للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم

في يوم الجمعة ٦ ربيع الأول أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال
الاصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء الاجتماع
البشري، ألا وهو السائح الشهير، والرحالة الخبير، السيد الشيخ عبد الرحمن
الكواكبي الحلبي مؤلف كتاب (طبائع الاستبداد) وصاحب (سجل جمعية أم القرى)
الملقب فيه بالسيد الفراتي.
اختطفت المنية منا بغتة هذا الصديق الكريم، والولي الحميم، بل هدمت منا
الركن الركين، وقوضت أقوى الدعائم والأساطين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
لو كان الرثاء والتأبين من موضوع المنار لرثيته بما يليق بخَطْبِه العظيم،
وما كنت لأستعير المدامع لأستعبر القارئ والسامع، ولا لأستمدّ الرثاء من خيال
الشعراء، ولا الحزن من فؤاد الخنساء، وإنما أستملي القلب بعض ما يجد من
الكرب، فإنه ما أحزنني خطب كخَطْبِه، ولا أَمَضَّنِي كَرْب ككربه.
حزني عليه دوره مسلسل ... مهما انتهى إلى النفاد انقلبا
ولكنني أدع الرثاء والتأبين لأفاضل الشعراء المجيدين، وأذكر في المنار ما
يليق بموضوعه من خلاصة سيرة هذا الرجل؛ ليعلم القراء منها كيف يُنْبِت الشرق
الرجال العظام، وكيف تُضيّعهم الأمم والحكام، ولتكون ذكرى لمن يدَّكر، وعظة
لمن يعتبر، وأبدأ بترجمة الفقيد الرسمية وهي مطبوعة في ورقتين رسميتين
إحداهما مُصَدَّق عليها من والي حلب المشير عثمان نوري باشا ورؤساء حكومة
حلب يومئذ، والثانية مُصَدَّق عليها من الوزير رائف باشا والى حلب وهي الأخيرة
وإنما أبدأ بالسيرة الرسمية؛ لأنها من مواد استنباط سيرته الاجتماعية والسياسية
والأدبية وهذا تعريبها ملخصًا:
السيرة الرسمية
هو عبد الرحمن أفندي ووالده الشيخ أحمد أفندي من آل الكواكبي ومن
المدرسين في الجامع الأموي الكبير والمدرسة الكواكبية، وآخر وظيفة كان فيها
عضوية مجلس إدارة ولاية حلب. وبيتهم من بيوتات المجد والشرف (خاندان)
المشهورة في الأستانة العلية وحلب. ولد السيد عبد الرحمن أفندي الكواكبي في
٢٣ شوال سنة ١٢٦٥ وتعلم القراءة والكتابة في المدارس الأهلية الابتدائية، ثم
استحضر له أستاذ مخصوص عَلَّمَه أصول اللسانين التركي والفارسي. وتلقى
العلوم العربية والشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، وأخذ الإجازات من
علمائها ودَرَّس فيها. وهو يقرأ ويكتب بالعربية والتركية. وقد وقف على العلوم
الرياضية والطبيعية وبعض الفنون الجديدة بالمطالعة والمراجعة. ومن تأليفه تحرير
الجريدة الرسمية (فرات) بقسميها التركي والعربي في سنة ١٢٩٢ إلى سنة
١٢٩٧. ومنه جريدة الشهباء التي أنشأها في حلب سنة ١٢٩٣ وكان هو المحرر
لها.
خدمته ووظائفه:
دخل في وظائف الدولة رسميًّا في الثامنة والعشرين من عمره وفي سنة ١٢٩٣
عُيِّنَ محررًا رسميًّا للجريدة الرسمية بقسميها (كأنه كان في سنة ١٢٩٢ يحررها
بصفة غير رسمية للاختبار) براتب قدره ثمانمائة قرش. وفي ٥ ربيع الأول سنة
١٢٩٥ عُيِّن كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف التي تأسست في ولاية حلب (يعنون بالفخري
ما كان بدون راتب) . وبعد ثلاث سنين اتسعت دائرة اللجنة وزيد فيها قسم النافعة
(الأشغال العمومية) وعين عضوا فخريًّا فيها. وفي ٢ جمادى الأولى تعين محررًا
للمقاولات (مسجل المحكمة) وفي ١٦ ربيع الثاني سنة ١٢٩٨ صار مأمورالإجراء
(رئيس قلم المحضرين) في ولاية حلب. وفي ٧ رمضان سنة ١٢٩٨ عين
عضوًا فخريًّا للجنة (قومسيون) النافعة. وفي ٢٢ ذي القعدة سنة ١٢٩٩ عين
بأمر نظارة العدلية (الحقانية) في الآستانة عضوًا في محكمة التجارة بولاية حلب
مع البقاء في وظيفته الأولى (محرر المقاولات) وفي سنة ١٣٠٣ انفصل من هذه
الأخيرة وفي ٤ رجب سنة ١٣٠٤ عاد إلى وظيفة مأمور الإجراء، وفي ٢٣ رجب
سنة ١٣١٠ عُيِّنَ رئيسًا للبلدية.
إلى هنا انتهت وظائف الترجمة الرسمية الأولى، وجاء في الثانية بعد ذكر ما
تقدم أنه في ٢٩ من ربيع الأول سنة ١٣١٢ عين رئيس كُتّاب المحكمة الشرعية في
حلب (باشكاتب) بقرار من مجلس النواب في دار السعادة. وفي ٢٨ ذي الحجة
سنة ١٣١٢ عين ناظرًا ومفتشًا لمصلحة انحصار الدخان (الريجي) المشتركة مع
نظارة المالية في ولاية حلب ومتصرفية الزور، وفي أثناء ذلك اتفق مع إدارة
المصلحة وتعاقدا على أن يستلم من المصلحة جميع ما تقدمه من الدخان (التبغ)
إلى الولاية المتصرفية بزيادة كثيرة عن القدر المعتاد وجميع ما يزرع فيهما منه،
ويتولى بيعه، وتعهد في إزاء ذلك بمبلغ من المال يزيد عما كانت تبيع به المصلحة
دخانها زيادة كبيرة.
وفي غضون ذلك استقال من رياسة كُتَّاب المحكمة الشرعية ثم في ٩ ذي
الحجة سنة ١٣١٤ أعيد إليها وعين رئيسًا للجنة البيع والفراغ (أي استبدال
الأراضي الأميرية من أصحاب اليد بالمال) وفي ٧ ربيع الأول عين رئيسًا أولاً
لغرفة التجارة في حلب ورئيسًا لمجلس إدارة المصرف (البنك) الزراعي، وفي
٢٢ رجب عين قاضيًا شرعيًّا لراشيا التابعة لولاية سوريا.
رتبه ووساماته:
في ١٩ رجب سنة ١٢٩٧ وجهت إليه نيابة دروس أدرنة العلمية. وفي ٢٥
ربيع الثاني وجه إليه تدريس هذه الرتبة. وفي ٢٢ ذي الحجة سنة ١٣١٢ وجهت
إليه مولوية أزمير المجردة. وفي ٢٨ من جمادى الثانية أعطي الوسام المجيدي من
الدرجة الثالثة. اهـ
إن من ينظر في هذه الترجمة الرسمية ولم يكن عارفًا بالمترجم ولا بسيره في
هذه الوظائف العلمية الأدبية، الإدارية القلمية، الحقوقية التجارية، الزراعية
المالية يقول: إن صاحبها من أوساط الناس لا من أفراد الرجال الذين يعدون من
علماء الاجتماع وأركان العمران، ومهذبي الأمم كما وصف في فاتحة القول، ولكن
من يعلم أنه في كل عمل منها آية بينة في إتقان العمل، وحكمة التصرف، يحار
كيف يحسن رجل هذه الأعمل المتباينة. وإذا وقف بعد ذلك على بعض سيرته في
العزيمة وقوة الإرادة وعلم ما كانت تسمو إليه نفسه، ويرمي إليه فكره، وقرأ
بعض ما جادت به قريحته الوقادة، وفكرته النقادة، علم أنه من أفراد الزمان،
وأدرك ماذا كان يرجى منه لو ساعد الزمان والمكان، وإننا نلم بشيء مما وقفنا
عليه من سيرته في مدة صحبتنا له في هاتين السنتين اللتين أقامهما في مصر.
أدبه وأخلاقه:
توفيت والدة الفقيد وهو في أول سن التمييز فعهد والده بتربيته إلى خالة له
(من بيوتات أنطاكية) من نوابغ النساء اللواتي قلما يعرف مثلهن الشرق، لا
سيما في هذا الزمان، كانت تعرف بالعقل والكياسة والدهاء والأدب البارع فنشَّأته
على أدب اللسان والنفس فكان من أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة
والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة وحب الضعفاء. وقد كنت ككل من عرفه
معجبًا بأناته حتى كنت أقول: إنني أراه يتروّى في رد السلام ويتمكث في جواب
من يحييه عدة ثوان! ولا أكاد أعرف أخلاقًا أعصى على الانتقاد من أخلاقه ولقد
كان لسان الحال يصفه بقول ابن دريد:
يعتصم الحلم بجنبي حُبْوتِي ... إذا رياح الطَّيْش طارت بالحبي
لا يطبيني طمع مدنّس ... إذا استمال طبع أو اطَّبي
والحلم خير ما اتخذت جُنَّة ... وأنفس الأبراد من بعد التقى
علمه ومعارفه:
نزيد على ما جاء في السيرة الرسمية أن الفقيد درس قوانين الدولة درسًا دقيقًا،
وكان محيطًا بها يكاد يكون حافظًا لها وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم
الحقوق والشرائع، ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين. ولا أعلم أن برّز
في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فنُ يفْهَم، وعَقِل
بحيث إذا أراد الاشتغال به عملاً أو تأليفًا أو تعليمًا يتسنى له أن ينفع نفعًا لا ينظر
من الذين صرفوا فيه أعمارهم. ألا تراه كيف ألف كتابًا في طبائع الاستبداد لم
يكتب مثله فيلسوف في الشرق ولا في الغرب فيما نعلم وكما سمعنا من كثيرين لهم
اطلاع واسع في مؤلفات فلاسفة الغرب وكتابه.
على أن الفقيد لم يتعلم شيئًا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل
والفلسفة في مدرسة، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه فيها من المؤلفات
والجرائد التركية والعربية.
أرأيت عقلاً يتصرف هذا التصرف الذي يفوق فيه الحكماء والفلاسفة في علم
لم يأخذه بالتلقي وهو أصعب العلوم البشرية وأعلاها.
كيف يكون أثره لو تربى وتعلم في مدارس منتظمة كمدارس أوربا الجامعة
وكان عنده من مواد العلم ومعرفة الأمة والحكومة بقيمة صاحبه مثلما في أوربا.
وبالجملة إنك لم تكن تذاكره في شيء ولا علم إلا ويشاركك فيه على بصيرة.
عمله ووجهته:
كانت وجهة الفقيد في كل عمل عمله أو حاوله هي المنفعة العامة فأول شيء
ولاَّه وجهه هو إنشاء جريدة في بلاد لم تكن تعرف الجرائد الأهلية ولم تكن بضاعة
الكتب رائجة فيها ولو كان في بلاده حرية للجرائد لكان في (الشهباء) الأثر
المحمود، ولكن البلاد التي تحكم بالاستبداد كالأرض الموبوءة لا تحيا فيها الجرائد،
ولذلك لم تنجح جريدة من الجريدتين اللتين أنشأهما لأن نفسه الأبية لم تستطع إرضاء
الحكام فيما يكتب. وهكذا كان شأنه في وظائفه: ولي رياسة البلدية فكان أول عمل
عمله للبلدان أن وضع على طرق المدينة من خارجها سلاسل من الحديد تمنع الجمال
التي كانت تسدّ الطرقات وتمنع المارين من التردد في حوائجهم وجعل لهذه الجمال
التي تُحْمَل إلى البلد ومنه مكانًا أو أمكنة مخصوصة، وكانت مصلحة (القبان) قد
حصرت في واحد من الأغنياء يأخذها من البلدية بالالتزام ولا يتجاسر على الزيادة
عليه أحد لتقربه من الرؤساء فلما علم أن الرئيس الجديد لا يصدّه التقرب إليه عن خدمة المصلحة عرض عليه أربعين ألف قرش أو أكثر يعطيه إياها (رشوة) كل عام في مقابلة سكوته عنه فلم يقبل الفقيد أن يأخذ لنفسه شيئًا ولكنه قبل أن يكون المبلغ
إعانة لصندوق البلدية فعلم الوالي بهذه الزيادة في الصندوق وسعى في أن يكون له
سهم منها فأبى عليه الفقيد ذلك فعزله. وهكذا كانت سيرته مع الحكام في كل وظائفه
أو جلها: يتصدى للإصلاح فيصدونه عنه لأجل منفعة مالية أو لتقليل نفوذه فلا
يتم له عمل.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))