للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الثالث والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم على ما أسبغت علينا من نِعَمك الظاهرة في السراء، والباطنة
في الضراء، وأريتنا من آياتك في الآفاق بتنازُع الباغين الطاغين وفشلهم، وفي
أنفسنا بالتأليف بين المستضعفين المُؤذَن بظفرهم، وأتممت النعمة بما أكملت لنا قبلُ
من الدين، واستخلفتنا في الأرض، فجعلتنا أئمةً وارثين؛ إذ جعلت إرثها لأهل
العدل من عبادك الصالحين، ونصلي ونسلم على مَن بعثتَه خاتمًا للنبيين، محمد
نبي الرحمة الأمي، المعلم للكتاب والحكمة، وآله وعِتْرته، وكل مَن فاز بصحبته،
{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} (الأنفال:
٧٤) ، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا وصبروا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ
لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: ١٠) .
أما بعد: فإن المنار يبشر قُراءه في فاتحة المجلد الثالث والعشرين، وخاتمة
ربع قرن من جهاد مُنشئه في خدمة الشرق بإصلاح حال المسلمين، وبعد انقضاء
جيلٍ مِن صيحة أستاذَيْه الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين، بأن ليل الذل
والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس، فقد ذهب طور الترف
والفسوق المهلك للأمم، والمفسد للحكومات والدول، وصرنا إلى طور الشدائد
الممحِّصة للقلوب، المُذْكية لمصابيح العقول، الموقدة لنار الهمم،المظهرة لاستعداد
الأمم، بإزالة الأحقاد، وجمع الكلمة على الجهاد {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: ٢-٣) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: ٢١٤) .
جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوَحدةِ، وجمع كلمة الأمة،
بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن، وما هدى إليه من سننه المُطَّردة في أطوار
الإنسان، عالمين أن هداية القلم واللسان، لا يغيران ما رسخ في القلوب والأذهان،
إلا بقدر تربية كوارث أحداث الزمان، وإنما تتغير أحوال الأمم بتغيُّر الأعمال،
التي تنبعث عما ثبت في الأنفس من الأفكار وملكات الأخلاق {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: ٥٣) .
ألا وإنه قد أتى الأوان، للعمل بما أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان
أهل هذا الزمان، من أهل مصر والسودان، وسائر العرب والهند والترك
والفرس والأفغان، فهاؤم اقرؤوا بعض قواعدهما التي نشرناها في الشرق، في
مثل هذا الشهر من السنة الأولى بعد ثلاثمائة وألف:
(خفيت مذاهب الطامعين أزمانًا ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما لا
تنكرها الأنفس ثم التوتْ، أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء، حتى
تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم، وخرجوا بهم عن
محيط النظر، وبلغوا بهم من الضيم حدًّا لا تحتمله النفوس البشرية.
ذهب أقوامٌ إلى ما يسوله الوهم، ويغري به شيطان الخيال، فظنوا أن القوة
الآلية وإن قل عمالها - يدوم لها السلطان على الكثرة العددية وإن اتفقت آحادها،
بل زعموا أنه يمكن استهلاك الجم الغفير، في النزر اليسير، وهو زعم يأباه
القياس، بل يبطله البرهان، فإن تقلبت الحوادث في الأزمان البعيدة والقريبة ناطقة
بأنه إن ساغ أن عشيرةً قليلة العدد فنيت في سواد أمةٍ عظيمةٍ ونسيت تلك العشيرة
اسمها ونسبتها فلم يجز في زمن من الأزمان امِّحاءُ أمةٍ أو مِلَّةٍ كبيرةٍ بقوة أمة تماثلها
في العدد أو تكون منها على نسبة متقاربة وإن بلغت القوة أقصى ما يمثله الخيال،
والذي يحكم به العقل الصريح، ويشهد به سير الاجتماع الإنساني من يوم عُلِمَ
تاريخُهُ إلى اليوم - أن الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف الافتراق في الكلمة، أو غفلة
عن عافية لا تُحمد، أو ركون إلى راحة لا تدوم، أو افتتان بنعيمٍ يزول، ثم صالت
عليها قوة أجنبية أزعجتها ونبهتها بعض التنبيه، فإذا توالت عليها وخزات الحوادث
وأقلقتها آلامها فزعت إلى استبقاء الموجود، ورد المفقود، ولم تجد بُدًّا من طلب
النجاة من أي سبيل، وعند ذلك تحس بقوتها الحقيقية، وهى ما تكون بالتئام
أفرادها، والتحام آحادها، وإن الإلهام الإلهي والإحساس الفطري والتعليم الشرعي -
ترشدها إلى أن لا حاجة لها إلى ما وراء هذا الاتحاد وهو أيسر شيءٍ عليها.
إن النفوس الإنسانية - وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت - إذا كثر
عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه
الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النفوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمَّر
ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادًا.
ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها
تدارُك ما فرط، والاحتراس من الوقوع في مثله، فتصيب أخرى فيكون لها الظفر
والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يطاق إذا قام بتدبيرها القَيِّم عليها
ومدبر لسيرها - لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها قهر ذلك القيم،
وإهلاك ذلك المدبر؛ فإن العلة مادامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن
ذهب قَيِّمٌ خلفه آخر أوسع منه خبرة وأنفذ بصيرة. نعم، يمكن تخفيف الأثر أو
إزالته بإزالة علته ورفع أسبابه.
جرت عادة الأمم أن تأنف من الخضوع لمَن يباينها في الأخلاق والعادات
والمشارب وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمَن هو على شاكلتها، فكيف بها
إذا حمَّلها ما لا طاقة لها به؟ ، لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما
أنكرته بعدت عن الميل إليه، وكلما تباعدت منه لجهة كونه غريبًا - تقرب بعضها
من بعض، فعند ذلك تستصغره، فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب!
إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تُنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في
الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يعمّها من الخطر ألزم من التحزب
للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشد من
دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة.
أَبَعْدَ هذا يأخذنا العجب إذا أحسسنا بحركة فكرية في أغلب أنحاء المشرق في
هذه الأيام؟ ! كُلٌّ يطلب خلاصًا ويبتغي نجاةً وينتحل لذلك من الوسائل والأسباب
ما يصل إليه فكره على درجته من الجودة والأَفَن، وإن العقلاء في كثير من
أصقاعه يتفكرون في جعْل القُوى المتفرقة قوة واحدة يمكن لها القيام بحقوق الكل.
بلى كان هذا أمرًا ينتظره المستبصر، وإن عمي عنه الطامع، وليس في
الإمكان إقناع الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أبنائه،
بل ما يجري به القضاء الإلهي من سنة الله في خلقه - سيكشف لهم وَهْمَهُم فيما
كانوا يظنون! .
بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب
منهم نكايته، خصوصًا في المسلمين منهم، فمنهم ملوك أُنْزِلوا عن عروشهم جورًا،
وذَوُو حقوق في الإمرة حُرِموا حقوقهم ظلمًا، وأَعِزَّاء باتوا أَذِلاّء، وَأَجِلاّء
أصبحوا حُقَراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصِحَّاءُ أضحوا سِقامًا، وأُسُود تحولت
أَنعامًا، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسَّها الضُّرُّ من إفراط الطامعين في
أطماعهم خصوصًا من جرَّاء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي
المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها: حملوا إلى البلاد ما لا
تعرفه فدهشت عقولها، وشَدُوا عليها بما لا تَأْلفُهُ فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس
في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضَّدُوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة
ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع، فكانت الحركة العرابية العشواء، فاتخذوها
ذريعة لما كانوا له طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب بل طوفان المصائب على
تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب ولكن أخطأ الظن وهَمُّوا بما لم ينالوا - إلى
أن قال -:
(ولو أنهم تركوا الأمر من ذلك الوقت لأربابه، وفوضوا تدارك كل
حادث للخبراء به، والقادرين عليه، العارفين بطريق مدافعته، واقْتِنَاء فائدته -
لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة، بدون أن تزل
لهم قدم، أو يُنَكَّسَ لهم عَلَمٌ.
غير أنهم ركبوا الشطط وغرهم ما وجدوا من تفرق الكلمة، وتشتت الأهواء
وهو أنفذ عواملهم وأقتلها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب،
وما أسرع أن يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلب المعتدين؛
فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعُوفي منه باقيها كانت سلامةً لبعضٍ،
تعزيةً للمصابين وحجابَ غفلة للسالمين، يحُول بينهم وبين الإحساس بما أصاب
إخوانهم، أما إذا عَمَّ الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر،
فيندفعون إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم.
إن الفجيعة بمصر حركت أشجانًا كانت كامنة، وجددت أحزانًا لم تكن في
الحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من
تذْكارِ الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس
زفيرًا، بل.. بل يكون صاخَّة تمزق مسامع مَن أصمه الطمع.
إن أَوْلَى المتغلبين بالاحتراس من هذه العواقب جيل من الناس لا كتائب له في
فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالق يسوقها للاستملاك سوى المحاباة، ولا أَسِنَّة يحفظ
بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان، متقاربة الأشكال،
كحافظ عروش الملوك والمُدافع عن ممالكهم، ومثبت مراكز الأمراء، ومسكن الفتن،
ومخلّص الحكومات من غوائل العصيان، وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما
يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق
الذي يكفي لتمزيقه رَجْعُ البصر، وكَرُّ النظر، وأن يتحاشى العنف مع أمة يشهد
تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مُكنتهم وهو يعلم أن الكلمة
إذا اتحدت لا تُعْوِزها الوسائط، ولا يعدم المتحدون قويًّا شديد البأس ويساعدهم
بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أسلم أو عطب،
فهو يَضُرُّ ليضرَّ، وإن مسه الضر.
إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربت بين
الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار
العقلاء وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت
بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى
معالجة علل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومُؤَمِّلين أن
تمهد لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر
منها لَنُهزةً تُغتنَمُ، وإليها بسطوا أَكُفَّهُم، ولا يخالونها تَفُوتُهم، ولئن فاتت فكم في
الغيب من مثلها وإلى الله عاقبة الأمور!
تألفت عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار
خصوصا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كل وجهٍ،
ويوحدون كلمة الحق في كل صقعٍ، لا ينون في السعي ولا يقصرون في الجهد،
ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يشفق منه حيٌّ على حياته) إلخ.
هذا بعض ما نشره يومئذ ذانكم الإمامان الحكيمان، ولو كان الشرق مستعِدًّا له
في زمنهما كاستعدادِه في هذا الزمان - لما رسخ قدم الاحتلال في مصر والسودان،
ولكان الشرق على غير ما هو عليه الآن، وحسبهما أنهما هما السابقان، والموقظان
المرشدان، وإن زعيم مصر اليوم ليفتخر بأنهما هما المربيان لعقله وآرائه، ويشهد
بأنهما هما النافخان لروح الوطنية في قومه وأمته، كما يفتخر المنار بأنه المحيي
لذِكْرهما، والناشر لدعوتهما، والمقفي على آثارهما، ونسأله تعالى أن يتم لهذه
الأمة ما ظهرت أوائل فضله به من جمع الكلمة، ويكمل لخَلَفها ما صدق به وعد
سلفها، بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم بجعْلهم من الصالحين.
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: ٥) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا