتك والإجحاف بالعقد الإسلامي، ومحاولة
كسر أجنحته، وإفناء قوته، وإزهاق روحه، والمسلمون يكادون لا يشعرون بما
ينوبهم من طوارق الحادثات مع شدة وطأتها , وتحكيم أغلال الذل والاسترقاق في
أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، بل في ضروراتهم وإراداتهم، بل في أفكارهم وعواطفهم،
كأنهم يحسبون أن الإسلام هو الخنوع لسيطرة العدو الباغي , والاستسلام لما
ينصب عليهم من المحن والبلاء.
عجبًا والله ما نشاهد من الممالك الأوربية إذ كلما قام قائمهم يدعو إلى الفتح
والغزو وظلم الشعوب لا يقابل ذلك النداء لدى شعوبهم إلا بالتلبية والإجلال والتأييد،
فينقضون على أطراف ممالكنا ويشبعون أهلها طعنًا وسلبًا ونهبًا وتقتيلاً، حتى إذا
ما استقر لهم الأمر فيها جرعوا البقية الباقية منهم من سموم المدنية الغربية ما فيه
هلاك للأجسام وذهاب للإيمان، ويقلبون نظامها الإسلامي الجليل حتى تندثر معالمه ,
ويصير كأن لم يكن شيئا من قبل، هذا هو محور غايتهم من كل أفكارهم وحركتهم
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: ٨) .
كما كانت غرائز الجور والطغيان , وحب الفتك متمكنة من مشاعر الغربيين
كان إزاء ذلك من التخاذل والتجافي المتغلب على نفوس الأمة المحمدية , وميلها إلى
اللهو والطرب والغفلة عن عواقب الأمور مما جعل الأولين يتمادون في طيشهم
وظلمهم ووحشيتهم، ويغرقون في سلب حياة الإسلام , وضياع زهوه وبهائه بين
أمواج ما ينشرون من دعوات الفسق والكفر والفجور، وتحطيم حصون الدين
المنيعة، وهدم صروحه الجميلة، فيهيم المسلمون على وجوههم في مهامه الحيرة
والارتباك حتى يأخذهم أولئك لقمة سائغة، وغنيمة باردة إذا شاءوا محقوهم عن
آخرهم، وإن أرادوا أبقوهم آلات بين أيديهم يدفعون بها أينما تريد لهم أهواؤهم،
يسوقونهم لمحاربة بعضهم بعضًا سوق الأنعام إلى مواطن نحرها.
أليس بعجيب أن ينهض الريفيون في مراكش ويهبوا للمطالبة بحقوقهم
المهضومة؛ فيردهم على أعقابهم جنود سورية [٢] والجزائر وتونس وغيرهم من
الشعوب التي تربطهم بهم رابطة العروبة والدين التي هي أقوى الروابط وأوثقها
فضلاً عن اشتراكهم في شاكلة الخسف والضيم، أليس من الغريب أن تغلب سورية
على أمرها بواسطة جنود مراكشية وصومالية، أليس ما يبعث على التحرق والحوقلة
أن تستعمل الجنود الهندية للمحاربة في مصر والعراق وتركيا، والجنود الإفريقية في
الهند وفلسطين، رحمتك اللهم الطف بعبادك المؤمنين , واهدهم إلى سبل الرشاد ,
واجعل لهم من ماضيهم وحاضرهم عبرة وموعظة لمستقبلهم فأنت خير الراحمين.
تفرق كلمة المسلمين فيما بينهم وعدم اجتماعهم في الآراء العقلية والوجدانيات
النفسية مما حسن في مخيلة الأوربيين غارتهم تلك , وسهل لهم سبلها حتى اندفعوا
يهدمون بناء الإسلام حجرًا حجرًا، ويخربون حديقته شجرة بعد شجرة، ويسعون
جهدهم في غرس المفاسد والآثام , وتحليل ما حرمه الله ومعصية ما أمر به، حتى
أذهلوا المسلمين عن أنفسهم، وزادوهم سكرًا على سكرهم وغفلتهم، وحمقًا على
حمقهم وغباوتهم، ذلك بأنهم فقدوا كثيرًا من موازنة إرادتهم وشعورهم بتكرار
الأعمال المغايرة لطبيعة أخلاقهم وشريعتهم، فتنكبوا سبل دينهم , وحادوا عن طرق
إرشاده وإصلاحه , واندفعوا وراء الشهوات والموبقات وأسباب الشقاق، كاندفاع
الجنادب إلى المواضع القذرة، ضاربين صفحًا عن هاتف الإيمان الذي يهتف من
أعماق صدورهم، الذي يهيب بهم إلى التعقب والاعتبار، والرجوع إلى أنفسهم،
ودفع عادية ما قد يغتال روح الإسلام وينقض دعائمه , مع عدم إحساسهم بداعية
الحق والواجب عمله في سبيل نصرة ملتهم وعقيدتهم، أشد ظلمًا لأنفسهم وأكبر
ضلالاً عند الله {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (التوبة: ١٠٩) .
إذا ضعفت ملكة العاطفة والحساسية من القلب , وهي القاعدة التي تبنى عليها
عماد العقيدة؛ ذهبت معها وسائل الشجاعة والإقدام وما يلازمها من خلال الشهامة
والثبات واقتحام المهالك، ويعدم الإنسان الصفات التي بها يتمكن من دفع المؤذيات
والذب عن حوضه وكيانه، بل تجده كثير التواني في حقوقه الشخصية والوطنية
والدينية، لا يحرك ساكنًا في سبيلها , ضربت عليه الذلة والمسكنة، وعاش طول
حياته كسيف الضمير حزينًا حسيرًا.
ولما كان لكل عمل من الأعمال وكل هيئة من الهيئات البشرية حيز معلوم
ودائرة محدودة لا يتعداها الإنسان؛ كان فيها ما يحمي قيامها ويقوم اعوجاجها
ويردع من ينزع إلى أحد حدي التفريط والإفراط فيها , ويرده إلى مواطن الحق
والصواب، ولقد كان من ضرورة الاجتماع الإنساني أن يكون من بينهم الضعيف
والقوي، فمن شأن الضعيف أن يرضخ ويستسلم للقوي، فإذا شعر بشدة الظلم ,
وقرب وجوب الفناء؛ كان الواجب عليه أن يفيق , ويثب على من ظلمه وثبة ترده
إلى صوابه وحده؛ بل وربما تحطمه تحطيمًا تامًّا وترد إليه جميع حقوقه تامة كاملة،
وإن القوي من شأنه الترفع والعلاء حتى إذا ما بلغ أعلى شأوها كان الطغيان
والتعدي أول نذير له بالسقوط.
أجل قد بالغ المسلمون في تخاذلهم , وفناء الثقة فيما بينهم بقدر ما لج
الغربيون في تصلفهم وتبجحهم، حتى حق القول بأنه إذا سار الطرفان على هذا
المسلك دون أن يكون لليقظة والنهوض سبيل لدى نفوس المسلمين؛ فإنهم يكونون
قاب قوسين أو أدنى من المحق والفناء، ويصبح التلاشي أقرب إليهم من حبل
الوريد، بل قل على شريعتهم السلام , فهلا تشعرون بالعاقبة , وهل أنتم منتهون؟
ألا أن من الهمة والحزم أن يتعاون المسلمون على نيل المنافع، ويتضافروا على
دفع المضار إذ قد تبين لهم أن في التدابر والتقاطع وترك الأمور على تيارها ما
يؤدي إلى الانحلال، في عناصرهم وذواء فطرتهم، والضعف في ملتهم، فيتفرق
شملهم، وتنفصم عرى الائتلاف بينهم، فتذهب ريحهم , ويصبحوا من الخاسرين،
فلقد آن أوان صحوهم من سكرتهم، ونهوضهم بعد سباتهم؛ ليتداركوا ما ذهب إليه
اختلافهم، ويمكنوا روح الوحدة والاعتصام من قلوبهم حسبما جاء به الدين , حتى
يكون العالم الإسلامي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالحمى والسهر، ما هذه إلا بينة الرشد تُوحَى إليكم , يصدع بين جنباتها الحق
المبين، أفلا تستمعون لها وتتلمسون محجتها باليقين، فإذًا تعتصمون بالعروة الوثقى
وحبل الله المتين، وتنبذون كل خلاب مهذار مخذال مهين إنه خير لكم لو كنتم
تعلقون، أم أنتم عن ذلك تعرضون {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ
يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: ٢٢-٢٣) .
إن للحق مبادئ وغايات، وللباطل قواعد ومآرب، ولكل منهما شيعة وأنصار،
وليس علينا إلا أن ننصر الحق أو ننبذه، أو ندحض الباطل أو نرهبه، على أن
الحق ليس من الضعف لدرجة أن يرهب أو ينبذ؛ بل إن للحق سطوة عظمى فوق
بطش الباطل وطيش الضلال، تستولي على النفوس بدون جزع أو إرهاب،
فيعتريها الشعور بجلال الحق والإذعان لروحه، أفبعد ذلك يشغب الهارفون؟
جدير بالعلماء وكبار المفكرين وقواد الآراء في مصر , بل في جميع من سواها من
الدول المسلمة أن يتعاهدوا ويعقدوا الخناصر على إحكام رابطة الإسلام وتشذيبه مما
قد خالطه من الشوائب والأسقام، وأن يعملوا جميعًا في ذلك يدًا واحدة، وأن
يرسموا للشعوب الخطط القويمة والمبادئ الرشيدة، ويأخذوا بناصرهم حتى يتبوأ
الجميع مكانهم من العزة والمنعة، ويفوز الجميع بجني ثمار أفكارهم وأعمالهم،
وتمهيدًا لاتجاهنا إلى غايتنا التي ننشدها نقول:
(١) على كبراء المسلمين من العلماء والفلاسفة والرجال الروحيين ورؤساء
العشائر وحكام الأقاليم من سائر الأقطار الإسلامية أن يوالوا عقد الاجتماعات
المتعاقبة لإبداء آرائهم الصائبة , وأفكارهم الثاقبة في إصلاح شأن الإسلام , وجمع
شتاته , وتوحيد لوائه مع الرغبة الصادقة والعزم التام , وتوجيه الجهود إلى ذلك من
العام والخاص.
(٢) سعي الجميع لتوثيق عرى المودة والتعاون بين الشعوب والحكومات
الإسلامية بحيث يعمل الفرد منهم في سبيل المنفعة العامة، وأن تعطف الجماعات
على مصالح الأفراد منها.
(٣) القيام لإصلاح ذات البين بين الشعوب الإسلامية التي بين أفئدتها
ضغائن أو سوء تفاهم إذا طرأ ذلك , وإحلال الأخوة والصفاء والتضامن بدلاً من
ذلك.
(٤) البحث في إصلاح شئون الأقطار الإسلامية ووسائل رفعتها وكرامتها،
والقضاء على كل ما يؤدي إلى نقص قدرها وهيبتها، وإقامة شعائر الدين والإرشاد ,
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(٥) الإسراع في تنصيب خليفة المسلمين الذي يكون بالانتخاب كما كانت
الطريقة المتبعة لدى الخلفاء الراشدين الأربعة , لا بطريق الذرية والوراثة.
(٦) أن يكون المرشحون للخلافة من أساطين العلماء الجهابذة ذوي العبقرية
على أن يكونوا من ذوي الجد والهمم والإرادة القوية والعزيمة الماضية العاملين
الممتازين بماضيهم المجيد المعروف، وكفاءتهم الشخصية، ومقدار ثقة الشعوب
فيهم من سائر الممالك الإسلامية على السواء.
(٧) أن يكون مقر الخليفة القاهرة , ويكون مجردًا من السلطة الأجنبية , أو
أن يكون في أي قطر مستقل وأن يسري نفوذه الديني لدى جميع المسلمين على نص
الشرع والسنة.
(٨) أن يكون للخلافة مجلس أعلى يسمى مجلس الخلافة ينعقد في أوقات
مخصوصة معينة برئاسة الخليفة , ويكون له عن كل قطر إسلامي نائب أو أكثر
للنظر في شؤون الإسلام والمسلمين المادية والمعنوية.
وختامًا نضرع إلى الله أن يوفقنا جميعًا إلى ما فيه الخير والصلاح والسعادة
والعمران , وأن يهدينا إلى صراطه القويم وطريقه المستقيم , وأن يجعل الحق
والنجاح والحكمة رائدنا , إنه على ما يشاء قدير.
سيدي الأستاذ:
لقد أبديت لك صراحة ما أشعر به , وما ينبض به قلبي , بل وقلب كل مسلم ,
ولم أعرضه ولن أعرضه إلا على أنظار فضيلتكم كي تحكموا فيه بحكمتكم
المشهورة، والله على ما أقول وكيل؛
... ... ... ... ... ... ... ... يحيى محمد البكري
... ... ... ... ... ... ... ... ... بفرشوط
(المنار)
إن كل جملة من رسالتكم تدل على معرفتكم بحال أمتكم وعصركم إلا هذه
الاقتراحات في الخلافة، من الذي ينصب الخليفة؟ من ينتخبه؟ من يرشح جهابذة
العلماء ذوي العبقرية للانتخاب؟ أي مملكة ترضى أن تكون مقرًّا لخليفة منتخب
غير ملكها أو أميرها؟ أما قرأت يا أخي ما كتبته الجرائد المصرية من الطعن بمؤتمر
الخلافة , والسخرية من كبار العلماء لتأليف هذا المؤتمر؟ أما سمعت صياح ملاحدة
مجلس النواب في إنكار صرف مبلغ حقير من الأوقاف الخيرية على هذا المؤتمر
اتباعًا لملاحدة جريدة السياسة؟