للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الإصلاح اللامركزي
وطلابه في البلاد العربية

تألف حزب اللامركزية بمصر لمطالبة الدولة بتغيير شكل إدارتها في المملكة
كلها - وإن كان جميع مؤسسيه من العرب السوريين - لأنهم يريدون الحياة للدولة
كلها لا لبلادهم فقط، ولو طلبوا الإدارة اللامركزية لبلادهم وحدها لَمَا كان ذلك أنفع
لهم ولا أرجى لقبول طلبهم، إذ رضاء الدولة بجعل إدارة بعض ولاياتها مركزية
وبعضها غير مركزية بعيد عن العقل والتصور، وتألفت في أثناء ذلك الجمعية
الإصلاحية ببيروت لطلب إصلاح معين لولاية بيروت خاصة.
وتلتها جمعية في البصرة لطلب الإصلاح لولاية البصرة خاصة. وما حفز
العرب في هذه المواضع وأهاب بهم إلى طلب الإصلاح والدولة تئن من أثقال
الحرب البلقانية التي غلبت فيها على أمرها، إلا لخوفهم أن يكون بقاء الخلل السابق
سببًا لانحلال الدولة وتقسيم الدول لها بالفتح السلمي الاقتصادي أو الاحتلال
العسكري.
ولمّا رفعت هذه الجماعات أصواتها بطلب الإصلاح رددت صداه جماعات
المهاجرين السوريين في أمريكا الشمالية والجنوبية وفي أوربا، واقترح بعض مَن
في باريس منهم تأليف مؤتمر عربي بباريس لإعلان مقاومة كل احتلال أجنبي في
البلاد وللبحث في حقوق العرب في الدولة العثمانية وللمطالبة بها. وعهدوا إلى حزب
اللامركزية إدارة هذا المؤتمر، فاختار الحزب للقيام بذلك كلا من السيد عبد الحميد
الزهراوي وإسكندر بك عمون، ورشح الأول لرياسة المؤتمر على أن يكون بانتخاب
أعضاء المؤتمر، وكذلك كان. وكان من أمر انعقاد المؤتمر ونجاحه واهتمام حكومة
الآستانة به ما هو مشهور.
شعر أركان الحكومة الاتحادية بوجود العرب وعنوا بمبادلة الاحتفالات بينهم
وبين مَن في الآستانة من العرب وأكثرهم طلبة المدارس الأميرية. وسعوا لاستقدام
الوفود من سوريا، واحتفلوا واحتفوا بمَن ذهب منهم إلى الآستانة، وأدبوا لهم
المآدب، وأحبوا التأليف بين طلاب الإصلاح ومَن عارضهم وشنع عليهم تزلفًا
للحكومة، ولكن لم يتم لهم هذا. وكانت هذه المظاهرات التي اهتم بها أهل الآستانة
تذكر بالسخرية في غيرها، ويعدها العرب في مصر وسورية والعراق وفي البلاد
الأجنبية خداعًا وتحذيرًا.
وأمّا الأمر الذي كان محل النظر، وموضع الأمل عند بعض العرب، فهو
الاتفاق الذي عقدته جمعية الاتحاد والترقي مع رئيس المؤتمر العربي، وأعطته
العهد والميثاق لتنفذنه كله. وهو مؤلف من اثنتي عشرة مادة. ولهذا مكث رئيس
المؤتمر بضعة أشهر في باريس ينتظر تنفيذه، وكانت الآستانة تجذبه إليها وحزب
اللامركزية يجذبه عنها، حتى اختار الحزب أخيرًا أن يعود إلى مصر، وأن يمر
بالآستانة مختبرًا إذا شاء، فشاء وجاء الآستانة، وراجع رجال الحكومة في أمر
تنفيذ الإصلاح الموعود به، فقالوا: إننا على عهدنا، وقد بدأنا من التنفيذ بإنشاء
مدرستين سلطانيتين باللغة العربية إحداهما في دمشق والأخرى في بيروت،
وبتقرير جعل عسكر كل ولاية في منطقتها العسكرية، وبجعل اللغة العربية رسمية
في المحاكم ودواوين الولايات العربية، وباختيار الموظفين لهذه الولايات من
العارفين باللغة العربية.
وأما ما يتعلق بالنافعة والأوقاف والمعارف فهو يتوقف على وضع القوانين له
ونحن شارعون في ذلك بتنقيح قانون الولايات ووضع قوانين أخرى، ثُم إن تنفيذ
بعض ذلك يتوقف على وجود المال، ولا مال الآن. وأمّا المناصب والوظائف في
مجلس الأعيان ومصالح الحكومة العليا؛ فهَلُمّ ساعدنا على اختيار الأكْفاء لها لنعينهم
بالتدريج.
هذا ملخص ما نتذكره من معنى أجوبة الحكومة للسيد الزهراوي بعد مراجعات
متعددة، ووعود مبهمة، كان فيها بين اليأس والرجاء مدة طويلة، حتى عزم على
مغادرة الآستانة. ثم شرعت الحكومة في تنفيذ ما لا يتوقف على القوانين ولا المال
من المطالب بالمشاورة معه، ومنها تعيين ستة أعضاء من العرب في مجلس
الأعيان؛ أحدهم السيد الزهراوي نفسه، إذ اقتضت الحال أن يكون في الآستانة
مراقبًا لتنفيذ سائر ما وعدت به الحكومة من الإصلاح، ومنها تعيين الشيخ إسماعيل
الحافظ من علماء طرابلس الشام عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وهو في
الذروة العليا من نابغي العرب علمًا وعملاًَ وأخلاقًا وعقلاً ورأيًا واستقامةً. ومنها
تعيين عبد الوهاب أفندي الإنكليزي (لقبًا لا نسبًا) وشكري أفندي العسلي مفتشين
في بعض الولايات، وهما من أشهر نابغي العرب من سلك الحكومة الملكي
المستحقين للمناصب العالية. ومنها تعيين أناس آخرين في (الدوائر) العالية في
العاصمة.
وكان رجال الآستانة قبل هذا قد أرضوا بعض رجال جمعية بيروت
الإصلاحية بالوعود الجميلة فسكنت حركتها بالتدريج، واستمالوا السيد طالب بك
النقيب زعيم البصرة، فأعلن في الجرائد الرضاء عن الحكومة والاتفاق معها وتبرع
للأسطول العثماني وجمع له مالاً كثيرًا.
ثُم إن حزب اللامركزية رأى من الصواب أن يحفظ صلته بالسيد الزهراوي
كما حفظ هو صلته بالحزب بعد قيامه بما عهد إليه خير قيام، حتى إنه لم يحل ولم
يرحل، ولم يحلّ ولم يقعد إلا باستشارة الحزب، ولأن زعماء الحزب يثقون كل
الثقة بصدقه في القول وبإخلاصه في العمل لمصلحة الأمة، فهو بهذا خير من
يوقفهم على أعمال حكومة العاصمة فيكونون على بصيرة منها، فلا يبنون عملهم
وسعيهم على الظنون والأوهام، فقرر الحزب باتفاق الآراء إقرار السيد الزهراوي
على قبول منصب الأعيان والثقة به، أي في التوسط لدى الحكومة بمطالب
الإصلاح.
فعل الحزب هذا وهو غير موقن ولا مرجح لإنجاز الحكومة ما وعدت به
السيد الزهراوي، كما أنه غير موقن بأنها لا تنجزها، فكانت الحكمة في عدم قطع
الصلة بالحكومة، ومطالبتها بالبرهان والحجة، على كون الحزب لا يألو جهدًا في
السعي إلى الإصلاح من طريق الأمة، فهو يسلك الطريقين إلى مقصده، فإذا لم
يصل مِن أحدهما وصل من الآخر.
اتفق أن الحزب لم ينشر شيئًا جديدًا بعد بيانه العام الذي نشره يوم المظاهرة
البرقية السلمية، يطلب البلاد كلها للإدارة اللامركزية؛ لأنه لم يتجدد شيء جديد
يدعو إلى النشر، فظن البعداء عن مركز الحزب والذين ليس لهم صلة مكاتبة به،
أن الحزب قد سكن وسكت أو انحل كجمعية بيروت وجمعية البصرة. وأنه رضي
من الحكومة بما قالت وما فعلت، وطفقت الجرائد العربية في أمريكة تطعن في
الحزب وفي طلاب الإصلاح كافة، وزعماء بيروت منهم خاصة.
يدخل الكلام بهذا الموضوع في أربع مسائل: الجماعات الإصلاحية،
والمعترضون عليها الآن، وما يعترضون به، والحالة الحاضرة. ولنا في كل
مسألة منها قول وجيز.
أما الجماعات الإصلاحية فثلاث كما تقدم: جماعة حزب اللامركزية وهي
تعمل للمملكة كلها وإن كان العاملون فيها عربًا، وتأثير عملها الأول في البلاد
العربية. ومتى وجد الإصلاح في البلاد العربية يوجد في غيرها حتمًا إما سابقًا وإما
لاحقًا، وجماعة بيروت وجماعة البصرة، ومطالب كل منهما موضعية، ولكن
زعماءهما متفقون مع حزب اللامركزية في مطالبه العامة كلها، إذ النسبة بينه
وبينهما كالنسبة بين الخاص والعام فلذا سكتت الجماعتان اليوم عن مطالبهما العامة
لأسباب اقتضت ذلك، فذلك لا ينفي بقاء اتفاق أهل الرأي منهما مع حزب
اللامركزية في المطالب الإصلاحية العامة، وإن لم يساعده على ذلك جميع أفرادهما
في الشكل الأول، فقد يساعده كثير منهم في شكل آخر. والحق الواقع أن الحزب
الآن أقوى ناصرًا وأكثر عددًا ممّا كان عليه من قبل، خلافًا لما يتوهمه البعيد عنه،
فقد تشعبت شعبه وكثرت فروعه في الولايات، ورسخت مقاصده في النفوس، وقد
قويت الآمال فيه، وانحصر رجاء الولايات في سعيه، وإن صلة السيد الزهراوي
به لم تزد رجاء الولايات فيه الا قوة وثباتًا، وإن كان أهل الرأي من شعبه ولجانه
فيها متفقين مع إخوانهم الذين في مصر على كون ما منت به الحكومة على العرب
لا يعد شيئًا مذكورًا في جانب مطالب الحزب، ولا ينبغي أن يزيده إلا جدًّا واجتهادًا
في السعي.
وأما المعترضون فمنهم المخلص الذي لا علم له بدخائل الأمور وحقائقها،
ومنهم المخلص المطلع الذي يريد بالاعتراض حفز الهمم والحث على الإسراع في
العمل، ومنهم من لا حظ له من المطالبة بالإصلاح إلا التلذذ بمقاومة الدولة
العثمانية والتهويش عليها، وهو لا يرجو لها ولا منها صلاحًا، ولا يحب لها بقاءً،
فهو نصير المتألبين عليها، وظهير المقاومين لها، وعدو الراضين منها، كيفما
كانوا، وبأبهى شكل ظهروا، ومراده أن تستولي الدول الأوربية عليها ولا يرضيه
ما دون هذا. ومنهم من لا يسهل معرفة قصده، ولا حقيقة مراده. فأما المخلصون
في طلب الإصلاح فلا يلبثون أن يرجعوا عن إنكارهم، وغير المخلصون لا علاج
لهم.
وأغرب ما رأى الحزب من المعارضة والمقاومة وأبعده عن المعقول ما كان
من أحد كتاب نصارى السوريين الذين انتموا للحزب. فقد حضر كثيرًا من جلسات
اللجنة العليا بطريق الاستثناء، كان يلقي فيها دلوه بين الدلاء، فينفرد بالمعارضة،
ويلح بطلب جعل المصالح والمنافع قسمة بين المسلمين والنصارى، وقد اتفق
الفريقان على إنكار هذا الرأي وضرر هذه القسمة، وكونها تكون مثار النزاع
والتخاصم والعداوة والبغضاء، ويجزم أهل العلم والرأي من النصارى بأن ضرر
هذه القسمة عليهم أشد، وأن السكوت عن كل ما يتعلق بالدين والمذاهب خير لهم
وأنفع؛ ولكن هذا الكاتب الذي كان ينكر ذكر الدين في أمور السياسة وشؤون الدنيا
بث فكره هذا بما نشره في بعض جرائد مصر وأمريكة، ونفّر نصارى المهاجرين
في أمريكة مِن الحزب، ونهاهم عن مساعدته باسم المسيحية وحقوق المسيحيين
وهضم المسلمين لها، حتى إنه كتب في جريدة الهدى الأمريكية التي تعنى بنشر ما
يكتبه: إن صاحب المنار أنكر على مسلمي بيروت اتفاقهم مع نصاراها على جعل
نصف أعضاء المجالس المحلية من المسلمين والنصف الآخر من غيرهم. وهي
دعوى غير صحيحة، فإن المنار أنكر من لائحة جمعية بيروت الإصلاحية أكثر ما
أعطته للمفتشين والمراقبين من الأجانب، ولم ينكر مسألة المناصفة في المجالس؛
بل عدها دليلاً على إخلاص المسلمين وصدقهم الاتفاق مع النصارى؛ لأنهم تنازلوا
لهم عن بعض حقوقهم.
وأما الانتقاد والطعن الذي صوّب إليهم فهو أن الترك أرضوهم ببعض
المناصب والوظائف، فظهر أن طلب الإصلاح كان شبكة لصيد المنافع، ويحتجون
على هذا بأن المؤتمر العربي قد قرر أن لا يقبل أحد من المنتمين إلى لجان
الإصلاح العربية أي منصب في الحكومة العثمانية إذا لم تنفذ القرارات التي صادق
عليها - إلا بموافقة خاصة من الجمعيات المنتمين إليها. وخص بأشد الانتقاد السيد
الزهراوي وعميدي المسلمين والنصارى في جمعية بيروت الإصلاحية - محمد
أفندي بيهم ونخلة بك سرسق؛ إذ قبلوا أن يكونوا أعضاء في مجلس الأعيان قبل
تنفيذ الإصلاح في البلاد العربية.
ولهؤلاء الثلاثة ثلاثة أجوبة يردون بها تلك المطاعن:
(أحدها) : إن الحكومة قد شرعت في تنفيذ الإصلاح ولا يعقل أن لا يقبل
العرب طلاب الإصلاح منصبًا ولا عملاً فيها إلا بعد تنفيذ الإصلاح كله بأيدي
الترك ومقاومي الإصلاح من العرب، كأننا نقول: إننا بعد أن يصلح لنا هؤلاء
بلادنا نقبل المناصب والوظائف فيها!
(الثاني) : إن عضوية الأعيان لا تعد وظيفة أو منصبًا في الحكومة؛ لأن
عمل الأعيان كعمل المبعوثين (النواب) : وضع القوانين ومراقبة الحكومة في
تنفيذها، فهو سيطرة على الحكومة لا خدمة لها.
(الثالث) إن اللجان الإصلاحية التي تنتمي إليها قد وافقت على أن تكون في
مجلس الأعيان. وأمّا الذين قبلوا المناصب في غير مجلس الأعيان فيمكن لمن كان
منتميًا إلى بعض لجان الإصلاح أن يجيب بالجواب الأول، وهو جواب ضعيف إذا
لم يعززه الثالث.
سواء على حزب اللامركزية اقتنع المنتقدون والطاعنون بهذه الأجوبة أم لم
يقتنعوا، فإن لجنة الحزب العليا لم تدخل في باب المناصب والوظائف، وقد دعي
رئيسه (رفيق بك العظم) إلى الآستانة مرارًا قبل ذهاب الزهراوي إليها وبعده -
وكان لا يزال مرشحًا لمنصب الوزارة - فلم يجب الدعوة، والسيد والزهراوي -
وإن حضر تأسيس الحزب - لم يحب أن يدخل في لجنته الإدارية ولا في الانتخاب
لها؛ لأنه جاء مصر زائرًا لا مقيمًا. ولكن مكانته العالية من نفوس لجنة الحزب
العليا، ومن نفوس سائر طلاب الإصلاح في سورية وغيرها هي التي حملت اللجنة
على اختياره للمؤتمر، ثُم إن حسن سلوكه في المؤتمر، وبثباته بعد إتمام عمله فيه
على السعي إلى الإصلاح مع الارتباط بالحزب وتقيده بقراراته، وانقطاعه عن كل
عمل لأجله، على كونه ينفق من مال نفسه - وناهيك بسعة النفقات في أروبة - كل
ذلك كان من الأسباب الجديدة لرضاء الحزب بقبوله لمنصب عضوية الأعيان
والتوسط لدى الحكومة في الإصلاح، وأما السبب الأول فهو كفاءته الشخصية في
صدقه وإخلاصه وتاريخه الحميد النقي، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
بقيت (المسألة الرابعة) وهي بيان حالة الحزب الحاضرة. والقول الوجيز فيها
أن الحزب - وإن لم يسمع له صوت عالٍ من عدة أشهر - قد أصبح أقوى مما كان،
منذ أسس إلى الآن، فقد كثرت فروعه في الولايات وانتظمت، وقويت الثقة به
وثبتت، وانحصرت آمال طلاب الإصلاح فيه أو كربت، ويصح أن يقال: إن
طوره الأول كان طور تمهيد للعمل بإعداد الأفكار، ثم بتأليف اللجان، وقد انتهى
الآن بطور القيام بالأعمال، وإن قيامه بالعمل، واضطلاعه بالسعي، هو خير
خدمة للدولة قبل الأمة، لما أثبته الماضي لرجاله من الرؤية وحسن النية، فكانت
المصلحة في أن يدير هو الحركة، لئلا تفضي إلى الفوضى، أو يتغلب عليها الغلاة
المتطرفون، الذين ظهرت في مدة سكوته أصواتهم بنغمة الثورة، وتوزيع
منشورات أقلقت الحكومة وعقلاء الأمة. ويقال: إنه يريد أن يبدأ عمله بجمع مؤتمره
السنوي وتجديد انتخاب أعضاء اللجنة العليا، وعرض المشروعات الجديدة للعمل
عليها، ومنها تحويله إلى جمعية، إذ لم تصدق عليه الحكومة، فقد اقترح هذا
كثيرون. وعسى أن تكفيه الحكومة هذا الأمر، فتبادر إلى الإصلاح من تلقاء نفسها
والله الموفق.