للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


دعوى الخلافة

تعريب مقالة نشرت في جريدة (ترك) الغراء
إن دعوى الخلافة هي من أهم الأسباب الداعية لتشتت شمل المسلمين،
والمانع الوحيد لوفاقهم ووئامهم وما هي بالشيء الجديد، وإنما بدأت منذ زمان سيدنا
علي ومعاوية ونمت بعدئذ وتشعبت إلى شُعب كثيرة. واشرأبَّت نحوها أعناق الأمم
الإسلامية بأسرها حتى إن كل أمة من هذه الأمم لا يروقها وجود الخلافة عند غيرها،
ولا تراها صالحة إلا لها. فكم من دماء على هذه المسألة قد أريقت، وكم أرواح
زهقت، وأطفال يُتمت، ونساء رملت، وكم أضرت هذه الدعوى بالإسلام من
الأضرار البليغة المادية والأدبية.
وأكثر الكل تبجحًا بدعوى الخلافة هم العرب؛ إذ يتخذون انتسابهم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن باللغة العربية، ومدنية العرب بعد الإسلام
حجة على تأييد مدعاهم. ولا يروقهم كون الخلافة بيد الترك الذين تشرفوا بالدين
الحنيف منذ سبعة قرون ولا يرونها لائقة بهم. ومع ذلك فإن الوفاق والوئام لا أثر
لهما بين العرب. فترى مثلاً أن أهل الحجاز يريدون أن يكون شريف مكة هو
الخليفة وأن الخلافة حقه، لا ينازعه فيها منازع. كما أن كل شيخ مشايخ عربان
اليمن يريد الخلافة لنفسه.
أما السوريون فإن أفكارهم تناقض هذه الأفكار كل المناقضة. ولو عطفنا النظر
إلى المسلمين القاطنين في إفريقية لرأينا المراكشيين يدعون أن سلطانهم من نسل
النبي وأنه أحق بالخلافة من غيره. أما سكان وادي النيل فإنهم يريدون أن تكون
القاهرة مركزًا للخلافة كما كانت في العصور الغابرة فتراهم لا يألون جهدًا في تعميم
هذا الفكر بين أفراد المصريين. وأما الإيرانيون فإنهم لا يعتقدون بصحة خلافة الذين
تولوا الخلافة بعد أولاد الرسول، ولا يقبلون غيرهم أحدًا. فعلى ظني أن هذه
الدعاوى جميعها مبنية على أسس واهية، وهذه الأفكار أوهام باطلة، وهذه الأقوال
غير صحيحة.
فأول شرط من شروط الخلافة هو أن تكون الأمة التي تبغي حمل تبعة هذا
المنصب على عاتقها، هي أكثر الأمم الإسلامية جاهًا وأبعدهم في الحضارة شأوًا،
وأقدرهم على درء العدو عن حوزة الخلافة المقدسة، وهو ما يقضي به العقل
والشرع. فإذا نظرنا إليهم نظرة الناقد البصير، فهل نرى غير العثمانيين منهم أمة
تحوز هذه الأوصاف جميعها؟ كلا؛ فالخلافة لا تقاس بباباوية الكاثوليك. ولم تكن
وظيفة الخليفة محصورة في رفع الأكف والدعاء لحفظ الخلافة الإسلامية وصيانتها.
بل إن من الواجب على الخليفة أن يريق الدماء ويبذل الأموال للذود عن حقوقها.
فلا المراكشيون الذين لا يزالون على ما كانوا عليه من الهمجية منذ القرون
الوسطى، ولا حملة الرمح ورماة السهام من قبائل أفريقيا، ولا شريف مكة الذي لا
يهمه سوى سلب الحجاج أموالهم، ولا أصحاب الأوهام الباطلة من المصريين؛
بقادرين على القيام بحقوق هذا المنصب. ولا يمكن أن يقوم بأعبائه غير العثمانيين
الذين تؤهلهم له حضارتهم وموقعهم الجغرافي وبسالة جنودهم وانتظامها. وما أتوه
من الخدم الجزيلة، وما أراقوه من الدماء في سبيل هذه الغاية في العصور الخالية؛
لهو أقوى دليل على ما قدمناه؛ ولكن هل استفادوا مقابل ذلك شيئًا من الفائدة المادية؟
كلا ثم كلا. فلو لم يحملوا تبعة هذا المنصب على عاتقهم لاستراحوا من هذا
العناء، ولأمضوا حياتهم السياسية بكل راحة وهناء! ولما تسلطت النصارى -
حتى الأميركيون منهم- على الأتراك، ولما ترقبوا الفرص لإيقاع الأذى بهم.
وكل ذلك لم يكن إلا لكون الأتراك هم عضد الإسلام الأقوى، وجميع السهام
المصوبة نحو الإسلام لا تقع إلا على رؤوس الأتراك! أما ما يقال من أن الترك لم
يقوموا بأعباء هذا المنصب حق القيام فهو صحيح. ولكن ليبرز من يقدر على القيام
بأعبائه أكثر منهم على شرط أن يؤيد أقواله بالأفعال. وحينئذٍ يرى العثمانيين
مستعدين لتسليم هذه الأمانة المقدسة والانزواء في زاوية الراحة.
أما إذا قال قائل: إن الحكومة العثمانية لا تترك للسوريين واليمانيين
والبغداديين مجالاً فنقول: مَن ذا الذي يا ترى غلّ أيدي المراكشيين والتونسيين
والمصريين عن العمل؟ ولكن هيهات: (طبيب يداوي والطبيب عليل) ! اهـ.
(المنار)
قول الكاتب الأديب: إن دعوى الخلافة كانت بلاءً على المسلمين، وأنها
أضرت بهم كثيرًا صحيح، وكان يجب عليه أن يبحث في تلافي هذا الضرر لا أن
يهيجه بتعظيم قومه وتحقير سائر المسلمين على اختلاف أجناسهم وبلادهم. وكان
يجب عليه أن يمثل لهم قوة الدولة العثمانية عزًّا لهم وشرفًا لا عارًا عليهم وهضمًا،
إن الكاتب أخطأ في سيره بمقالته، وإننا نبين له خطأه ووجه الصواب الذي كان ينبغي
له أن يعرفه، وأن يعرف الناس به وهو أنه لا يوجد في سوريا ولا في مصر من
يفكر في جعل خليفة المسلمين سوريًّا أو مصريًّا أو بغداديًّا. وأما الكلام في المسألة
فقد وجد في مصر وحدها من أفراد من أهل البطالة الذين يكسبون المال والجاه من
الآستانة ومصر بكتابة التقارير للإيهام والتغرير، وقد كتبوا أوراقًا ونظموا
أشعارًا يوهمون بها السلطان بأن خديو مصر يسعى للخلافة سعيها وأن الأمة
المصرية تابعة له. ويريدون بهذا التقرب إلى السلطان تارة، وإلى الخديو أخرى
على أنهم يخوفون السلطان منه؛ ليقضي له حاجاته عنده، وحال هؤلاء معلوم وهم
يوقنون بأن الأمة المصرية لا تفكر في هذا المعنى، ولا ترجوه فضلاً عن كونها تسعى
إليه.
هذا ما نعلمه علم اختبار في القطرين ونعرف برواية الصادقين أن أهل مكة
والمدينة لا يريدون أن يكون أميرها خليفة للمسلمين، وكذلك البلاد العربية كلها تود
أن تكون دائمًا تحت رعاية الدولة العثمانية وسيادتها بشرط أن تقيم فيها العدل، وأما
الذين يخرجون في اليمن فهم معدودون، يستفزهم ظلم أحكام الترك فيهيجون، ولو
حكموا بالعدل لما كانوا يثورون.
فهذا ما نقوله بناءً على اختبار من نثق بهم كصديقنا محمد باشا عبد الوهاب أمير
دارين وصديقنا المرحوم الكواكبي الذي ساح في الجزيرة واختبرها حق الاختبار؛
ولكن العرب لا يصبرون على الضيم، فإذا ساءت معاملتهم ساءت أعمالهم. وأما أهل
مراكش فلا علاقة لهم بالسلطة التركية. ودعوى سلطانهم الخلافة كدعوى سلطاننا لم
تحمل أحدهما صاحبَها على منازعة الآخر، وأما كونها مانعة من اتحادهما فالملوم
فيه أعلم السلطانين وأحكمهما؛ إذ يرضى أن يكون اللقب سبب التفريق بين رؤساء
المسلمين بلا فائدة. وأما الإيرانيون فعذرهم أوضح الأعذار؛ لأن المسألة عندهم دينية
محضة، فلا يمكن مطالبتهم بترك اعتقادهم إلا بالحجة الدينية. ومقالة جريدة (ترك)
سياسية لا دينية.
فعلم من هذا أن تصوير الكاتب الفاضل مسألة الخلافة غير صحيح من جهة
الواقع؛ أي: إنه ليس في المسلمين من ينازع الترك بالفعل لأجل لقب الخلافة وهذا
هو روح المسألة.
وأما قوله: إن العرب يحتجون على كونهم أحق بالخلافة بكذا فغير صحيح
أيضًا؛ وإنما يحتجون بالأحاديث الصحيحة المتفق عليها الناطقة بأن الخلافة في
قريش، وهي حجة لم يخالفهم فيها أحد من علماء الترك فهذه كتبهم في العقائد
والفقه والحديث متفقة مع كتب علماء العرب على اشتراط القرشية في الخلافة. ولا
يقدر أن يقول: إن حديث الرسول من (الأوهام الباطلة والأسس الواهية) ؛ وإنما
الباطل ما ذكره هو في شروط الخلافة من الجاه والحضارة والموقع الجغرافي، نعم،
إن القوة هي المدار الحقيقي؛ ولكن يجب على المسلمين أن يجعلوا قوتهم مؤيدة
للحق الذي جاءت به شريعتهم وحجة له، لا خاذلة له وحجة عليه. ولو كانت
الحضارة شرطًا لما صحت خلافة الراشدين.
وأما قوله: هاتوا لنا من يقدر على القيام بحقوق الخلافة من غير الترك
لنسلمها إليهم، فجوابه أن الخلافة ليست حقًّا شائعًا منتشرًا بين أفراد الشعب التركي
الممتاز على جميع الشعوب بحضارته فيقال ذلك؛ وإنما هي منصب تقلده الأمة
لرجل واحد، وهذا الواحد يجب أن تقيده الأمة بشريعتها، فإذا كان ما يقوله الكاتب
صحيحًا فليختر الترك أو ليربوا رجلاً قرشيًا من آل البيت على صفات الخلافة،
ويجعلوه بقوتهم التي وصفها خليفة للمسلمين، ولا يتوقف هذا على ما يُعجِّز الكاتب به
الشعوب الإسلامية من مطالبتها بالاستعداد لإزالة قوة الترك وإيجاد خلافة بقوة
أخرى.
وخلاصة القول: إن البحث في الخلافة والخليفة من اللّغو الذي يُخشى ضره،
ولا يُرجى نفعه. وإن الذي يجب على كل مسلم في هذا العصر هو أن يؤلف بين
المسلمين في حكومتهم وأفرادهم، وأن لا يجعل هذا اللقب سببًا للتفريق، ولا
اختلاف اللغات سببًا للاختلاف. وأنه لا يضر الترك شيء مثل جعلهم التركية
جامعة لهم يفتخرون بها على سائر المسلمين وتعمدهم إضعاف الشعوب الإسلامية؛
ليمتازوا بالقوة وحدهم، فإنهم إذا أمسوا وحدهم فلا بد أن تبتلعهم أوربا وقد رأوا العبرة
بالممالك التي انفصلت منهم، والممالك التي تهدد بالانفصال. والكاتب الفاضل يعلم
أن القوة التي افتخر بها ليست مؤلَّفة من الترك وحدهم؛ بل منهم ومن العرب
والأكراد والأرناؤوط وغيرهم. فعليه أن يحث قومه على مساواة جميع الشعوب التي
تتألف منها الدولة بأنفسهم في بلاد الدولة، وأن يتقربوا من سائر الشعوب الإسلامية
بخدمة الإسلام نفسه؛ أي: بإحياء لغة كتابه المنزل من عند الله تعالى على
رسوله العربي، وبإقامة شريعته العادلة، وبتأمين حرم الله وحرم رسوله، فإن عار
سلب الشريف أموال الحجاج، إنما هو على الدولة التي تحكم الحجاز لا على
الشريف الذي هو أحد عمالها الذين يوليهم سلطانها (خادم الحرمين الشريفين) فإذا
فعلت الدولة ذلك - ووجهت قوتها إلى جمع الشعوب، وتأليف القلوب - رُجي لها
الفوز بالمرغوب، وإلا كانت هي المقطعة لأوصال الإسلام محافظةً على سيادة
العنصر التركي.
وأما ما تبجح به من أعمال الترك وجهادهم في سبيل الخلافة المقدسة، فهو
أغرب ما في المقالة، فإن الترك أيام حروبهم وفتوحاتهم لم يكونوا يذكرون لفظ
الخلافة، ولا يتبجحون به كاليوم ولم تكن حروبهم دينية؛ إذ لم يكن يتقدمها دعوة
إلى الإسلام، ولم تكن لحماية الدعوة وحرية الدين؛ وإنما كانت لسعة الملك، ولذلك
لم ينتشر الإسلام في الممالك، التي افتتحوها بسعيهم وإقامتهم للدين، ولا ارتقت فيها
الحضارة بمدنيتهم، ولا اتسعت دائرة المعارف بعلومهم، ولا قدروا على تحويلها
إلى لغتهم وجنسهم بحسن سياستهم؛ بل أحفظوها عليهم، حتى أمكنتها الفرصة
فتملصت من أيديهم، وهذا حق يسوءنا ذكره، ولا يسعنا إنكاره، فعلينا وعلى أخينا
الكاتب الفاضل أن نرغب عن الفخر بالباطل إلى تأليف القلوب بالحق، وما هو إلا
شدة حاجة بعضنا إلى بعض، وتناسي أننا شعوب مختلفة فحسبنا أن الإسلام جمع
بيننا، وجعلنا بنعمة الله إخوانًا، وأن الخلافة الحقيقية لم تكن إلا للراشدين ثم صارت
ملكًا عَضوضًا.
ألم يكن أفضل مما كتبه في رمي العرب عامة والمصريين والسوريين منهم
خاصة ببغض الترك، وتمني نزع لقب الخلافة منهم أن يذكّر الجميع بأن أوربا
واقفة للمسلمين عامة بالمرصاد، وأن أعون شيء لها عليهم اختلافهم وتفرقهم، وأنه
لا مصلحة لأحد منهم في هذا التفرق، وأن الدولة العلية هي أقوى دولهم فإذا أوقع
الأعداء بها - وهي قائمة - فكيف يرجى أن تنهض بهم أمة نائمة؟ ! ألم يكن
الأفضل لمن يعتقد أن التنازع على لقب الخليفة هو المانع من اتحاد المسلمين أن
يدعو قومه إلى السكوت عن هذا اللقب، ويدعو سائر الحكومات الإسلامية إلى
الاتحاد على حفظ البلاد الإسلامية مع بقاء كل أمير في إمارته، وكل سلطان في
سلطنته كما يتحالف ويتحد ملوك النصارى؟ !
ليخبرني الكاتب الفاضل: أي ضرر يلحق الدولة أو الإسلام والمسلمين إذا
سكتنا عن الفخر بهذا اللقب الذي اعترف هو بأن ادعاءه قد فرق كلمة المسلمين؟ !
إن قال: تفوت فائدته في تكبير أوربا شأن الدولة العلية، أقول: وهل كان هذا
التكبير إلا ضارًّا؛ إذ هو الذي أقام قيامة أوربا على الترك كما قال، وهو الذي
يحمل دول أوربا على التضييق على مسلمي مستعمراتهم توهمًا أنهم يميلون إلى
الدولة، على أنهم لا يتركون الضغط على الدولة لإرضائهم. وإن قال: إنه يفوتها
بذلك ما تجنيه من مسلمي تلك المستعمرات من الفوائد - نقول: لا نُسَلِّم أن نحو
مساعدة مسلمي الهند لسكة الحديد الحجازية هو لأجل لقب الخلافة، ولئن سلمنا؛
لنقولن: إن هذه الفوائد لا توازي بعض مضرة مناهضة أوربا ونفور العرب من
الدولة إن صح قوله الأول: إنهم نافرون.