للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية
رضي الله عنه

الأصل الثاني
الاحتجاج بالقدر على المعاصي على المأمور [١] وفعل المحظور، فإن القدر
يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه ووعده ووعيده.
والناس الذين ضلوا في القدر ثلاثة أصناف: (قوم) آمنوا بالأمر والنهي
والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة
ونحوهم.
(وقوم) آمنوا بالقضاء والقدر , ووافقوا أهل السنة والجماعة على أنه ما
شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لكن
عارضوا بهذا الأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضًا للشريعة،
وفيهم من يقول: إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وأن العارف يستوي عنده
هذا وهذا. وهم في ذلك متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق والوجد , فإنهم
لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل
والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون
بينهما [٢] ، ويفرقون أيضًا بموجب أهوائهم وأغراضهم لا بموجب الأمر والنهي، فلا
يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر , بل كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة
قدري، وعند المعصية جبري. أي مذهب وافق مذهبك [٣] تمذهبت به فلا يوجد
أحد بالفلك (؟) في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض لا يجعله حجة في
مخالفة هواه , بل يعادي من آذاه وإن كان محقًّا , ويحب من وافقه على غرضه وإن
كان عدوًّا لله، فيكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق
نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه ومحبته وبغضه وولايته وعداوته؛ إذ لا
يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن ذلك مستلزم للفساد الذي لا صلاح معه ,
وللشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتدٍ، ولا
اقتص من باغٍ , ولا أخذ لمظلوم من ظالم، ولفعل كل أحد ما يشتهيه من غير
معارض يعارضه فيه.
وهذا فيه من الفساد، ما لا يعلمه إلا رب العباد , فمن المعلوم بالضرورة أن
الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد وما يضرهم , والله قد بعث رسوله صلى الله عليه
وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف وينهاهم عن المنكر , ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه؛ اتبع ضده من البدع والأهواء، وكان
احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد
عليه [٤] ، لزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير.
(وإن قال) : أنا أعذر بالقدر من شهده , وعلم أن الله خالق فعله ومحركه لا
من غاب عن المشهود , أو كان من أهل الجحود. (قيل) : فيقال لك: وشهود هذا
وجحود هذا من القدر , فالقدر متناول لشهود هذا وجحود هذا , فإن كان موجبًا
للفرق مع شمول القدر لهما، وهذا رجوع إلى الفرق، واعتصام بالأمر والنهي،
وحينئذ فقد نقضت أصلك وتناقضت فيه , وهذا لازم لكل من معك فيه , ثم مع فساد
هذا الأصل وتناقضه؛ فهو قول باطل وبدعة مضلة.
فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات وفعل المحظورات [٥]
بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات،
فلو أشرك مشرك بالله , وكذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ناظرًا إلى أن
ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعًا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر
أن يشرك به سواء كان المشرك مقرًّا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلاً عنه،
بل قد قال إبليس: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: ٣٩) فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببًا لمزيد عذابه ,
وأما آدم - عليه السلام - فإنه قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: ٢٣) قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: ٣٧) , فمن استغفر وتاب
كان آدميًّا سعيدًا , ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسًا شقيًّا , وقد قال تعالى لإبليس:
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: ٨٥) .
وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعًا
من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر،
فيضاهون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينًا لم يشرعه الله , ويحتجون بالقدر على
مخالفة أمر الله.
(والصنف الثالث) : من الضالين في القدر، من خاصم الرب في جمعه بين
القضاء والقدر والأمر والنهي، كما يذكر ذلك على لسان إبليس، وهؤلاء خصماء
الله وأعداؤه , وأما أهل الإيمان فيؤمنون بالقضاء والقدر والأمر والنهي، ويفعلون
المأمور , ويتركون المحظور , ويصبرون على المقدور , كما قال تعالى: {مَن
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: ٩٠) فالتقوى تتناول
فعل المأمور , وترك المحظور , والصبر يتضمن الصبر على المقدور , وهؤلاء إذا
أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم , علموا أن ذلك في كتاب , وأن ما
أصابهم لم يكن ليخطئهم , وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم , فسلموا الأمر لله، وصبروا
على ما ابتلاهم به , وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون
إلى الطاعات، ويدعون ربهم رغبًا ورهبًا، ويجتنبون محارمه، ويحفظون حدوده،
ويستغفرون الله، ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علمًا منهم
بأن التوبة فرض على العبد دائمًا , واقتداءً بنبيهم حيث يقول في الحديث الصحيح:
(أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر
من سبعين مرة) وآخر سورة نزلت عليه {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّاباً} (النصر: ١ - ٣) .
وإذا عرف هذان الأصلان فعليهما يبنى جواب ما في هذا السؤال من الكلمات،
ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات.
بدء الجواب عن كلمات أهل الوحدة:
فقول القائل: (إن الله لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها خلقًا) هو من
أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد؛ وهو باطل، فإن اللطيف إن كان هو الكثيف
فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف , وإن كان اللطيف غير الكثيف، فقد ثبت
الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق , وحينئذ فالحق لا يكون خلقًا، فلا يتصور
أن ذات الحق يكون خلقًا بوجه من الوجود , كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات
الخالق بوجه من الوجوه.
وكذلك قول الآخر: ظهر فيها حقيقة , واحتجب عنها مجازًا , فإنه إن كان
الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير
الآخر، فلا يتصور ظهور واحتجاب.
ثم قوله: (فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل
الفرق شهدها ستورًا وحجبًا) كلام ينقض بعضه بعضًا , فإنه إن كان الوجود واحدًا لم
يكن أحد الشاهدين عين الآخر , ولم يكن الشاهد عين المشهود , ولهذا قال بعض
شيوخ هؤلاء: من قال: إن في الكون سوى الله. فقد كذب. فقال له آخر: فمن الذي
يكذب؟ فأفحمه؛ وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه كان (هو)
الذي يكذب ويظلم ويأكل ويشرب , وهكذا يصرح به أئمة هؤلاء كما يقول صاحب
الفصوص وغيره: إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض
ويضرب , وتصيبه الآفات ويوصف بالمصائب والنقائص، كما إنه هو الذي
يوصف بنعوت المدح والذم. قال: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات
الثبوتية والسلبية , سواء كانت محمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا أو مذمومة عقلاً وعرفًا
وشرعًا , وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات
المحدثات , وقد أخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى
المخلوق يظهر بصفات الخالق، فكلها حق له كما أن صفات المخلوق حق للخالق.
وقول القائل:
لقد حق لي عشق الوجود وأهله ...
يقتضي أن يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب
والخنازير والبول والعذرة وكل خبيث، مع أنه باطل شرعًا وعقلاً , فهو كاذب في
ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذٍ وآلمه ألمًا شديدًا لا يغضب - محرم شرعًا.
وما ذكر عن بعضهم من قوله: (عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى
عين ما ترى) هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك
والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف
المتفلسفة.
وقول ابن عربي: ظاهره خلقه، وباطنه حقه. هو قول أهل الحلول، وهو
متناقض في ذلك , فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان أحدهما باطن والآخر
ظاهر , والتفريق بين الوجود والعين - تفريق لا حقيقة له , بل هو من أقوال أهل
الكذب والمين.
وقول ابن سبعين: (ربٌّ هالك، وعبد مالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة
وهم) موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال: وأنتم
ذلك، وكذلك قال: الله فقط والكثرة وهم. فإنه على قوله لا موجود إلا الله؛ ولهذا
كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم: ليس إلا الله. بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله،
وكان يسميهم الشيخ قطب الدين بن القسطلاني الليسية، ويقول: احذروا هؤلاء
الليسية. ولهذا قال: الكثرة وهم. وهذا تناقض، فإن قوله: وهم. يقتضي متوهمًا ,
فإن كان المتوهم هو الوهم , فيكون الله هو الوهم , وإن كان المتوهم هو غير الوهم
فقد تعدد الوجود , وكذلك: إن كان المتوهم هو الله , فقد وصف الله بالوهم الباطل،
وهذا مع أنه كفر فإنه يناقض قوله: الوجود واحد. وإن كان المتوهم غيره فقد أثبت
غير الله وهذا يناقض أصله , ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة
وهمًا بل تكون حقًّا.
والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل فإن
قوله:
يا صورة إنس سرها معنائي ...
خطاب على لسان الحق يقول لصورة الإنسان: (يا صورة إنس سرها
معنائي) ؛ أي هي الصورة وأنا معناها. وهذا يقتضي أن المعنى غير
الصورة , وهو يقتضي التعدد والتفريق بين المعنى والصورة , فإن كان وجود
المعنى هو وجود الصورة - كما يصرح به - فلا تعدد , وإن كان وجود هذا غير
وجود هذا تناقض. وقوله:
ما خلقك للأمر ترى لولائي ...
كلام مجمل يمكن أن يراد به معنى صحيح؛ أي: لولا الخالق لما وجد
المكلفون، ولا خلق لأمر الله , لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا. فإن مراده الوحدة
والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال:
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا ... كي تشهدنا في أكمل الأشياء
فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية , وهذا يشير
إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق , لكنه متناقض في كلامه , فإنه لا
يرضى بالحلول ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال
هو عين وجود المحل , لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود , فوجود الحق
حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده. وهذا الكلام لا حقيقة له في
نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا , لكنه هو مذهب المتناقض في نفسه.
وأما الرجل الذي طلب من والده الحج , فأمره أن يطوف بنفس الأب , فقال:
طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط. فهذا كفر بإجماع المسلمين , فإن الطواف
بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله , وأما الطواف بالأنبياء والصالحين، فحرام
بإجماع المسلمين. ومن اعتقد ذلك دينًا فهو كافر سواء طاف ببدنه أو بقبره،
وقوله: ما فارقه الله طرفة عين قط. إن أراد به الحلول المطلق العام , فهو مع
بطلانه متناقض , فإنه حينئذ لا فرق بين الطائف والمطوف به , فلم يكن طواف هذا
بهذا أولى من العكس , بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب والخنازير والكفار
والنجاسات والأقذار وكل خبيث وكل ملعون؛ لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا
كله , وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا
أيضًا من ذات الله. فقال: وثم خارج عنه؟ ومر التلمساني ومعه شخص فاجتاز
بكلب فركضه الآخر برجله , فقال: لا تركضه فإنه منه.
وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين فإنه متناقض ,
فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى
بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد. وإذا قيل: مظاهر
ومجالي. قيل: إن كان لها وجود غير وجود الظاهر المتجلي، فقد ثبت التعدد
وبطلت الوحدة , وإن كان وجود هذا هو وجود هذا , لم يبق بين الظاهر والمظهر
والمتجلي فيه [٦] فرق، وإن أراد بقوله: ما فارقه الله طرفة عين الحلول الخاص
كما تقول النصارى في المسيح - لزمه أن يكون هذا الحلول ثابتًا له من حين خلق
كما تقوله النصارى في المسيح , فلا يكون ذلك حاصلاً له بمعرفته وعبادته وتحقيقه
وعرفانه , وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين , فلماذا يكون الحلول
ثابتًا له دون غيره؟ وهذا شر من قول النصارى , فإن النصارى ادعوا ذلك في
المسيح لكونه خلق من غير أب، والشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق , وإنما
فضلوا بالعبادة والمعرفة والتحقيق والتوحيد , وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن ,
فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثًا لا مقارنًا لخلقهم ,
وحينئذ فقولهم: إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط. كلام باطل كيفما
قدر.
وأما ما ذكر عن رابعة من قولها عن البيت: (إنه الصنم المعبود في الأرض) ,
فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله - لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب، وإلا
قتل. وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف
به والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: (والله ما ولجه الله ولا خلا منه)
كلام باطل عليها. وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا
المعنى؛ فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت؟
(وقول القائل) : (ما ولج الله فيه) , كلام صحيح، وأما قوله: (ما خلا
منه) ، فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى - فهو باطل وهو مناقض
لقوله: ما ولج فيه. وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له , لم يتجدد له ولوج،
ولم يزل غير حال فيه , فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب أن لا يكون للبيت مزية
على غيره من البيوت؛ إذ الموجودات كلها عندهم كذلك.
وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا في خلقه ظاهرًا ... في صورة الآكل الشارب
فهذه قد تعين بها الحلول الخاص كما تقوله النصارى في المسيح , وكان أبو
عبد الله بن خفيف الشيرازي قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج يذب عنه , فلما
أنشد هذين البيتين , قال: لعن الله من قال هذا. وقوله:
عقد الخلائق في الإله عقائدًا ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
فهذا البيت يعرف لابن عربي , فإن كان قد سبقه إليه الحلاج , وقد تمثل هو به
فأضافته إلى الحلاج صحيحة , وهو كلام متناقض فإن الجمع بين النقيضين في
الاعتقاد في غاية الفساد , والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم
من صدق إحداهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما , وهؤلاء يزعمون أنه يثبت
عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل , وأنهم يقولون: بالجمع بين النقيضين
وبين الضدين , وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول.
ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة، ومعلوم أن الأنبياء
عليهم السلام أعظم من الأولياء , والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته ,
ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه , فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات
العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين
النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح , ولا
ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام , يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها
فيظنونها ثابتة في الخارج , وإنما هي من خيالاتهم والخيال الباطل يتصور فيه ما
لا حقيقة له، ولهذا يقولون: أرض الحقيقة هي أرض الخيال. كما يقول ذلك ابن
عربي وغيره , ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن
الفارض وكان من شيوخهم. وأما قوله:
بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني ... فارفع بحقك إني من البين
فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة: يقوله الزنديق، ويقوله الصديق، فالأول
مراده به: رفع ثبوت إنيته , حتى يقال: إن وجوده هو وجود الحق , وإنيته هي
إنية الحق، فلا يقال: إنه غير الله ولا سوى. ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة: إن
الحلاج نصف رجل؛ وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى فرفعت له صورة، فقيل:
وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد فهو متناقض ينقض بعضه بعضًا , فإن
قوله: (بيني وبينك إني تزاحمني) خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه ,
وهذه إثبات أمور ثلاثة , وكذلك يقول: (فارفع بحقك إني من البين) طلب من
غيره أن يرفع إنيته , وهذا إثبات لأمور ثلاثة.
وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد , وهو الفناء عن وجود السوى , فإن هذا
فيه طلب رفع الإنية وهو طلب الفناء، والفناء ثلاثة أقسام: فناء عن وجود السوى،
وفناء عن شهود السوى , وفناء عن عبادة السوى , فالأول هو فناء أهل الوحدة
الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج , وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا، وأما
الثاني - وهو الفناء عن شهود السوى - فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين
كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله، وهو مقام الاصطلام , وهو أن يغيب بموجوده عن
وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيظن
من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن رجلاً كان يحب آخر , فألقى
المحبوب نفسه في الماء , فألقى المحب نفسه خلفه , فقال: أنا وقعت فلم وقعت
أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني. فهذا حال من عجز عن شيء من
المخلوقات , إذا شهد قلبه وجود الخالق , وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين ,
ومن الناس من يجعل هذا من السلوك , ومنهم من يجعله غاية السلوك حتى يجعلوا
الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور والمحبوب
والمكروه، وهذا غلط عظيم غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود
الشرع والأمر والنهي وعبادة الله وحده وطاعة رسوله , فمن طلب رفع إنيته بهذا
الاعتبار , لم يكن محمودًا على هذا، ولكن قد يكون معذورًا.
((يتبع بمقال تالٍ))