للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوجود والمادة والقوة والخالق عزَّ وجل
رأي الأستاذ الإمام في الحدوث والقدم [١]

حضرة الأستاذ صاحب الكوكب المنير
قرأت فيما نشره الكوكب أمس السبت من ترجمة مذكرات مستر ولفرد بلنت
المشهور ما ذكره من حديث الأستاذ الإمام مع الفيلسوف سبنسر في عقيدة المسلمين
في الخالق عز وجل، وفي حالة أوربة والشرق، وما ذكره من حديثه هو مع
الأستاذ الإمام في علم الله تعالى بالجزئيات، وفي قدم المادة والخالق عز وجل.
فأما حديث أستاذنا مع الفيلسوف سبنسر فقد كان بسطه لنا بعد عودته من
أوربة، ورأيت كلمة عنه في مذكرة له ونشرتُ هذا وذاك في المنار وفي الجزء الأول
من (تاريخ الأستاذ الإمام) فراجعوه في (ص ٨٦٨) من التاريخ إن شئتم.
وأما حديثه مع مستر بلنت في الخالق وعلمه وقدم المادة في أثناء عودتهما من
زيارة الفيلسوف فلم يذكر لنا عنه شيئًا؛ ولكننا نجزم بأن ما نقله عنه مستر بلنت
من القول بقدم المادة خطأ سببه عدم فهمه لما قاله الأستاذ الإمام لدقته وكونه من
اصطلاحات كلامية وفلسفية لم يعرفها عقله ولم يألفها فهمه، وإننا قد تلقينا عنه هذا
البحث مطولاً مفصلاً في الكلام على الوجود من درس المنطق حتى قلنا مع أذكى
الأساتذة الذين حضروا ذلك الدرس: إننا لم نفهم معنى الوجود إلا في هذا اليوم،
وفي الكلام على الوجود الواجب والوجود الممكن من رسالة التوحيد، ثم في مباحث
أخرى من دروس التفسير وأهمها الكلام على المادة والقوة الذي أثار إشكالاً في
بعض الأذهان اقتضى أن يوضحه الأستاذ كتابة، وقد نشرت رأيه وما كتبه في
إيضاحه في الجزء الأول من التفسير.
أقام الأستاذ الإمام البراهين العقلية القطعية على حدوث العالم قولاً وكتابة وقِدَم
خالقه واجب الوجود وحده، فلا يمكن أن يقول لمستر بلنت ولا لغيره إن المادة لهذا
العالم قديمة كقِدَم واجب الوجود، إلا إن كان يقول بوحدة الوجود كالشيخ محيي الدين
ابن عربي وأمثاله من فلاسفة الصوفية الغلاة الذين يقولون: إن الوجود الحق واحد
في ذاته متعدد في مظاهره وهي أعيان الموجودات في الخارج وشخوصها، وهو قد
ذكر للفيلسوف سبنسر مذاهب المسلمين الثلاثة في نسبة الخالق إلى العالم: مذهب
السلف الذين يقولون إنه فوق جميع خلقه بائن منهم بلا تمثيل ولا تحديد، ومذهب
المتكلمين الذين يقولون إنه لا في داخل العالم ولا في خارجه - فيقولون كالسلف
بالبينونة وبنصوص العلو والفوقية مع تأويلها - ومذهب الصوفية الذين يقولون
بالوحدة، وهو قد صرَّح في رسالة التوحيد وفي دروس التفسير أنه يقول بقول
السلف، ولا يعيب قول الخلف.
ولكنه كان في تقرير المسائل الاعتقادية يلتزم اصطلاحات علماء الكلام (إلا
في التفسير) وأما في الرد على الشبهات وتقرير الحقائق الإسلامية للفلاسفة
والماديين، فكان يحاول تقريب الاصطلاحات العلمية المختلفة بعضها من بعض إذا
كانت هي سبب الاختلاف في فهم الحقيقة، ثم يبين أن الحق ما أثبته الإسلام، وقد
كان الفيلسوف سبنسر يرى أن إثبات ذات للقوة المدبرة لأمر العالم، وأن لهذه الذات
صفات قائمة بها كما يعتقد المسلمون - يقتضي أنهم يقولون بتشخصه تعالى، فأعلمه
الأستاذ الإمام بأننا نقول إنه موجود ولا نقول إنه شخص مشخص، بل نقول إنه لا
يُدرك كنهه، ففهم الفيلسوف كلامه ودُهش من الإعجاب به كما يقول مستر بلنت؛
ولكن مستر بلنت لم يفهم كلامه كما فهمه الفيلسوف، ولذلك سأله بعد الخروج من
عنده عن علمه تعالى بالجزئيات فأثبته له، وسأله عن قدم المادة كقدمه تعالى وادعى
أنه أثبتهما معًا، ونحن نجزم بأنه لم يفهم جوابه لضيق الوقت عن إيضاحه فأخطأ
في بيانه.
والراجح عندي في سبب ما فهمه مستر بلنت من قدم المادة أن الأستاذ الإمام
أراد أن يكشف له شبهة الماديين في اعتقادهم قدمها، وهي استحالة وجود شيء من
العدم - أو شيء من لا شيء كما يقولون - ثم يبين له حجة المسلمين على حدوثها،
فوافقه أولاً على أن العدم لا يكون مصدرًا للوجود، بل بيَّن له كما بيَّن لنا في
دروس المنطق بالأزهر أن العدم لا حقيقة له في نفسه؛ وإنما هو أمر اعتباري
فرضيّ محض وإنما الشيء الثابت هو الوجود، وإن الوجود المطلق أزلي أبدي لأن
مقابله وهو العدم المطلق محال لا يمكن ثبوته ولا تحققه ولا تصوره ولا تخيله؛
وإنما يتصور الذهن العدم الإضافي وهو نفي نسبة موجود إلى موجود كعدم وجود
شمسين وقمرين لهذه الأرض، فتوهم الرجل من هذا أن وجود المادة قديم لأن العدم
محال.
ثم أخذ الأستاذ الإمام يبين له أن الوجود قسمان: وجود واجب لذاته، ووجود
ممكن لذاته، ومن الثاني أعيان العالم المادي الذي نعرفه بحواسنا ونقيس ما لم
ندركه منها على ما أدركناه، فمنه ما نرى بأعيننا حدوثه بعد إن لم يكن، ومنه ما
نعلم حدوثه بالأدلة كهذه النجوم والكواكب اللامعة فوقنا، فلا يوجد عالم من علماء
المادة أنفسهم يقول إنها قديمة أزلية، ومعنى كونه كله ممكنًا أن ذاته لا تقتضي
الوجود في نظر العقل لثبوت سبق أعيانها بالعدم ولا فرق في نظر العقل بين
أعيانها المركبة من عنصرين أو عدة عناصر وبين عناصرها البسيطة، وكل ما لم
يكن وجوده من ذاته لذاته لا لعلة خارجة فلا بد له من علة وسبب يهبه الوجود،
وهذا السبب لا يمكن أن يكون عدميًّا؛ لأن العدم لا ثبوت له في ذاته فيكون سببًا
لوجود غيره، فوجب أن يكون سبب وجود الممكنات كلها هو الوجود الواجب أي
الذي له الوجود لذاته لا لعلة أخرى، وهو الذي لا يتصور عدمه، وهو الله عز
وجل.
هذا هو البرهان العقلي عندنا على حدوث العالم كله، وكأني بالأستاذ الإمام قد
ذكره لصديقه مستر بلنت مختصرًا في طريقهما من دار الفيلسوف سبنسر إلى
المحطة فلم يفهمه منه ولكن بقي في ذهنه قوله إن العدم لا يكون مُنشِئًا ولا سببًا
للوجود، وتوهم أنه يستلزم أن تكون المادة قديمة أزلية كالخالق تعالى وهذا محال.
أزيد في بيان الموضوع أن الله تعالى قال في الاحتجاج على المعطلين: {أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} (الطور: ٣٥) أي لا يمكن أن يكونوا
خلقوا من غير شيء (أو من لا شيء كما يقال) لأن العدم لا يكون سببًا ولا
مصدرًا للوجود، ولا يمكن أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم ولا لغيرهم، وهذا مما لا
ينكرونه، فيتعين أن يكون الخالق لهم هو الله واجب الوجود لذاته، وما يصدق
على المخاطبين بهذه الحجة يصدق على غيرهم من الممكنات الوجود عاقلها وغير
عاقلها كعناصر المادة بالأولى، وإذا أمكن الجدل والمراء في جزئيات الممكنات فلا
يمكن المراء في جملتها، وإنني أذكر هنا عبارة رسالة التوحيد في ذلك لأستاذنا
وهو قوله بعد بيان حقيقة الواجب والممكن والمستحيل ما نصه:
(جملة الممكنات الموجود ممكنة بداهة، وكل ممكن محتاج إلى سبب يعطيه
الوجود، فجملة الممكنات الموجودة محتاجة بتمامها إلى موجد لها، فإما أن يكون
عينها وهو محال لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه، وإما أن يكون جزأها وهو
محال لاستلزامه أن يكون الشيء سببًا لنفسه ولما سبقه إن لم يكن الأول، ولنفسه
فقط إن فرض الأول، وبطلانه ظاهر، فوجب أن يكون السبب وراء جملة
الممكنات (أي غيرها) والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب، إذ ليس وراء
الممكن إلا المستحيل والواجب، والمستحيل لا يوجد، فيبقى الواجب فثبت أن
للمكنات الموجودة موجدًا هو واجب الوجود) .
ثم أورد البرهان من وجه آخر أخصر وأدق من هذا، وقد علم من هذا وما
قبله من مقدماته وما بعدها من الكلام في الوجود الواجب، وما ثبت لواجب الوجود
عز وجل وحده من القدم أنه يستحيل أن يقول صاحب هذه البراهين إن المادة قديمة
أزلية، وإن المعقول أن يكون السبب في فهم مستر بلنت ما ذكر منه هو ما فصَّلناه،
أو يكون الكلام في القدم اللغوي، أو الإضافي، وهو قدم عناصر المادة على
مركباتها.
ولكاتب هذا المقال طريقة غير طريقة شيخه الأستاذ الإمام الفلسفية في إثبات
حدوث المادة في مناظراته للقائلين بقدمها جدلاً أو اعتقادًا بينتها في مواضع من
مجلة المنار منها مناظرة بيني وبين صاحبي المقتطف منذ ثلث قرن تقريبًا،
ملخصها أن جميع ما نعرفه من هذا العالم العلوي والأرضي حادث بالاتفاق بين
العلماء؛ ولكنهم يتخبطون في تصور تكوينه وتصويره بصورة معقولة، ولا يزالون
مجمعين على أن منشأ الكون ومصدره الأول مجهول الكنه مع الجزم بأنه موجود ذو
قوة أو حكمة يدل عليهما النظام العام في جملته وفي كل نوع من أنواعه، أو جنس
من أجناسه، وهو ما نعبر عنه بالسنن أو النواميس، وهذا الموجود المجهول كنهه
وحقيقته المعلومة صفاته بما يدل عليها من العالم، هو الذي نسميه نحن بالاصطلاح
العلمي واجب الوجود، وبالاصطلاح الديني (الله رب العالمين) .
هذا وإنه قد ثبت عند علماء المادة أن عناصرها البسيطة قد يتحول بعضها إلى
بعض كتحول غاز الراديوم إلى عنصر الهليوم وفاقًا لنظرية وحدة المادة في الأصل،
ونظرية من قال من فلاسفتنا وفلاسفة اليونان إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد
تقريبًا.
ثم ثبت أخيرًا أن القوة تتحول إلى مادة أو تصدر عنها مادة، ومن المعلوم أن
كنه المادة وكنه القوة مجهولان، وكنه القوة أعرق في الخفاء من كنه المادة، فصح
لنا معشر المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء أن نقول لهؤلاء الماديين إن هذه
القوة التي صدرت عنها المادة هي قدرة الله تعالى، وهي عندنا مجهولة الكنه، كما
أن ذات الخالق تعالى مجهولة الكنه [٢] .
وقد بيَّنت هذا البحث في مقال طويل عنوانه (السنن الكونية والاجتماعية
ونظام الكون) نشرته في الجزء الأول من مجلد المنار، مجلد هذا العام قلت فيه ما
نصه:
وما لي لا آتي إلى أساس هذا الكون والسنن التي قام بها تكوينه في الأطوار
المختلفة، ألم يكونوا يقولون إنه مؤلف من مادة ذات عناصر بسيطة وقوة هي منشأ
التركيب الذي حدثت بها الصور المختلفة في العالم كله.
قد هُدم هذا الأساس إن لم يكن بما ثبت من تحول عنصر إلى عنصر، فيما
ثبت من أن ما نسميه المادة والقوة اصطلاح لا تعرف له حقيقة، وإن هذا الوجود
الذي نعرفه في أرضنا وسمائنا ليس سوى مظهر من مظاهر تموجات الكهرباء،
وإن كل ذرة من ذراته تتألف من كهارب سلبية تدور حول كهرب إيجابي
(والكهرب هو الوحدة من الكهرباء) وهذه الكهارب لا يمكن أن يقال إنها مادة، ولا
إنها قوة؛ وإنما حقيقتها مجهولة، إلى أن قلت:
فإذا كانت المادة تصدر عن القوة كما قالوا (أولاً) فما المانع من القول بأن
هذه القوة هي قوة الله وقدرته؟ وإذا كان الوجود الممكن كله مظهرًا من مظاهر
تموجات الكهرباء المجهولة الكنه كما قالوا (أخيرًا) فأي بعد بين قولهم هذا وقول
أتباع الوحي: إن الوجود الممكن الظاهر صادر عن الوجود الغيبي الباطن؟ وقول
الله تعالى يصف نفسه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: ٣) .