للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


خديجة أم المؤمنين
عبد الحميد الزهراوي

الفصل الثالث والعشرون [*]

(إعلان الدعوة، واحتمال الأذى، والثبات)
لم تقف فضائل السيدة خديجة، عندما ذكرناه إلى الآن من سيرتها بل هي
كالينابيع الثرورلا تغيض. والآن يشرف القارئ معنا على مجلى من أعظم المجالي
لفضائل هذه السيدة الجليلة.
جاء الآن دور الثبات في سبيل الحق، وهذا الثبات لا نجده في كل عصر إلا
في صحائف أفراد ندرتهم بين بني آدم أعظم من ندرة الياقوت بين الحجارة، وكثرة
فوائدهم أعظم من قطرات الغيث.
لقد مر على بني آدم ألوف من الأعوام، وفي كل عصر وجد منهم ألوف الألوف
ومن كل هذا العدد العظيم لا نعرف مائة ثبتن في سبيل الحق مع شدة المعارضة ثبات
(خديجة) أما ثبات بعلها الكريم فلا ينبغي أن نقيس به بعدما قدمناه ثبات أحد، فإنا
قد وصلنا في الفصول السابقة إلى بيان أنه مؤيد أعظم تأييد، وأنه سمع الوحي
الإلهي آمرًا إياه أن يقوم بأعباء الرسالة والتبليغ، فأصبح الفرق بينه وبين غيره
عظيمًا جدًّا منذ أتاه هذا الوحي، وعندنا معشر المؤمنين به أنه هو المختار الأعظم
والمصطفى الأكبر، فلذلك لا نرى ثباته في سبيل الحق يعادله أو يقاس به ثبات.
ظل هذا المختار ثلاث سنين يدعوا سرًّا ثم أمر أن يجهر بالأمر فلم يجد إلى
جانبه زوجة تثبط وتخوف أو يضعف قلبها فتؤثر الراحة وطمأنينة البيت على
النصب واحتمال الأذى، بل وجد قرينة صالحة القلب للوقوف معه بالصبر والسكينة
أمام المعارضين والمعارضات وما أشد ما كان أمام هذا الداعي إلى غير ما عرف
القوم! وما أحوج هذه الحالة إلى قلوب كلما كبر المعاندون كيدًا تقول: الله أكبر!
الله أكبر، كنا المعاندون أفرادًا وجماعات قد امتلكت الأنفة والعزة نفوسهم،
واجتذبت قلوبهم، وامتصت من أفئدتهم النداوة فأصبحت نسمات الهدى تزعجها،
وحرارة الإنذار تكاد تحرقها.
قريش وما قريش؟! قبيلة ترى لنفسها السبق بكل فضيلة والشرف على كل
فصيلة، ولها أنوف شامخة كأنها تطاول السماء، وأعناق متلعة كأنها تتصيد كل علياء
تعاد كل قوم بالنجباء فتكْثُرُهم، وتفاخر من تشاء بالعظماء فتفخرهم، مثلها بين القبائل
كالشمس مكانة، وكالروضة نضرةً وعبيرًا، هذه القبيلة التي حالها ما وصفنا من قوى
الشكيمة وشدة الإباء ومزيدا التعالي كانت قد أصيبت من الاقتداء بمضرته إذا
كانت بعض العقائد التي صادفتها في موردها ومصدرها في البلاد المجاورة قد
التصقت بعقولها حتى أصبحت ترى التصدي لاقتلاعها منها اعتداء على حقوقها،
وانتهاكا لحرماتها.
هذه القبيلة كان لها من نور الذكاء ما يبهر الناظرين ولكن قد تراكمت على
أفكارها سحائب من آثار التقليد حالت بين ذكائها وبين الحقائق العالية حتى رأيناها
تدرج مع البلداء في مدرج واحد من تأليه صور صماء عمياء بكماء جامدة قد صنعتها
الأيدي فقامت تحسب أن هذه الصور تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتقرب إلى الخالق
الأعظم وتشفع، وراحت تعلن أن لهذه الصور مجدًا، وتستحق شكرًا وحمدًا، وظلت
تصنع لها ما تصنع الأمم لآلهتها من ذبح القرابين، ونذر النذور، وتوجه القلوب،
وإخبات الصدور، وتعلق القلوب.
نعم ساورت تلك العقائد قلوبها حتى صارت الأنفس فيها لا تنبسط لشيء
انبساطها لتمجيد تلك الآلهة ولا تقبض لشيء انقباضها للطعن فيها أو النقص من
تكريمها.
هذه حال القوم الذين أمر هذا الرسول أن يقوم فيهم منذرًا وداعيًا إلى معرفة
الله تعالى وتوحيده، وكانت قريش تعرف هذا الاسم الجليل الدال في هذه الأمة على
واجب الوجود موجد السماوات والأرض ولكن لم تكن تعرف ما ينبغي أن يكون عليه
جلال الذي يعبر عنه بهذه الكلمة من الكمال والبعد عن مشابهة الحوادث، وقد جرها
الجهل بالله تعالى وسننه وآياته إلى ما جر كثيرًا من الأمم إليه من جهل كثير من
الحقائق. وإني ما أشبه نتائج الجهل به عز وجل إلا بسلسلة طويلة يستدرج بها ذلك
الجاهل إلى أسوأ النهايات إذا لم تتداركه الأسباب من عناية الرؤوف الرحيم جلت
آلاؤه، وتعالت أسماؤه.
ولقد كاد حظ قريش من هذه السلسلة - سلسلة الجهل - يصل بها إلى مستقر
لا تغنيها فيه الرفعة على أمثالها ممن يضرب الجهل خيامه عند خيامهم، ولا تجديها
القوة اليسيرة التي كانت تجدها في اجتماعها ذلك.
كاد الاتكال على الأصنام يعفّي كل آثار الفطرة منها، ويطمس كل رسوم
الذكاء، ويذهب بما تركه فيها من المحاسين بعض فضلاء الأسلاف قبل عهدهم بهذه
الآلهة التي فتنوا بها، أصبحت لا تعي ما هو فضل الله، وما هي رحمة الله، وما هي
عناية الله، وغدت بعيدة عن معرفة ما هو الروح، وما هي خصائص الروح، وما
هي عبادة الروح للأحد المحيط بكل شيء، وراحت معرضة عن العلم بمراقي الأمم
واتساع دائرتها، وعن معرفة وظيفتها من تتميم إرادة الفاطر بإظهار البدائع على
يدها، وظهور آلائه وآثار عنايته عليها، وأصبح قصارى ما يجول بفكر الواحد من
هؤلاء القوم أحد شيئين يشيلان في ميزان العقلاء: شيء يرضي به وهمه في
التزلف إلى تلك الحجارة التي اتخذها آلهة، وشيء يرضي به وهمه في الكبرياء،
ولم يدر مغرورهم أن التزلف إلى تلك الحجارة وأمثالها هو منتهى التسفل العقلي،
وأن تلك الكبرياء لا تجديهم شيئًا إذا دهمهم داهم خارجي كما وقع لهم يوم أبرهة.
هذه السلسة الطويلة من نتائج الجهل بالله تعالى وسننه وآياته أصبحت قيدًا
لمداركهم قد أحكمت حلقاته فهم لا يستطيعون ما دام موجودًا أن يبرحوا ما هم فيه
لأن جاذبًا منه يجذبهم من حيث لا يرونه كلما تحركوا.
هذه هي السلسلة التي اقتضت عناية البارئ أن تظهر آية عظيمة في قدها
وتخليص تلك الفطرة من قيدها، واقتضت الحكمة البالغة والتدبير الأسمى أن يكون
ذلك بواسطة من أنفسهم، وأن تجري الهداية على سننها في الأولين فيلاقي الواسطة ما
يلاقي، ويصبر ما يصبر، ويتم الله ما يريد. ولذلك لما قام هذا المصطفى يعلن هذه
الدعوة لقي تلك الصوادم، وما تلك الصوادم؟ جهل وغرور، وكبرياء وعتو، وقسوة
وفظاظة، وتعصب للمألوف، ونفرة من الوعظ والنصح، وإباء أمام الإنذار، وطغيان
وبهتان وعدوان، وإقدام على قتل الذي يذكر آلهتهم بما يكرهون.
أي قلب لولا التأييد الرباني يجد إلى الصبر سبيلاً أمام هذه الصوادم؟ وأي
ناصية لولا العون الرحماني تظهر للقاء هذه الصوادم؟ وأي امرأة غير (خديجة)
ترى بعلها في جوف هذه الغوائل ثم لا تزيده إلا حمدًا على القيام بوظيفته وإيناسًا
بوقوفها معه في وجه كل خصم لدود؟
أوذي (عليه صلوات الله وتسليماته) بأنواع الأذى لما أسمعهم الدعوة،
تكاثر المفتاتون عليه والمفترون، وظاهر سوادهم الجاحدون والممترون، من أقرب
أقربائه ظهر الجافون المتباعدون عنه، والهازئون به والساخرون منه، دع عنك
البعداء، ومن أكل قلبهم حسد أو بغضاء، قال المفترون: هو يطلب الملك علينا.
وقالوا عن الوحي الآلهي: هو شعر جاء إلينا. وقد حشروا ما عرفوه من الغيوب،
وأرادوا عزوها إليه؛ لينفروا الناس منه وينتقموا لآلهتهم التي بدههم يجحودها،
وكشف لهم عوار جمودها، وأيسر ما فعلوه سبهم إياه والهزء به والافتراء عليه
ومجافاته، ثم مجافاة من لم يجافه. فعلوا كل هذا وهو متدرع بالصبر، مثابر على
الصدع بالأمر، وفي هذا كانت معه هذه الدرجة الشريفة الفاضلة تعلم محبي الحق
كيف يكون الصبر من أجله، وتهدي إلى الأجيال الآتية أجمل صورة
لثبات الجأش أمام الصعوبات.
ويا ما أحلى الصبر إذا كانت عاقبته كعاقبة صبر هذا الرسول الكريم! فقد كانت
العقبى ذلك الفوز العظيم الذي يقل في الدنيا من لم يسمع خبره. ولنعم عقبى
الصابرين.
خلاصة الدعوة
أما الدعوة الشريفة التي أعلنها فهذه أصولها:
١- العلم بأن لا شيء يستحق التأليه إلا الله الخلاق العظيم الذي لا يشبه
الحوادث ولا يشبهه شيء منها.
٢- العلم بأن هذا البارئ المصور ذو عناية خاصة بالنوع الانساني، ومن
عنايته به إتحافه بصنوف الهدايات ومنها الهداية بواسطة وحي أعلى للرسل
المصطفين.
٣- العلم بأن هذا الداعي الجديد إلى الله هو رسول مصطفى قد أرسله الله بدين
يدعو إلى السعادة في هذه الحياة وحياة أخرى يوم الجزاء.
٤-العلم بأن الإيمان بهذا الرسول يقتضي الإذعان والتسليم إلى كل ما جاء به.
هذه أصول الدعوة التي كان مأمورًا أن يبدأ بها الناس. وهي ملخصة
بهاتين الجملتين الشريفتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فمن قالهما مطمئنًا بهما
قلبه دخل تحت اللواء المحمود لواء المحمدية الذي يظل مئات الملايين في يومنا هذا.
والرسالة المحمدية لم تكن لقريش ولا للعرب خاصة بل هي للناس كافة ولكن
البدء بالعشيرة الأقربين كان هو الذي تقتضيه الحكمة حتى إذا أجابوا كانوا عونًا
للدعوة لا عونًا عليها.
***
الفصل الرابع والعشرون
(بعد عشر سنين)
بعد عشر سنين من عهد الرسالة كان المؤمنون قد كثروا وأخذ العناد من
الخصوم يزيد، وجعل الحسد يلتهب في قلوبهم لهذا النجاح الذي كانوا يحسبونه
محالاً وكم يحسب أمثالهم مثل هذا الحسبان.
كان الجاحدون في نار من ذلك الحسد، والمؤمنون في جنة من الفرح بنعمة الله
ورحمته، كان الجاحدون يفكرون كيف يزهقون هذا الروح الجديد، والمؤمنون
ينتظرون من مولاهم إعلاء شأنه، كان الجاحدون حيارى في هذا الداعي، فطورًا
يسبونه وطورًا يهزؤون به، وأحيانًا يرجعون إلى أنفسهم ويحاسبون حسهم وعقلهم
فيه؛ فيجدونه بعيدًا عن المين وسائر المظان التي كانوا يظنون. وكان المؤمنون من
يقينهم في حظ عظيم من الطمأنينة وانشراح الصدر وفرح الضمير. كان الجاحدون
يرجعون إلى تلك الحجارة فيشكون إليها المحمديين وما أتوه من مخالفة قومهم وتأييد
ذلك الرجل الذي لا يذكر آلهتهم إلا بسوء. وكان المؤمنون يرجعون إلى من لا تدركه
الأبصار متوجهة إليه وجوههم، مسلمة إليه قلوبهم لا يتوكلون إلا عليه ولا يأخذون إلا
بسننه. كان الجاحدون عكوفًا حول تلك الأصنام الجامدة، وكان المؤمنون يقولون:
سبحان الله، سبحان الله عما يصفون، تعالى الله علوًّا كبيرًا. كان الجاحدون كثيري
الغم والهم، وكان المؤمنون مع شدة ما لاقوه من الأذى فرحين مستبشرين قد أبدل الله
لهم مرارة الصبر حلاوة، وذلة القلة عزة.
وفي أواخر تلك السنين العشر الشداد كان على سرير الاحتضار شخص عزيز
جدًّا عند المؤمنين. ولم يُشَمِّت الجاحدين في تلك الأيام شيء مثل مغادرة هذا الشخص
لذلك العالم الإسلامي الذي نشأ وترعرع بينهم بالرغم منهم.
كان في هذا الشخص العزيز روح ترفرف في هذا المحيط الصغير، تارة
ترفع البصر إلى مقرها الأقدس عند المحيط الأعظم فتحاول الطيران إليه، وتارة تلقي
به على هذا المحيط الذي أنست به فتظل مرفرفةً عليه، وجانحة إلى العكوف لديه،
وكان جاذب من قلوب هذه العالم الإسلامي يتمنى بقاءه، وجاذب من أمر الله وسنته
يقضي بطيرانه، وأمر الله أعلى وإليه المصير.
هل عرف القارئ من هذا المودع العزيز ذلك كان شبح سيدتنا (خديجة)
فقف أيها القلم خاشعًا، لقد ماتت من تركت للفضائل حياة لا تفنى، لقد انتهى هذا
العمر الذي أمدك بهذه المواد السامية، ولن تجد لك أيها القلم شرفًا بعد هذه السيرة إلا
إذا سرت بنقل التاريخ المحمدي.
سبحان رب الكون هذا حكمه ... في الروح سيمت بهذا الواقع
مرآتها هذا الشخوص بها ترى ... زمنًا وترجع للمحيط الواسع
لقد مرت روح سيدتنا خديجة بهذه الدار فرأينا منها ما نقلناه للقارئ والآن هي
لدى المحيط الواسع. فهل تتجلى اليوم على هذه العالم الذي مرت به وترى أن تلك
الكلمة التي قاست في سبيلها مع بعلها الكريم ما قاست قد أعلاها الله تعالى وعظم
شأنها ونصرها العرب وغير العرب وأصبحت برور الأرض وبحورها مملوءة كل
هذه العصور إلى يومنا هذا بمن يقول من جميع أجناس البشر (لا إله إلا الله محمد
رسول الله) .
وقد ولدت سيدتنا خديجة من زوجها الكريم بنين وبنات وبقيت لها من بنتها
السيدة فاطمة الزهراء ذرية مباركة في أكثر أقاليم الأرض والحمد لله ولكن هل
تتجلى اليوم تلك الروح الشريفة وترى أن كل المؤمنين يعدون اليوم أولادها،
فالسلام عليك يا أم المؤمنين، سلام الله ورحمته وتحياته على روحك الطاهرة
يا أماه.
((يتبع بمقال تالٍ))