للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة

جرت عادة الشافعية في الأمصار التي تتعدد مساجدها بأن يصلوا الظهر
جماعة بعد أداء صلاة الجمعة، وقد نشأ صاحب هذه المجلة شافعيًّا وقلد دينه من
تربى بينهم من المنتسبين إلى هذا المذهب زمنًا فكان يعيد الظهر معهم كما يعيدون
معتقدًا أن هذا هو مذهب الشافعي , ولما قرأت فقه الشافعية علمت أن الإعادة مبنية
على قول الإمام بوجوب التجميع (إقامة الجمعة) في مسجد واحد وعدم جواز
التعدد في الاختيار، وأن التعدد إذا كان لحاجة بأن عسر اجتماع الناس في مسجد
واحد جاز.
وأنه في حال عدم جواز التعدد تكون الجمعة الصحيحة للسابق , وعلى غيره
إعادة الظهر. وقد ظهر لي بالاختبار أن التجميع في مسجد واحد يتعذر في مثل
مصر لأن أكبر مسجد فيها مسجد عمرو، وإنك لتراه في آخر جمعة من رمضان
مزدحمًا بالمصلين، والجمعة تصلى في سائر المساجد , ومنها ما يكون مزدحمًا مثله
على أن كثيرًا من المكلفين بالجمعة لا يصلون , ومع هذا ترى الشافعية يعيدون صلاة
الظهر بعد صلاة الجمعة في الأزهر وغيره , فدلنا هذا على أن إعادة الظهر صار
عادة للشافعية، وأنهم ليسوا فيها على بينة ولا علم صحيح، وقد وصلت إلينا في
أواخر رمضان رسالة مطبوعة في بيروت منسوبة إلى الشيخ نور الدين الشبراملسي
الشافعي المتوفى سنة ١٠٨٧ يقول مؤلفها في أولها: إنه قد ذكر بعضهم لحسين
باشا حاكم الديار المصرية أن صلاة الشافعية الظهر جماعة يوم الجمعة لا أصل لها
قال: (فمنع أهل أزهرنا منها ظنًّا منه صدق القائل، وفضيلة الناقل) والحال
أنه إما كاذب أو جاهل، وتحرير المسألة عندنا أن فيها أربعة أوجه:
الأول: وهو الصحيح أنه لا يجوز تعدد الجمعة ما لم يشق الاجتماع بمحل
واحد - ولو غير مسجد - مشقة لا تحتمل عادة، أي يقينًا، كما قيد به الشهاب بن
حجر إلخ. ثم ذكر أن العبرة فيمن يعسر اجتماعهم بالذين تلزمهم على المعتمد لا من
يصلون بالفعل أو من تصح منهم أو من يغلب حضورهم.
والوجه الثاني: لا يجوز التعدد مطلقًا، وذكر أن السبكي انتصر له نقلاً
ودليلاً وصنف فيه أربعة مصنفات، وقال: إنه لا يحفظ عن صحابي ولا تابعي
جواز تعددها. ولكنه لم يذكر هل يحفظ عنهم القول بمنع التعدد مطلقاً؟ كلا إنه لم
يقل به أحد منهم.
والثالث: إنْ حالَ نهر عظيم بين شقي البلد كانا كبلدين يقام في كل منهما
جمعة.
والرابع: إن كانت قرى واتصلت تعددت الجمعة بعددها، ثم ذكر أن سبب
الخلاف عدم إنكار الإمام الشافعي على أهل بغداد تعدد الجمعة، وكانوا حين دخلها
يجمعون بمحلين أو ثلاثة (قال) أجاب عنه جمهور أصحابه بأنه لمشقة الاجتماع
لكثرة أهلها. وتبعهم الشيخان إلى أن نقل عن بعضهم أن مذهب الشافعي لا يحتمل
تغيره وأننا ننظر في المسألة من جهة مذهب الإمام الشافعي ومنه تعلم أنه حجة على
مؤلف الرسالة في زعمه وجوب الظهر على أهل مصر وعلى من يحتج بها مثل
احتجاجه من جهة الدليل فقط، ومنه تعلم أن سائر المذاهب الإسلامية أرجح من
مذهب الشافعية ومن وافقهم في هذه المسألة.
أما النص عن الشافعي فقد جاء في مختصر المزني ما نصه:
(ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثر مساجدها إلا في مسجد واحد منها وأيها
جمع فيه فبدأها بعد الزوال فهي الجمعة وما بعدها فإنما هي ظهر يصلونها أربعًا لأن
النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صلوا في مسجده وحول المدينة مساجد لا نعلم
أحدًا منهم جمع إلا فيه، ولو جاز في مسجدين لجاز في مسجد العشائر)
وجاء في (كتاب الأم) نحو ما تقدم ما نصه:
(وإن جُمع فيه أولاً بعد الزوال فهي الجمعة وإن جمع في آخر ساعة بعد
الجمعة كان عليهم أن يعيدوا ظهرًا أربعًا) .
ثم قال: (وهكذا إن جمع من المصر الواحد في مواضع، الجمعة الأولى وما
سواها لا تجزئ إلا ظهرًا. (قال الشافعي) ولو أشكل ذلك عليهم فعادوا فجمعت
منهم طائفة ثانية في وقت الجمعة أجزأهم ذلك لأن جمعتهم الأولى لم تجزئ عنهم ,
وهم أولاً حين جمعوا أفسدوا، ثم عادوا فجمعوا في وقت الجمعة، قال الربيع وفيه
قول آخر أن يصلوا ظهرًا) اهـ فهذا نص كتب المذهب الأصلية.
فأما قول المختصر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صلوا في
مسجده ... إلخ.
فهو لا يأتي في مسألتنا لأن ما حول المدينة ليس منها، وإذا صح الاستدلال
بوقائع الأعيان أمكن أن يحتج بهذا على اشتراط التجميع في المصر وجماهير
الأصوليين لا يستدلون بها.
وما في المختصر مفروض في قوم أرادوا صلاة الجمعة فعلموا بأن غيرهم قد
سبقهم فيجب عليهم الظهر عنده , ولا نعرف الآن في البلاد الإسلامية أن قومًا
يجمعون بعد العلم بأن غيرهم سبقهم بالجمعة ولو في مسجد آخر وإنما يقيمون
الصلاة عند الآذان في عدة مساجد أنشئت للحاجة إليها في الأغلب , ولا نص لهذه
المسألة في المختصر، وعبارة الأم على بسطها لا تخرج عن معنى ما اختصرها
به المزني فإن قوله الجمعة الأولى وما سواها لا تجزئ إلا ظهرًا، لا يستقيم إلا في
صورة العلم بأن الجمعة أقيمت فيشرع في الظهر ويوضحها قوله قبلها: وإن جمعوا
في آخر ساعة بعد الجمعة كان عليهم أن يعيدوا ظهرًا أربعًا. فقوله في آخر ساعة
بعد الجمعة تصوير لإقامة الجمعة بعد العلم بأنها أقيمت. وأما مسألة الإشكال فهي
تظهر إذا اجتمعوا وتحدثوا فظهر لكل فريق منهم ما شككه في صحة صلاته، ولذلك
قال: إنهم يصلون الظهر وأنهم إذا صلوا الجمعة ثانية أجزأتهم لظهور فساد الأولى.
فإذا لم نفرض أن كل فريق من المجمعين اجتمع بالآخر واتفقوا على فساد صلاتهم
كلهم. لا يمكن أن نجيز التجميع لطائفة بعد العلم اليقين بأن الجمعة أقيمت؛ إذ لو
أجزنا هذا لكان المذهب أن الجمعة تصح لأهل المسجد الذين علموا أن جميع
المساجد قد جمعت قبلهم فتكون الجمعة للمتأخرين لا للمتقدمين فيتناقض هذا مع قوله:
الجمعة الأولى.
فتحرر معنا أن الإمام الشافعي يمنع تعدد الجمعة في البلد الواحد، فيجب على
من أخذوا بقوله أن يجتمعوا في محل واحد إذا أمكن، ومن علم منهم بأن الجمعة
أقيمت ليس له أن يجمع بل يصلي الظهر وإذا اجتمعوا أُشْكِل عليهم الأمر جمعوا
ثانية وصلوا الظهر. ولم يرد نص في حال عدم العلم بالتأخر وعدم الإشكال بأن
صلى كل فريق ظانًّا أنه السابق لأن الأصل عدم صلاة غيره قبله ولم تطرأ له شبهة
تعارض الأصل والظاهر أنه لا يجب عليه إعادة الظهر ولا الجمعة.
وربما يستبعد بعض الشافعية قولنا هذا لأنه مخالف لما عليه العمل عندهم إذ
يصلون الجمعة وهم يعتقدون عدم إجزائها وينوون إعادة الظهر بعدها ولا يوجد
نص عن الشافعي ولا عن أصحابه المجتهدين يجيز لأحد أن يشرع في صلاة وهو
يعتقد أنها لا تجزئه وكلام المصنفين المقلدين في إجازة ذلك لا يعتد به، بل ظاهر
منع الشافعي لتعدد الجمعة يؤذن بأن الشروع فيها لا يجوز على مذهبه إلا لمن يعلم
أو يظن أنه السابق الذي له الجمع، فإن شك بطل إحرامه بصلاتها كما هو ظاهر،
فمن كان مقلدًا للشافعي فليتأمل هذا بإنصاف ولا يغرنه كلام المصنفين (الشبراملسي)
ومن فوقه أو تحته، فإن أكثرهم ينقلون من كتب أمثالهم المقلدين ولم يطلعوا على
نص الشافعي وهو ما ذكرناه لك عن (المختصر) و (الأم) اللذين هما أصل
المذهب، ثم إن ما تقدم من نص المذهب صريح في تعدد الجمعة بالاختيار، ولم
يقل الشافعي شيئًا في حال الاضطرار، وهى ما إذا اتسع المصر وتعذر أو تعسر
اجتماع الناس في مكان واحد منه، ولكن الأصول العامة عنده وعند سائر الأئمة من
دفع الحرج والعسر، وإجازته تعدد الجمعة في بغداد؛ إذ أقام فيها سنتين، ولم
ينقل أنه أنكر على أهلها التعدد، ولا أنه كان يصلي الجمعة ثم يصلى عقيبها الظهر
- تدل على أنه يجيز التعدد لحاجة وقد علمنا من مختصر صاحبه (المزني) أن دليله
على وجوب التجميع في مكان واحد هو فعل النبي وأصحابه وهو على القول
بنهوض الوقائع العينية الإجمالية دليلاً، محمول على عدم الحاجة للتعدد فقد كان مسجد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسع الناس، ومن حِكم التجميع اجتناب التفرق،
فأي مسلم يرغب عن الصلاة معه - عليه السلام - وعن سماع خطبته ويجمع بالناس
في مسجد غير مسجده؟ فالتجميع في مسجد واحد على عهده صلى الله تعالى
عليه وسلم كان للحرص على الصلاة معه والتلقي عنه، ولموافقة حكمة مشروعية
الجمعة وهو الاجتماع وتلقي المواعظ على طريقة واحدة؛ فإنه مما يزيد
في الوحدة الإسلامية، فهو الأصل، ولم يعرض من الضرورة والحرج فيه ما يقضي
بالتحول عنه. وقد عُلِمَ مما تقدم أنه لا دليل من نص الشافعي ولا من فعله
على أنه يجب على من صلى الجمعة في أمصار المسلمين التي تعددت فيها المساجد
للحاجة أن يعيد الظهر بعد صلاة الجمعة فيوطن نفسه على أداء فريضتين
في وقت واحد، وأن ما قاله في الإعادة هو من قبيل مَن تبين له بعد الصلاة أنه لم
يستكمل شروطها فوجبت عليه إعادتها. وأما ما في كتب الشافعية ومنها رسالة
الشبراملسي مما يخالف ذلك أو يزيد عليه فهو من فلسفة أولئك المصنفين الذين لا يجوِّز أحد تقليدهم.
وأما النظر في المسألة من جهة الدليل فقد علم بالجملة مما تقدم وإيضاحه أن
كلام الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - يؤذن بأن الاجتماع في مكان واحد شرط
لصحة صلاة الجمعة، والظاهر أنه حكمة من حكمها التي تراعى بقدر الإمكان،
ولا دليل على الشرطية فيما نص عليه في المختصر من فعل النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة. ولو كان فعلهم يدل على الشرطية لوجب القول بأن صلاة العيد
في الصحراء خارج البلد شرط لصحتها، إذ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يخرج بأصحابه نساء ورجالاً فيصليها فيها. وكذلك كان أصحابه بعده يفعلون،
والأصل أن تقام الصلوات في المساجد فالعدول عن المسجد في العيد يدل على أنه مقصود لذاته، فلماذا لم يقل الشافعية باشتراط الخروج إلى الصحراء لصحة صلاة العيد؟
ومثل ما ذكر من الاستدلال علي وحدة المكان استدلالهم على عدد من تنعقد
بهم الجمعة، فالشافعية والحنابلة على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون،
واستدلوا بأن المسلمين كانوا في أول جمعة جمعوها أربعين، ولم ينقل أنهم جمعوا
بأقل من هذا، ويرد عليهم حديث الذين انفضوا إلى التجارة وتركوا النبي قائمًا
يخطب، وقد صلاها بمن بقي وهم اثناعشر والحديث في الصحيح عند البخاري
ومسلم وغيرهما. وفي الواقعة نزلت آية {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: ١١) وما رواه الطبراني من أنهم انفضوا إلا أربعين
رجلاً، ضعيف تفرد به علي بن عاصم من الضعفاء، فهذه الواقعة علمتنا أن العدد
الكثير إنما كان لكثرة الناس. وما يدرينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يأمر بتعدد الجمعة لو رأى أمصارًا كبيرة يتعذر أو يتعسر على الناس الاجتماع فيها
على إمام واحد في مسجد واحد كمصر والأستانة وبيروت. أو ليس سكوت أئمة
القرن الثاني ومنهم الإمام الشافعي على تعدد الجمعة في بغداد دليلاً على أنهم ما
كانوا يرون بذلك بأسًا عند الحاجة.
على أن بغداد كانت عند تعدد الجمعة فيها على عهد المنصور حديثة النشأة
ولم تكن كمصر على عهد الشبراملسي في الاتساع وكثرة الناس ولا (كبيروت)
الآن. وهى قد تم بناؤها سنة ١٤٩ أي قبل ولادة الشافعي، ولا دليل عليه من
كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وأن موافقة سائر المذاهب فيها هو
المتعين لمن يحب الوحدة الإسلامية , والله الموفق.