للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: علي سرور الزنكلوني


نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها
وبعثة محمد خاتم النبيين للناس أجمعين [*]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، محمد صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه.
أيها السادة
إن موضوع الليلة هو بيان نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها من الشرائع،
وبعبارة أصح: بيان عموم بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى
أرسله للناس أجمعين، سواء أصحاب الأديان السماوية وغيرهم.
وقبل الكلام على هذا الموضوع لا بد لنا من تمهيد ندخل به إليه، وهو وإن
كان تمهيدًا فيما يبدو، إلا أن له اتصالاً قويًّا بهذا الموضوع في الحقيقة، حتى كأنه
أحد أجزائه.
(التمهيد)
من المعلوم عندنا من الدين بالضرورة أن الله تعالى لم يبعث الرسل إلا
لإصلاح العالم بمعرفته وعبادته وحده واجتناب عبادة الطاغوت، وإيضاح الطريق
إليه؛ لإتمام المجازاة بين العباد يوم الرجوع إليه، كما كانت البداية منه. يوافقنا
على هذا أصحاب الأديان الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولقد آزر أصحاب
الأديان في ذلك العقل الإنساني المجرد عن أهواء النفس وميلها الشهواني، والعقل
في كل عصور التاريخ من اليوم الذي ترعرع فيه وقوي على الكفاح والنضال - لم
يختلف مع أصحاب الأديان في أصل الفكرة؛ إذ العقل مهما تعرجت به السبل لا
يستطيع أن ينكر حاجة البشر إلى الإصلاح والمصلحين، كما أنه قد وقف خاضعًا
مبهوتًا أمام معجزات الأنبياء في عصورهم، وبعد انقراض عصورهم. بل العقل
البشري في عصور الفلسفة الأولى وهي منعزلة عن الأديان تمام الانعزال وغير
متأثرة بها - قد عرف واجب الوجود، وخطا خطوة واسعة في الشعور باليوم الآخر
وهو من الغيب المحض، فرأى أن الحكمة تأبى على مبدع هذا الوجود وقد تفاوت
فيه أفراد الإنسان: سعادة وشقاوة، ولذة وألمًا، وظالمية ومظلومية - أن ينتهي
العالم بعد ذلك التفاوت البليغ إلى العدم المحض، وقرر أنه لا بد من حياة وراء هذه
الحياة تتجلى فيها مظاهر العدل والحكمة بين أفراد الإنسان.
أيها السادة
إن هذا النوع الإنساني الذي أرسل الله له الرسل مبشرين ومنذرين لا بد له من
بداية، ولا بد أن تكون هذه البداية فردًا، وقد أجمع أصحاب الأديان السماوية على
أن الفرد الذي تناسل منه هذا النوع الإنساني هو آدم عليه السلام ثم زوجه حواء.
ولا يهم بحثنا أن تكون حواء مخلوقة من طينة آدم على قانون تخليقه، أو من جزء
من أجزائه بعد انتقاله إلى الطور الإنساني، كما لا يهم العقل أيضًا هذا البحث؛
لأن بداية العالم من الغيب المحض، فلا سبيل إلى الوصول إلى الغيب من طريق
المشاهدة والتجارب المادية، ولا من طريق البحث والاستنتاج؛ لأن الغيب المحض
لا يكون الاستنتاج فيه أكثر من حدس وتخمين، وإذًا لا يمكن الوصول إلى معرفة
الإنسان الأول خلقًا وتعليمًا إلا من طريق الحق، طريق الوحي المنزل على الأنبياء
المؤيدين بالمعجزات، ولقد أعلمنا الله تعالى على لسانهم رحمة منه بنا؛ حيث لم
يتركنا حيارى فيما يمسنا، ونعجز عن الوصول إليه بعقولنا، أن آدم عليه السلام
أبو البشر، وأنه خلقه من طين ومن صلصال من حمأ مسنون. ولا بدع في ذلك
فإنسان اليوم يتخلق من الطين بوسائط، وبعض العلق (الدود الصغير) يتخلق منه
بلا واسطة.
ومن هذا تعلمون قيمة القول بأن القرد هو أصل الإنسان! على أن هذا
القول لا يزال في دور البحث العلمي عند أصحابه، وهم أنفسهم يقولون: إن هناك
حلقة مفقودة لا يتم لهم هذا البحث إلا إذا عثروا عليها، ونحن نقول لهم: لا نؤمن بما
تقولون؛ وإن عثرتم عليها؛ لأن بحثكم على فرض تمامه مبني على القياس
والاستنتاج لا على المشاهدة واليقين. وقد قال الله تعالى وقوله الحق الذي يذعن له
العقل {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ
المُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: ٥١) فأي عاقل بعد هذا يستبيح لنفسه أن يترك
يقينيات الأديان إلى ظنون الباحثين، وإذا أباح العقل للباحث أن يتأثر بنتائج بحثه،
وعذره فيه لأنه منتهى علمه؛ لأنه يبحث بعيدًا عن كل دين، فأي عقل يبيح لغير
الباحث من أصحاب الأديان أن يقلده فيه ويتغنى بما يخالف جميع الأديان؟ وأي
سقوط وراء من يقلد عن جهل من لا ضمان له، ويترك عظمة الأديان، وفيها
الضمان كل الضمان بالمعجزات وشهادة التاريخ.
أيها السادة
إن الدعِي الذي ينتسب لغير أبيه حقير في ذاته، ممقوت عند الناس، وإن
انتسب إلى مَن هو أكرم من أبيه، فكيف إذا انتمى إلى من هو دون أبيه بمراحل؟!
أيها السادة
لست الآن بصدد البحث عن إثبات مبدأ الخليقة، ولاعن إثبات إرسال الرسل
لحكمة إرسالهم، وإنما جر إلى ذكر ذلك التمهيد لا غير؛ لأن موضوع الليلة خاص
بأصحاب الأديان، وكلهم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليست
المسألة أكثر من موضوع يطرح أمام العقل ليبحثه، وينصف من نفسه.
وإني لم أعتمد في هذا البحث إلا على أدلة العقل المستندة إلى نظام الوجود
الثابت؛ لئلا يقال: (كل فتاة بأبيها معجبة) ومن واجب أصحاب الأديان أن يبحثوا
عن الحق حيثما كان، ويطلبوا السعادة أينما وجدت، ولا يليق بهم أن
يجعلوا الأديان من أعراض الحياة الدنيا وأسباب تنازع البقاء فيها؛ لأن الأديان ما
نزلت إلا للسعادة الشاملة ودوام البقاء في الآخرة. وقد انحرف أصحاب
الأديان جميعًا عن هذه الغاية السامية، فتعصب كلٌّ لتراثه الموروث أيًّا كان مركزه
من الحق، كي لا يضيع شيء من مظاهر الدنيا وتقاليدها، ولم يقف الأمر عند
التنازع في ذات الأديان بل انتقل إلى تنازع أصحاب المذاهب المختلفة من دين واحد
لهذه الغاية الكاذبة، مع أن الدين يجب أن يكون كله لله، وأن يبحث فيه دائمًا
عن أقوم الطرق الموصلة إلى الله.
وقد اخترت هذا الموضوع؛ لأنه يمس حياة العالم الدينية والعقلية ويتصل
بسعادتهم الأبدية كل الاتصال.
وها أنا ذا الآن بتوفيق الله تعالى داخل على أصل الموضوع:
أيها السادة
إن الإنسان في طوره الأول بسيط وساذج، وهو في حياته الأولى أشبه
بالطفل بعد ولادته، وقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ شَيْئاً} (النحل: ٧٨) وإذا كان الطفل في حياته الأولى لا علم له بشيء
أصلاً بشهادة الدين والحس، وقد تولد من إنسان عاقل مرت به أحقاب طوال في
الإنسانية المعبدة المهذبة، فكيف يكون حال الإنسان الأول، وقد انفصل عن الطينة
الصماء وعن ظلام الوجود (؟) وقد تعلمون أن استعداد المنفصل عن إنسان أقوى
من استعداد المنفصل عن جماد أو حيوان. لهذا يجب علينا أن نبحث بحثًا هادئًا في
هذا الإنسان الذي وصل أبناؤه إلى ما نرى ونسمع من العلم والعمل والرقي في
أساليب الحياة المتشعبة الأصول والفروع فنقول:
إذا كان من الجائز عقلاً أن نحيل أمر حياته المادية ونظام معيشته على
الغرائز الحيوانية كما هو الشأن في بقية الحيوانات؛ لأن دواعي النفس كلها مركزة
في الغريزة الحيوانية ومشتهياتها على ظهر الأرض - فليس من الجائز عقلاً أن
نحيل أمر تنظيم جزئه الإنساني على قانون الغرائز الحيوانية؛ لأنها لا تعدو المادة
ولا تتجاوز وظائف حياته الحيوانية، والنفس الناطقة، وغريزتها العقلية فوق
الحيوانية: هذه سماوية وتلك أرضية، هذه نورية وتلك ظلمانية، وعالم النور غير
عالم الظلمة. ومن غير المعقول أن يستمد عنصر السماء من عنصر الأرض، ولو
أن في الأرض عالمًا آخر أرقى من الإنسان في بداية نشأته لجاز أن نحيل عليه أمر
تنظيم حياته العقلية والأدبية وتلقي مبادئ العلوم المختلفة. وقد علمتم أن الفطرة
الحيوانية لا تهدي إلا إلى سبيلها الحيواني، وإلا لارتقى الحيوان الأعجم إلى
مستوى الإنسان، بل لو جاز أن يكون قانون الفطرة وحده هو الذي وضع لآدم نظام
حياته الأولى وهو الذي أرشده إلى الحق والباطل وإلى الخير والشر لكانت آثار
العقل من الطهارة وحب الخير والسلام العام مثلاً متمشية في الرقي جنبًا لجنب مع
الرقي المادي، مع أن دليل الحس قائم على الرقي المادي، واضطراب الرقي
الروحي الذي لا يتم بدونه كمال الإنسان، بل لا أبالغ إذا قلت: إن الرقي المادي قد
طغى على العقل طغيانًا كبيرًا حتى أفقده آثاره الروحية التي تظهر في طهارة النفس،
ومتانة الأخلاق.
على أنَّا لو تساهلنا وقلنا: إن الإنسان الأول قد هدته فطرته إلى وضع المبادئ
الأولى لنظام حياته العقلية لما كان لنا مندوحة عن القول بأن الفطرة يجب أن تسبق
بنموذج تقيس عليه، ونِبراس تسير على ضوئه. وليس ثمة مَن يهديها من العوالم،
والجاهل لا يستمد علمه من نفسه، فمَن كان يا تُرَى مصدر ذلك المقياس، ومطلع
هذا النبراس؟ !
مهما قلَّب العقل طرفه يمنة ويسرة في صفحات الوجود لا يمكنه أن يهتدي إلى
المعلم الأول للإنسان الأول من عالم المادة. ولابد أن يرجع أخيرًا إلى ما جاء به
الأنبياء ونطق به القرآن الكريم حيث قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ
مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: ٣٠-٣٣) .
ثم إن مبادئ التعليم الأولي للإنسان الأول لا تعدو شعوره بنفسه، وشعوره
بخالقه، وشعوره بالمسؤولية أمام خالقه. وهذه الأمور الثلاثة تكاد تكون أساسًا
مضطردًا في كل تشريع إلهي، وأن آخر تشريع لم يزد في جوهر هذه الأسس عن
أول تشريع؛ ولذلك كانت هذه الأسس عماد التشريع الإلهي وعناصره القوية التي
لا يعدو عليها تطاول الأزمان، فأصول الشرائع الإلهية منحصرة في تصحيح
الاعتقاد وفي حفظ النظام. ومعرفة أقرب الطرق إلى الله وأوضحها للسير فيه،
وهذا هو ما يشير الله إليه بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى: ١٣) .
إلا أن هذه الأصول لم يخاطَب بها العقل ولم يكلف بتنفيذها الإنسان في
أطواره المختلفة بنسبة واحدة. فالعقل في بداية حياته غير العقل في نضوجه، وغيره
فيما بينهما من الأطوار، والحكمة قاضية بأن يكون لكل طور حاجات خاصة به،
ولبيانها له أسلوب خاص في الخطاب وطرق الاستدلال للإقناع، كذلك الإنسان في
حياته المعاشية الحيوانية ومحيطه المادي له أطوار كثيرة تختلف بحسبها حاجاته
وطرق علمه بها، والغرض من الشرائع الإلهية إصلاح النفس وتهذيبها وكبح جماح
قوتيها السبعية والشهوية، ومعلوم أن عوامل قوى النفس كامنة فيها يثيرها ما يحيط
بها من زخرف ومتاع، ولا ينكشف خلق سبعي أو شهوي في إنسان إلا إذا أثاره
محيطه المادي، ودواعي الشهوات المادية لم تتوفر للعالم في عصر واحد.
وإذا تبين أن التشريع الإلهي مرتبط بما ذكرنا من الأطوار المختلفة باختلاف
الأعصار. تبين أن اختلاف التشريع باختلاف العصور المتطاولة ضروري
لإصلاح البشر، وأن التشريع المتقدم لا يصلح في تفصيله للزمان المتأخر؛ لأن
التشريع إذا لم يكن وفق الاستعداد وطبق الحاجات ضاع وضاعت معه حكمته، ولو
أن أصحاب الأديان جميعًا تجردوا عن الشهوات والتنافس في الدنيا، وبحثوا عن
طريق الله الواضحة وعن الحق؛ ليصلوا إلى الله على الوجه الذي دعاهم به، لو أنهم
فعلوا ذلك لاهتدوا إلى قانون نظام النشوء والارتقاء في الأديان السماوية، كما
اهتدى إليه الماديون في القوة والعناصر المادية، ولأصبح من المسلَّمات في عقول
البشر ومتعارف حياتهم أن شريعة نوح لا تصلح لقوم إبراهيم، وأن شريعة موسى
وعيسى لا تصلح لزمان محمد، وأن أوضح دليل على ذلك أن اليهود والنصارى
لا يسيرون على المسيحية ولا على اليهودية لا من قرب ولا من بعد، وأن أصحاب
هاتين الديانتين في العالم انقلبوا ماديين أكثر من الطبيعيين.
إن علم وحدانية الخالق وكماله، وأن المبدأ منه والمنتهى إليه الذي هو تصحيح
الاعتقاد - إنما يعتمد على أدلة الوجود وعلى مقدار ما في العقل من يقظة وانتباه.
وقد كان العقل وأدلة الوجود في أزمنة الأنبياء السابقين، دون ما ارتقت إليه
في زمان البعثة المحمدية قوةً واستعدادًا؛ إذ كان الإنسان بطول الكفاح العقلي قد تم
أو قارب التمام. كذلك إرشاد العالم إلى الطريق الموصل إلى الله وإلى كيفية السير
فيه، وهذا النوع من الإرشاد يعبَّر عنه بكلمتين: تنظيم صلة العبد بالله، وتنظيم
صلة العباد بعضهم ببعض، ومجال القول فيهما واسع المسافة بعيد الغور، مترامي
الأطراف. خصوصًا ما يتعلق بالناس في مصالحهم ومتاجرهم وأنفسهم وأموالهم
وأعراضهم وآدابهم وأخلاقهم، فكما أن أسلوب الاستدلال على الله والخوف منه
والرجاء فيه تابع لدرجة انتباه العقل ويقظته، ومرتبة الارتقاء الإنساني، كذلك
صور العبادات، إذ حكمة مشروعية العبادة تنمية معرفة النفس بخالقها ومالكها،
وتقوية ملاحظتها لما يجب من الشكر له، وانتباهها لبواعث الخوف منه والرجاء
فيه، ومراتب العقل ودرجات استعداد النفس متفاوتة تفاوتًا عظيمًا في العصور
المتباينة، فلكل استعداد أسلوب خاص وتأثير خاص. ومن هنا كانت صور
العبادات وأشكالها متفاوتة وتفاوتها ضروري، وإن اتحدت في الغرض، فَرُبَّ
عصرٍ يتأثر بصورة أو شكل لا يتأثر به عصر آخر، ورُبَّ إنسان يطمئن قلبه
لحال وتخضع عندها نفسه ولا تتحرك من حال آخر.
ثم لننتقل من التشريع الخاص بالخالق إلى التشريع المتصل بأفراد الإنسان
وجماعاته وشعوبه. وما يجب على الجميع من مراعاة الحقوق والمرافق في الأنفس
والأموال والأعراض، وما يجب أن يفعل عند المخالفة ليتم السلام العام من جهة
ولتتعبد طريق الله من جهة أخرى. وهذا النوع أدق أنواع التشريع وأخطرها في
حياة البشر. بل هو المحور الذي كان يدور عليه وحده نظام التغيير والتبديل فلعُتوّ
الزمان وتمرده وتغلب القوة السبعية فيه أحكام تناسبه، وللأمم التي بالغت في حب
الدنيا وتغلغلت فيها آثار الشهوة البهيمية والوحشية عقوبات تناسبها؛ ولذلك كانت
عقوبة الله للأمم المتمردة المحق والخسف وعذاب الاستئصال، ولم تكن عبادتهم
أكثر من رموز بسيطة وملاحظات؛ لأن العبادة في صورتها التامة على الحقيقة لباس
إلهي يخلعه الله تعالى على من جاوز حدود الحيوانية الهوجاء، ووقف في
مصاف الإنسان.
ولهذا لو قارنَّا بين روح التشريع في بني إسرائيل وروح التشريع في عصر
المسيحية لوجدنا الفرق واضحًا؛ لأن حياة بني إسرائيل في عصر موسى عليه
السلام كانت حياة مشادة في خبث وتمرد، وحياة المسيحية حياة انكسار وتواضع،
ولهذا كانت تكاليف بني إسرائيل أشق، وعقوباتهم أشد، والعقوبات دائمًا تتبع
الجرائم، والتكاليف الشرعية تتبع حالة النفوس. فأي مؤرخ طبيعي وأي عقل
إنساني يستطيع أن يقول: إن العالم في عصر محمد هو العالم في عصر موسى
وعيسى خلقًا واستعدادًا؟ فالعرب كانوا في سذاجة وبساطة وجهالة تامة بالشرائع،
وقد بلغ منهم التنافر وتنازع البقاء أقصى حدوده، ولكنهم مع ذلك كانوا أصحاب
فصاحة لسان، وذكاء جَنان، وفطرة سليمة، وحرية تامة، واليهود كانوا على
العكس من أمر العرب، والنصارى ورثوا من اليهود الشيء الكثير، واليهودية
والمسيحية بتطاول الزمان والحروب المستعرة، والحرص على متاع الدنيا لعبت
بهما أيدي الرؤساء والحكام.
وقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم للعرب ولغير العرب، ودعا الناس كافة،
فاستجاب له العرب وغير العرب. فأي دين من الأديان السابقة يصلح نظامًا، ويحقق
حياة سعيدة لهذه التشكيلة العجيبة التي كانت عناصرها متباينة متنافرة؟ تفضل الله
على نبينا محمد فجمعها برباط واحد قوي، ومكن له دينه في الأرض رغم تألب
العالم عليه {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: ١٠٣) .
وبعد هذه الأدلة الواضحة والبيانات الصارخة هل يبقى شك في عموم بعثة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن شريعته ناسخة لما قبلها من الشرائع لمقتضيات
الزمان وتجديد الإصلاح؟
فإن قال قائل: إذا كان الأمر على ما بينت، وقد تطاول العهد بين العصر
المحمدي وهذا العصر، فمن الواجب تجديد التشريع.
(فالجواب) إنا نتكلم الآن عن التشريع الإلهي النازل على الأنبياء المؤيَّدين
بالمعجزات، فلو علم الله أن التشريع المحمدي أصبح غير صالح لحياة العالم لرحم
العباد برسول جديد وتشريع جديد.
أما إن العالم يترك شرائع الأنبياء إلى شرائع البشر المضطربة المختلة التي
لا تتفق في الأمم ولا تستقر على حال واحد - فأمر لا يمكن أن يصلح به حال
البشر. على أن الشريعة المحمدية قد وضعت من الأسس في الكتاب والسنة ما فيه
الكفاية. أما ما ترونه غير صالح من أحكام الفقهاء والعلماء فليس مرجعه ضعف
الأساس، ولا رخاوة الأصل، وإنما مرجعه جهالة الباحثين، وشهوات المسيطرين.
ولقد نبتت طائفة في هذا الزمان - وكثيرًا ما ينبت مثلها في عصور الانتقال-
تنادي بوجوب سير الشريعة الإسلامية بجانب نظام المجتمع المادي الحاضر.
وهذه الطائفة سامحها الله إن لم تكن خبيثة فأقل ما يقال فيها: إنها جاهلة
بالإسلام، فمن واجب الباحث الجاد غير المتشهي أن يكون عالمًا تمام العلم بطرفي
ما يبحث فيه وبأساليب الاستدلال عليه على طريقة البحث العلمي في مثله، وإلا كان
صاحب شهوة، وصاحب الشهوة لا يُلتفت إليه.
إن حياة العالم الآن حياة مادية تنحدر بسرعة في طريق الأهواء والشهوات،
فلو جارى الإسلام انحدار الأمم فأباح الزنا للأعزب ومَن لا كسب له ولجيوش
الحروب، وأباح الرقص لمتاع النفس، وأباح الربا لاستكمال مشتهيات الحياة، أو
لمزاحمة الأجانب، وفي مكنة المسلمين أن يزاحموهم ويقفوا مثل وقفتهم بثروتهم
الطبيعية والاقتصاد الديني، وهكذا وهكذا، لو اتسع الإسلام لذلك كله لكان دين مادة
لا دين خلق، وأصبح من أوضاع البشر لا من شرائع الله، ومع ذلك ما هو
الأساس الإسلامي الذي جُرب في الأمم الإسلامية وغيرها ثم فشل وتبين خطؤه؟
ومن ذا الذي وازن بعقله السليم المنصف بين حكم إسلامي ونظيره في تشريع
وضعي، ثم أقام البرهان الصحيح على ضعف التشريع الإسلامي وخذلانه؟ ثم ما هو
الأمر الجوهري الذي طعن به أعداء الإسلام عليه مع تألبهم الشديد وعداوتهم
المستحكمة من أول أمره إلى اليوم على كثرتهم وقوتهم، ووفرة أساليب حروبهم،
وضعف المسلمين وتخاذلهم، ثم أثبت العقل في وضوح أنهم محقون والإسلام مبطل؟
إنهم - والحمد لله - مع هذا كله لم ينالوا من دين الله ومن مبادئه الثابتة ما
يشفي غلتهم، ويبلغهم غايتهم، وإن نالوا من المسلمين بحكم نشاطهم المادي الشيء
الكثير.
وقد كان فضل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عظيمًا أن لم يجعل
معجزته الدائمة من جنس معجزات الأنبياء، بل هي كتاب خالد يصارع العقل في
كل زمان، فيصرعه بالحجة والبرهان {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) .
إن العالم المادي لا يزن الإسلام إلا بحالة المسلمين، مع أن الإسلام دين
وخلق ومبادئ، ومثلها يجب أن يوزن بميزان العلم والعقل، لا بميزان أهلها
المضيعين لها، على أنَّا لو وازنَّا بين المسلمين وغير المسلمين أو بين الماديين
وغير الماديين لوجدنا ضعف المسلمين أجدى على الإنسانية من نشاط المادة،
فليست المادة إلا آلات ظلم وفساد وتخريب، وإنها في رقيها لأشبه بمخالب
الحيوانات المفترسة وأظفارها، وأنياب الكلاب الكلبة، وإن من الجهل الفاضح أن
يتحدث ضعفاء العالم وضعفاء العقول بأن أوروبا تخدم الإنسانية - كلمة واهية كاذبة،
ومن العدل أن يقال: إن أوروبا المسيحية واليهودية - أو بعبارة أصح: أوروبا
اللادينية - إنما تخدم القوتين السبعية والشهوية، إن الإنسانية سلام وإخاء
وتعاطف في الخير لا في جوانب المادة، تناصر في الحق لا تغلب على الضعيف؛
بل الحيوان الضعيف أجدى على الإنسانية من الحيوان الشرير.
لهذا أرجو المسلمين الذين يسيرون وراء كل ناعق مادي أن يخلصوا لعقولهم
ويفرقوا بين الرقي الإنساني والرقي المادي لتحقيق الأهواء والشهوات؛ لأن ميزة
الإنسان في حسن تقديره، وقوة تفكيره، وسبره غور الحقائق.
وإني قبل أن أبرح مكاني هذا أرجو الشبان المسلمين أن لا ينخدعوا في دينهم
باتباع المذبذبين الذين لا علم لهم بالمادة ولا بالدين، وأن لا يفروا من دينهم بغضًا
في قوم ادعوا معرفتهم به وحمايتهم له ورعايتهم لحقوقه زورًا وبهتانًا، فالحلال بين
والحرام بين، ولا يخلو قطر إسلامي من علماء صادقين مخلصين، كما أرجو أن
أوفَّق في محاضرة أخرى لبيان عظمة القرآن وشخصية محمد صلى الله عليه وسلم.
وإني أشكر جمعية الشبان المسلمين على هذه النهضة المباركة، وأسأل الله لها
السداد والتوفيق.
... ... ... ... ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني
... ... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بالأزهر
(تعليق المنار)
إن أسس التشريع الإسلامي قد قيدت البشر بقواعد من الحق والعدل والرحمة
والفضل، وحقوق الروح والجسد الصالحة لكل عصر تكفل لهم كمال الإنسانية
وسعادة الحياة ما أقاموها، وأباحت لهم التشريع الاجتهادي فيما يتجدد لهم من
الأقضية والمصالح التي تختلف الأزمنة والأمكنة مع المحافظة عليها، وبهذا لم
يكونوا محتاجين إلى تشريع سماوي جديد بعدها. وقد كان من عدم تقيدهم بها هذه
الفوضى السياسية والأدبية والاجتماعية والثورات الحكومية التي تهدد العالم المدني
بحرب شر من حربها الأخيرة تدك معالم العمران دكًّا، وإلحاد {تَكَادُ السَّمَوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ} (مريم: ٩٠) ؛ فقد وردت
الأنباء بأن دولة البلشفية الروسية تعد سبعة عشر مليونًا من الجند لغزو أوروبة
الرأسمالية على ما بين دول أوروبة من الأحقاد والضغائن واستعداد بعضها لتدمير
بعض، وانهماك أممها في الفسق والفجور، والإباحة والشرور، وتلك القواعد
الإسلامية قد بيناها في المنار وتفسيره، وفي رسائلنا المقتبسة منهما خلاصات من
ذلك وهي:
(١) خلاصة السيرة المحمدية وكليات الدين الإسلامي وحكمه.
(٢) الخلافة الإسلامية.
(٣) يسر الإسلام والتشريع العام.
ولو أن دول أوروبا تدين الله تعالى بما شرعه الله تعالى في كتابه القرآن من
وجوب حفظ العهود والمواثيق، واجتناب جعلها دخلاً باطنها ينقض ظاهرها لنجاهم
ذلك من كل ما بينهم الآن من التنازع والتخاصم في معاهدة الحرب الكبرى وفروعها،
وهاك بضع آيات من سورة واحدة كافية لصلاح البشر إذا دانوا الله بها وهي:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا
يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (النحل: ٩٠-
٩٢) .