للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار

وعدنا في آخر المجلد السابع بأن نجيب على بعض الانتقادات التي وردت
علينا في العام الماضي ولم نتمكن من ذكرها والجواب عنها؛ لأن كثرة المسائل
العارضة اضطرتنا إلى الإرجاء، ولكننا نعجل الآن بذكر انتقاد جديد جاءنا من أحد
القراء الفضلاء الواقفين على كُنْه الحال في الجزائر وغيرها من مستعمرات فرنسا
قال بعد الثناء والتحية:
(قد اطلعت في العدد الرابع من المجلد الثامن من مجلة المنار الإسلامية
الغراء ما يأتي: وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من فرنسا في
مستعمراتها بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما بالعقل والحكمة
دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا وبالاًعليهم. وبعد
أن نظرت في هذا المقال أنا وأصحابي، وتأملنا فيه من جميع أركانه لم نجده إلا غلطًا
عظيمًا، ولم نظن قبل اليوم أن أهل الفضل مثل سيادتكم يقولون كلامًا مساعدًا
لإهلاك خمسة عشر مليونا من المسلمين معاونًا لسياسة الفرنسويين التعساء) .
ثم طفق يعدد سيئات لفرنسا في الجزائر كهدم المساجد وغصب الأرزاق
ومناهضة العرب ونصر اليهود ويبرئ ألمانيا من مثل ذلك ويذكرها بالثناء. وقال:
لا تغتر بكلام الموسيو لوسياني وغيره مع الأستاذ الإمام ولا بتجديد مدرسة لأربعة
ملايين، عدد تلامذتها عشرون، فإنه في عهد الحاكم الجديد جنار كثر الكذب
والتغرير واشتريت بعض الجرائد المصرية.. . بمائتي ألف فرنك لتكون عونًا له في
سياسته ضد الإسلام حول المغرب وتوليته عليه ... إلى ما آخر ما قال.
ونحن نخشى أن يكون فهمه لسياسة فرنسا كفهمه لعبارة المنار التي انتقدها فإنه
ليس الغرض منها إلا نصيحة المراكشيين بترك الغرور بالقبور وتوجيه العناية إلى
الاستفادة من تنازع ألمانيا وفرنسا على البلاد على حد قول الشاعر العربي:
تفرقت غنمي يومًا فقلت لها ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا
فإن كان يرى الفائدة في استيلاء ألمانيا على مراكش بغضًا بفرنسا فإنه يريد
يشفي غيظه بما يضر المسلمين ويذهب باستقلالهم كما كان بعض المصريين يفعلون
بالسعي لدى فرنسا لإخراج إنكلترا من مصر ولو أخرجتها لحلت محلها. فالذي نوده
نحن أن تبقى البلاد مستقلة ولكن مع سعي حكومتها وزعمائها في عمرانها وإلا كنا
طالبين للخراب والجهل الدائمين وهو طلب لا قيمة له عند الله ولا عند الناس
فالأرض يرثها من هو أصلح لعمارتها شئنا أم أبينا، سخطنا أم رضينا، وأما قولي:
إن ألمانيا شر من فرنسا فهو مبني على ما كان كُتِبَ إليَّ من مستعمرتها في شرقي
أفريقية كما بينت ذلك في الجزء الخامس (ص٢٠٠) فكيف غفل عنه.
أما رأينا في سياسة فرنسا مع المسلمين في مستعمراتها فقد بيناه غير مرة وقلنا:
إنه يستحيل أن يطمئن المسلمون لحكمها ما لم تمنحهم الحرية التامة في الدين
والعلم، وتساعدهم على التعليم والعمران بالفعل لا بالقول ولا بإيهام الجرائد، وإن
سميت إسلامية، وقد سمعنا وقرأنا ما دلَّنا على أنها قد اهتدت إلى هذا الرأي، فإن
كان ذلك حقًّا فسترى حُسن عاقبته وإن كان تمويهًا كما يقول المنتقد فلا يلبث أن
ينكشف، ولكن من يغلو في الانتقاد قلما يؤخذ كلامه بالقبول؛ فليفهم هذا.