في شبهات على وظائف الرسل وأجوبتها المسألة (٧٦) شبهة على الوظيفة الثالثة: يقولون: إن الأديان السماوية الثلاثة لم تتفق أيضًا في أمر الآخرة، فبعضها يجعلها روحانية محضة، وبعضها يجعلها للناس إنسانية يتمتع فيها الناس بلذات الروح والجسد جميعًا، وبعضها ينكر الزواج فيها ويخالفه الدين الآخر، فيقول إن فيها أزواجًا مطهرة عما يُعهد من النساء في الدنيا، وبعضها يقول: إن الحساب على الأعمال يكون في الدنيا، وبعضها يقول: إن ذلك يكون في الآخرة بعد الموت. والجواب عن هذه الشبهة يُعلم من تقرير هذه الوظيفة، ومن الجواب عن الشبهة الأولى، ومن مقدمة الدرس (٣٠) وهو تحكيم القرآن المنقول بالتواتر الصحيح كل كلمة من كلماته، وكل حرف من حروفه، وجعله هو الأصل وتأويل ما يخالفه إذا أمكن، والحكم بعدم صحة روايته إذا لم يمكن، فإذا فرضنا صحة ما نُقل عن السيد المسيح عليه السلام من قوله عن أهل الملكوت لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله، فالمجال في تأويله واسع من حيث إن كلام المسيح كان أمثالاً وألغازًا، وهذه الأناجيل التي تحكي شيئًا من تاريخه وكلامه تدلنا على أنه كان يقول القول فلا يفهمه تلامذته، فإذا أخذوه على ظاهره يسمعون بعدُ ما يخالف ذلك الظاهر، فيتبين لهم خطأ فهمهم، وفي العهد الجديد دلائل كثيرة على أن الدعاة الأول الذين يسمونهم الرسل كانوا يُظْهِرُون للضعفاء خلاف ما عليه الأمر في نفسه بحسب العلم، ومنه تصريح بولس في (٨ كور) بأن العلم يقتضي عدم ضرر أكل ما ذُبح للأوثان، وأن هذا الأكل لا يبعد عن الله وعدمه لا يقرب منه؛ ولكن الأكل يعثر الضعفاء، أي يوقعهم في عبادة الأوثان، وذكر في الباب (٩) الذي بعده أنه صار لليهود كيهودي ليربح اليهود ويجذبهم إلى اعتقاده، فالكتب التي بنيت على هذا الأساس لا يصح أن يؤخذ كل شيء فيها على ظاهره، وإن فرضنا أنه نُقل عن أصحابها بنصه، على أنه لم يُنقل إلا بالمعنى، وبعض الأناجيل لا تعرف اللغة التي كُتبت بها يقينًا، وهل يصعب على أهل هذا الكتاب الذين أوَّلوا قول المسيح أنه ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام بأنه يموت ويعود بعد ثلاث أن يؤولوا قوله (لا يتزوجون؟) لتأويل هذا النفي وجوه منها تعيين المراد بلفظ الملكوت، فقد ورد هذا اللفظ في أمثال كثيرة للسيد المسيح عليه السلام، وأشهرها عند النصارى يوم مجيئه ومحاسبة الناس يوم الدينونة، ويقولون إنه يكون في الدنيا قبل فناء عالمها كما تقدم في الشبهة، وقد أخذوا هذا من ظواهر الأقوال، وإن لم تصح كلها، فقد روى متى أنه قال بعدما ذكر آيات مجيئه (الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله) وهو تصريح بأن الملكوت يأتي قبل انقضاء ذلك الجيل، ولم يبهم عليهم إلا اليوم والساعة، وقال إنه لا يعلم بهما أحد إلا الله وحده، ثم ضرب لهم مثلاً لذلك أيام نوح والطوفان، قال (لأنه كما كان الناس في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع كذلك يكون مجيء ابن الإنسان) فالظاهر أن المسيح أراد أن يخوِّف الرجل اليهودي الذي سأله عن المرأة التي تزوجت باثنين لأيهما تكون في الملكوت، ويبين له أن ذلك يوم عظيم ينقطع فيه الزواج، وأنه يجب الاستعداد له ولم يخبره بما يكون بعده من النعيم لئلا يتمادى في الغرور، ومن أكبر النعيم أن يكون للإنسان زوج يسكن إليها، وذلك أولى من شرب الخمر الذي صرَّح بإثباته في قوله بعد أن أخذ الكأس وشكر وأعطاهم وأمرهم بالشرب (وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي) والحاصل أن للملكوت مبدأ وهو يوم الحساب، وهو الذي لا أكل فيه ولا شرب ولا زواج وله غاية، وهي كما في آخر (٢٥متى) عن المسيح (فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية) وفي ذلك اليوم يشرب الخمر مع تلامذته، وكل ما يناسب الخمر من اللذات الجسدية فحكمه حكم الخمر، وقد ورد في القرآن العزيز أحكام عن ذلك اليوم متناقضة في الظاهر متوافقة في الحقيقة؛ لأن بعضها محمول على وقت الحساب كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: ٩٢-٩٣) وبعضها محمول على وقت آخر كقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} (الرحمن: ٣٩) وللجمع بين الآيتين وجه آخر. ومن وجوه تأويل نفي الزواج في الآخرة على تقدير صحة نقله أنه ليس كما يكون في الدنيا؛ لأن الحياة الآخرة طور أعلى من هذه الحياة، فتشبيهها بها في القرآن يشبه أن يكون تمثيلاً وتقريبًا لها من بعض العقول الضعيفة قال تعالى في رزق الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} (البقرة: ٢٥) وقال عز وجل: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة: ١٧) وفي الحديث: (إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وقال بعض علمائنا إن كل ما ورد في أمر الآخرة فهو من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى. م (٧٧) شبهة على الوظيفة الرابعة: ويقولون: إن وظيفة تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس مما يجب أن تتفق فيه الأديان الإلهية، ولا نرى فيه بين المسيحية والإسلامية إلا الخلاف فكل من كتب عن المسيح أثبت أنه كان يأمر بترك الدنيا والإعراض عنها بالمرة، مع أن القرآن يُعِدُّ الاستخلاف والسيادة في الأرض أثرًا من آثار الإيمان والعمل الصالح، وأثبتوا أيضًا أن المسيح كان يأمر بإذلال النفس وإهانتها، والقرآن يُعِدُّ عزة النفس من صفات المؤمنين أو من خصائصهم، وأثبتوا أيضًا أن المسيح كان يقول إن الغني لا يدخل ملكوت السموات، والإسلام يفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، كما رجحه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم وغيره، ومثل هذا الخلاف كثير. والجواب عن هذه الشبهة أن نقول إن مجموع تلك النقول الورادة في المعاني التي ذُكر فيها الخلاف تُثْبِت في الجملة أن السيد المسيح عليه السلام كان يأمر بالمغالبة في الزهد والتواضع، وربما جاء في بعض العبارات المنقولة عنه بالمعنى ما لم يقله، فيخرج بذلك الكلام إلى الذي لا يرضاه، والحكمة في تلك المبالغة أن اليهود الذين بعث فيهم والرومانيين السائدين عليهم كانوا قد غلوا في حب الدنيا، والانغماس في شهواتها، والتهتك في لذاتها غلوًّا كثيرًا، وتناهوا في الكبرياء والعنجهية وعتوا عتوًّا كبيرًا، والقاعدة الحكيمة أن من يدعو المتغالى في شيء إلى الاعتدال فيه يبالغ في ضد ذلك الشيء، فكان بهذا ممهدًا لدين الإسلام الذي وضع قواعد الاعتدال من أول الأمر؛ لأن العالم الإنساني في مجموعه كان قد استعد لذلك في الجملة، ولا شك أن دين الله تعالى واحد ومقصد الأنبياء الدعاة إليه واحد، فإذا أردنا أن نفرق بينهم ونقول هذا دين مستقل ليس مبنيًّا على سابقه ولا يتصل به لاحقه، فهناك الجناية على الجميع، وإذا جعلنا المسيح مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ومبينًا لليهود بعض الذي يختلفون فيه بسبب التمسك بالظواهر والمحافظة على الرسوم والتقاليد، وجعلنا محمدًا مصدقًا لموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ومبينًا للناس كافة حقيقة دين الله تعالى في كل زمان بفضل زيادة وبيان استعد لهما بالارتقاء نوع الإنسان، فتلك هي الخدمة الصحيحة للدين {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: ٢٨٥) {يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: ٦٤) . م (٧٨) شبهة على الوظيفة الخامسة: ويقولون: إن القوانين الوضعية هي أحسن وأصلح من الشرائع التي تنسب إلى الديانات السماوية؛ فإن أحكام التوراة لا تصلح لأن تحكم بها الأمم المرتقية في مراتب المدنية، والشريعة الإسلامية كذلك، ولولاه لم يتركها الملوك والأمراء المسلمون، ويستبدلوا بها القوانين الأوربية في غير ما يتعلق بالدين والاعتقاد إلا الأمراء الذين لا يزالون في طور البداوة أو الهمجية كبلاد مراكش فإنهم يحكمون فيها بالشريعة الإسلامية، وهم بذلك أبعد عن العدالة وحفظ الحقوق من أهل مصر الذين يحكمون بالقانون، وإن المسلمين في مصر يشكون من المحاكم الشرعية ما لا يشكون من المحاكم الأهلية النظامية. والجواب عن هذه الشبهة ظاهر لمن عرف دين الإسلام، وما اشتملت عليه شريعته من العدالة والقسط، وما عليه أكثر القائمون عليها من الفساد والجهالة والظلم والغواية، وأما الشريعة اليهودية فإنما كانت لشعب خاص إلى زمن محدود، ثم نُسخت فلا يحتج بعدم صلاحيتها الآن. الشريعة الإسلامية ترجع أحكامها كلها إلى حفظ خمسة أشياء يسمونها الكليات الخمس، وهي حفظ الدين الذي يهذِّب الأخلاق ويزكي النفوس، وحفظ الدم، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهذه الأركان مبنية فيها على أساس العدل والمساواة بين المحكومين بها، من غير تفرقة بين من يدين الله بها ومن يدينه بسواها، قال تعالى في شأن اليهود: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: ٤٢) وقال عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: ٨) أي لا يحملنكم بغض بعض الناس على عدم العدل، بل اعدلوا في العدو والصديق والقريب والبعيد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: ١٣٥) وسيرة الخلفاء الراشدين شاهدة بأنهم أعدل من حكم في الدنيا، ولم يكن لهم علم إلا ما جاءهم به الدين؛ لأنهم كانوا من قبله أميين. ثم أحدث المسلمون لعلم الشريعة اصطلاحات وألفوا فيها المصنفات كما هو الشأن في كل العلوم المدونة، واشترطوا في القضاة أن يكونوا مجتهدين ليستنبطوا الأحكام الجزئية حافظة للعدل والمساواة في تلك الأمور الكلية؛ ولكن أكثر المسلمين أبوا بعد ذلك إلا أن يقولوا: إن الاجتهاد قد أغلق بابه، وأسدل حجابه، وإن الأحكام إنما تؤخذ من عبارات المؤلفين المتقدمين وألفاظهم فما وافقها فهو العدل، وما خالفها فهو الظلم والجهل، ثم تلاعبت بالكثيرين منهم الأهواء، واستبداد السلاطين والأمراء، وكان من ذلك ما كان، وهو ما نشاهد أثره الآن، وهذا الذي قلته لا يخفى على بصير عرف التاريخ؛ فإن اللورد كرومر وكيل إنكلترا السياسي في مصر، قال يوم مشكلة المحاكم الشرعية وعزم الحكومة المصرية على ندب بعض القضاة الأهليين لإصلاح محكمة مصر الشرعية الكبرى ما معناه: إنني لا أصدق أن فقد العدل من المحاكم الشرعية الذي أنطق ألسنة الناس بالشكوى هو من الشريعة الإسلامية؛ فإن شريعة قامت بها دول واهتدت بها أمم، ووجد من أهلها العلماء والفلاسفة لا تكون إلا عادلة؛ وإنما منشأ هذا الخلل التقاليد الإكليركية (أي تقاليد رجال الدين) وحسبك بهذه الشهادة من هذا السياسي الكبير. ((يتبع بمقال تالٍ))