(المؤتمر والملك والحكومة) إن الرأي الذي كان مستقرًّا في ذهن الملك فيصل أن ينفض المؤتمر السوري بعد إعلانه للاستقلال، وأن تؤلف لجنة تضع مشروع القانون الأساسي، وقانون انتخاب المجلس النيابي، وبعد إتمامهما تشرع البلاد في انتخاب النواب؛ ولكن إخواننا أعضاء حزب الاستقلال العاملين لم يوافقوه على هذا الرأي، بل أجمعوا على بقاء المؤتمر وقيامه بعمله إلى أن يتمه، وينتخب المجلس النيابي ويجتمع، وما كان فيصل ليخالفهم فيما يتفقون عليه، بل كان يواتي أفراد الأذكياء منهم الذين يكثرون لقاءه في أمور يتعارضون فيها كالعصابات. فكان من ذلك وقوع ما ساء صديقته إنكلترة في فلسطين فوق ما يسوء فرنسة في سورية ولبنان، وعلى كونه متفقًا مع حكومة فرنسة على قواعد علاقته معها في سورية، وما عاد من باريس إلى سورية إلا ليحمل منها التفويض الذي يخوله حق إمضائها كما تقدم، وقد قبل إعلان الاستقلال والمبايعة معتقدًا أنه يكون أقدر على الاتفاق معها - وهو ملك - فكان مصرًّا على رأيه في العودة إلى فرنسة بعد إرضاء أهل الرأي بذلك، وكان رأيي ورأي الشيخ كامل قصاب تقييده في ذلك بما لا يرضيه، وسأعود إلى الكلام في هذه المسألة. تقرر بقاء المؤتمر، وأن يتولى وضع القانون الأساسي للدولة السورية، وكان أول اختلاف في الرأي حدث بيني وبين الملك فيصل وحكومته أن المؤتمر قرر أن تقدم له الوزارة بيانًا بالسياسة التي تجري عليها، وتطلب منه اعتمادها، فعرض رئيسها علي رضا باشا الركابي الأمر على جلالته فغضب، وقال: إنه ليس للمؤتمر حق في هذا الطلب، وإنه لا يأذن للحكومة أن تكون تحت سيطرة مؤتمر أكثر أعضائه شبان أغرار لا رأي لهم ولا شأن. ورأيت أن المؤتمر مُصِرّ على تنفيذه قراره، وأن الملك مُصِرّ على رفضه، وأن هذا أول شقاق في حكومتنا الجديدة يجب تلافيه، لما يُخشى من قبح أحدوثته، وسوء عاقبته، فزرت جلالته زيارة خاصة لأجل إقناعه بذلك، فكان أول ما حدثني به: ما رأيك فيما قرره المؤتمر في مسألة الوزارة؟ قلت: فوجئنا بهذا الاقتراح في الجلسة مفاجأة فكرهته؛ لأن مثله يجب التمهيد له بالبحث وإجالة قداح الرأي فيه فإنه ذو وجهين: إما جعل الوزارة مستبدة، لا يحاسبها على عملها محاسب في حكومة جديدة ليس لها تقاليد راسخة، وإما سيطرة مجلس كمؤتمرنا أكثر أعضائه من الشبان الأغرار الذين تغلب عليهم الحماسة وحكم الشعور، وكنت أميل إلى تأجيل الاقتراح لأجل تمحيص حزبنا له، فلم أوفق لذلك؛ لأن الأكثرين قبلوه بمنتهى الارتياح، وحسبوه من الضروريات، وامتنعت من التصويت له بدون بحث سابق حتى إن بعضهم أمسكوا بيدي عند أخذ الرأي لأجل رفعها فأبيت. قال: وما رأيك فيه الآن؟ قلت: رأيي إنه لا يمكن الرجوع عنه بعد وقوعه فلا بد من تنفيذه. قال: أنا لا أقبل أن أعطي هذه السلطة لهذا المؤتمر، إنه ليس بمجلس نيابي قلت: بل هو أكبر من مجلس نيابي (وفي هذه الأثناء كان قد حضر إحسان بك الجابري رئيس الأمناء له فقال وهو واقف: إن هذا المؤتمر يا مولاي جمعية تأسيسية) . قال الملك: إنه لا شأن له، وأنا الذي أوجدته. قلت حينئذ: بل هو الذي أوجدك، إنك كنت قبله قائد جيش الشرق التابع للورد اللنبي القائد العام للجيش الإنكليزي، فجعلك هذا المؤتمر ملكًا لسورية، وإننا لا ننكر أن لك فضلاً عظيمًا بمساعدة حزب الاستقلال العربي على جمع المؤتمر؛ ولكن المؤتمر قد اجتمع، وأثبت أنه ممثل للشعب السوري وموضع ثقته، وأيده زعماء البلاد من علماء الدين والرؤساء الروحيين والزعماء والوجهاء، ونيط به إعلان استقلال سورية الطبيعية التام المطلق، وجعلها حكومة ملكية نيابية، وشرع في وضع قانون أساسي لها بموجبه يكون لها مجلس نيابي منتخب. فهو الآن مجلس تأسيسي تشريعي يجب أن يكون له الإشراف على هذه الحكومة إلى أن يتم عمله، ويكون للبلاد مجلس نيابي يحل محله، فهل يصح أن يغمط حقه، وأن يقع الشقاق بينه وبين الحكومة من أول وهلة، فنكون مضغة في الأفواه، وحجة للأجانب على أنفسنا بأننا لا نصلح للاستقلال؟ هذا ما لا ترضاه يا مولاي. بعد هذا قنع جلالته، وأذن لرئيس الوزارة علي رضا باشا الركابي بكتابة البيان المطلوب، وإلقائه في المؤتمر ففعل. (تنظيم قوى العشائر والقبائل السورية) ذكرت في النبذة السادسة من هذه الترجمة أنني اقترحت على الإخوان وجوب إعلان استقلال سورية؛ ليكون الحلفاء أو الإنكليز والفرنسيس فيها أمام ما يسمونه (بالأمر الواقع) في وقت كانوا لا يزالون فيه مختلفين في تقسيم البلاد العربية وتحديد نصيب كل منهم فيها. وكنت أعتقد أنه إذا لم يكن للبلاد قوة دفاع تعتمد عليها في حفظ الاستقلال؛ فإنه لا يكون لهذا الأمر الواقع قيمة عندهم، ولا يحسبون لأهلها أدنى حساب في أمرهم، وأن من المتعذر أن تؤسس البلاد قوة عسكرية يؤبه لها في الدفاع عنها، وإنما غاية الممكن من هذه الناحية أن تكون لها قوة تكفي لحفظ الأمن الداخلي، وتنفيذ النظام فيها، وتكميل مظهر الدولة، وأبهة الملك في نظر دهماء الأمة. وأما الدفاع الممكن للاعتداء الخارجي الذي يعتد به، فهو ما يسمى الوطني أو الأهلي، وهو يتوقف على تنظيم جميع قوى القبائل والعشائر المنتشرة فيها من الصحراء إلى ساحل البحر. فأما قبائل أعراب البادية من هؤلاء فكلهم مسلحون؛ ولكن بأسهم بينهم شديد فهم لا يفتؤون يتقاتلون لأدنى الأسباب، وليس لهم مرجع وحدة، ولا وازع قوة في وردهم وصدرهم، وكان من الممكن أن يفيؤوا إلى وازع الحكومة السورية المستقلة ويدينوا لملكها، وقد رأينا شيوخهم قبل الاستقلال وبعده يكثرون الاختلاف إلى باب الأمير، فالملك فيصل، ولا سيما الشيخ نوري الشعلان وهو شيخ قبائل الرولة أقوى قبائل صحراء الشام وأعزهم نفرًا. وأما العشائر المقيمون في داخل البلاد وأكثرهم متحضرة فلا تجمعهم عقيدة ولا نسب، ولا رابطة تربية ولا مصلحة، ولكنهم أدنى إلى النظام وطاعة الحكومة الوطنية من أعراب البادية، ومنهم الدروز والنصيرية من باطنية الشيعة، والدنادشة والجراكسة من مذاهب السنة، ويمكن توجيههم كلهم إلى دفع العدوان الأجنبي عن وطنهم المشترك، ويكون سائر الأهالي عونًا ومددًا لهم. اقترحت على جلالة الملك فيصل وضع نظام لقوة كل قبيلة، وكل عشيرة في موضعها يقرر فيه ما يحتاج كل منها من السلاح والذخيرة والنفقة لتشكيل العصابات عند الحاجة إلى الدفاع، وجعلها تابعة لهيئة من الضباط السوريين أركان الحرب، وتخصيص مبلغ من المال لذلك، وما كان هذا المبلغ ليزيد في أول الأمر عما كان يبذله في سبيل العصابات السرية التي كان ضرها أكبر من نفعها، فاستحسن المشروع كما كان يستحسن غيره مما يعرض عليه؛ ولكنه لم يعطه حقه من الإكبار والاهتمام، والسبب الخفي لهذا أنه كان يعتقد أن مستقبل سورية رهين بالاتفاق مع فرنسة على الوجه الذي تقرر بينه وبين وزيرها كلمنصو، وأحالني فيه على رئيس الوزارة صديقي علي رضا باشا الركابي، فكان رجائي في إكباره له أكبر من رجائي في الملك الذي كنت راضيًا منه بقبوله، فأظهر الوزير لي من الاستحسان ما كنت أحب؛ ولكنه كان يُسَوِّف في تنفيذه بكثرة الشواغل بتأسيس الحكومة والخلاف بينها وبين المؤتمر حتى انتهى ذلك. كنت أكلم كلاًّ من جلالة الملك ودولة الوزير في ذلك منفردًا فيعد، حتى إذا التقيت بهما مجتمعين رجوت الملك أن يصدر أمره الرسمي للوزير بتنفيذه فأمر، فسألت الوزير بعد أيام عما فعل، فقال إنه قرر تخصيص مبلغ شهري قدره خمسة وعشرون جنيهًا ليكون راتبًا لمدير المكتب الذي ينظر في تنفيذ المشروع. فساءنى هذا الجواب، وقلت له: إن الأمر أكبر من هذا المكتب، ومديره وراتب مديره، وإنه يجب أولاً أن تؤلف له لجنة من أعلى الضباط الوطنيين معرفة وهمة لينظروا في المشروع مع بعض أهل الرأي، ويجب عليهم أن يدرسوا كل ما كتب في اللغة التركية واللغات الأجنبية في نظام العصابات البلقانية وعشائر الأفغان التي نظمها الأمير عبد الرحمن خان وغيرها، ليضعوا نظامهم في ضوء ساطع، ويقدروا له الميزانية الموقتة للتنظيم، والمال الاحتياطي الذي يتوقف عليه العمل إذا هوجمت البلاد، واقتضت الحال إضرام نار الدفاع في جميع الأغوار والأنجاد، ولا أعتقد أن المشروع سيُنَفَّذ إلا إذا أُلِّفَتْ هذه اللجنة وحضرت جلساتها بنفسي، فوعد بالنظر في ذلك؛ ولكنه لم ينظر، فعلمت أنه يرضيني بالكلام، ويجعل راتب الإدارة الجديدة معاشًا لأحد صنائعه، فزال ما كان عندي من الأمل فيه، وهو كل ما كنت أرجوه منه. والظاهر أنه لم يكن يعتقد بضرورته أو بفائدته؛ ولكن الثورة السورية التي حدثت بعد قد أثبتت لنا أن هذا المشروع لو تم لنلنا به ما نريد. (إسقاط وزارة علي رضا باشا الركابي) ثم كان من سيرة الركابي باشا أن سخط الملك فيصل عليه من ناحية، وسخط عليه أكثر رجال حزب الاستقلال العربي من ناحية أخرى، وعزم الملك على إسقاط وزارته، وقد كتبت في مذكرتي يوم الأحد ٦ شعبان ٢٥ أبريل (نيسان) ما نصه: اشتد سخط الملك فيصل من هذا الوزير لسوء تصرفه، ولما أحدثه من الشقاق في حزب الاستقلال العربي وجمعيته، وعزم على إسقاط وزارته لإخراجه وبعض وزرائها الضعاف الرأي والعزيمة، فأمر بتأليف لجنة سرية للنظر في تأليف وزارة جديدة، والركابي لا يزال يجلني ويبالغ في احترامي، وأسوأ ما ساءني منه مراوغته في مشروعي الأهم، وهو تأليف إدارة للعشائر والقبائل، وليس لي غرض شخصي أرجوه منه. اهـ. وكتبت في يوم الإثنين ٧ شعبان ٢٦ أبريل في هذا الموضوع: سمرنا البارحة عند إحسان بك الجابري مع الملك فيصل سمرًا مفيدًا لا ينسى، السمار: القَيْلُ (أعني الملك) ، وساطع (بك الحصري) ، وهاشم (بك الأتاسي) ، وعزت (دروزة) ، وعثمان (سلطان) ، وسعد الله (الجابري) ، وصاحب الدار (إحسان بك) ، وقد تحقق زوال ثقة الملك بوزارة الركابي. اهـ. وأقول الآن: كان موضوع ذلك السمر بيان حال وزارة الركابي، وما يشكى منها، وما يجب من استبدال غيرها بها، وما تجب مراعاته في ذلك، وإذ كانت الجلسة سرية لم أكتب شيئًا عما دار فيها ولا فيما بعدها لئلا تسقط مذكرتي مني أو تُسْرَق كما سُرِقَ دفتر مذاكرات الملك؛ فيطلع أحد عليها؛ وإنما كنت أذكر أسماء السامرين، وأعبر عن الملك بالقَيْل (بفتح فسكون) . وقد سمرنا الليلة التي بعدها في دار ساطع بك الحصري، وكان في السمار زيادة عمن ذكرت من حاضري ما قبلها، عبد الرحمن بك اليوسف، ويوسف بك العظمة، ويحيى بك حياتي الضابط المشهور، ولم يحضرها جلالة الملك، وقد اقترحت في جلسة بعدها عند إحسان بك أن يدخل في الوزارة الجديدة، الدكتور عبد الرحمن شهبندر، واستحسنت أن يكون يوسف بك رئيسًا لها، إذا كنا نريد أن تكون وزارة دفاع قوية، وكان قد رشح بالاتفاق، فقال الملك إنه يحب يوسف بك ويثق به؛ ولكنه لا يرى أن يكون رئيسًا للوزارة في سنه هذه، فيكفي أن يكون وزيرًا للحربية. (تشكيل هاشم بك للوزارة وانتخابي لرياسة المؤتمر) ولم يبد الملك لنا رأيه في الرئيس، حتى إذا ما انتهينا من رأينا في الأعضاء فاجأنا بإصدار أمره الرسمي لصديقنا هاشم بك الأتاسي بتشكيل الوزارة ففعل، واعتقدنا أن المرجح له عنده رويته وأناته تجاه حماسة العظمة وشهبندر، وما يرجو من مواتاته له، وعين الدكتور عبد الرحمن شهبندر وزيرًا للخارجية، ويوسف بك العظمة وزيرًا للحربية، فكان كل منهما أشد مواتاة لجلالته من هاشم بك. كان رضا بك الصلح وزير الداخلية في وزارة الركابي أقدم أصدقائي فيها، توثقت عرى الصداقة بيني وبينه في الآستانة سنة ١٣١٢ (١٩٠٩) فلهذا ولما له من المكانة في بيروت ساءني أن يظن أن خروجه كان برأيي، فالحق إنني لم أقترح إخراجه، وما يمكنني أن أدافع عنه، ولا عن علي رضا باشا الركابي. وقد ترتب على تشكيل هاشم بك الأتاسي للوزارة أن انتخبني المؤتمر السوري رئيسًا له في ١٦ شعبان ٥ مايو. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))