للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسألة ثواب القراءة للموتى

أرسل إلينا صديقنا الرحَّالة الجليل السيد محمد بن عقيل من (المكلا) ما يأتي
بغير إمضاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب في المنار في الصحيفة ٨١ وما بعدها - من ج ٢ م ٢٣ لسنة ١٣٤٠ -
مقالة مطولة في عدم وصول ثواب قراءة أحد من الناس إلى شخص آخر مطلقًا،
وكثير مما نقله غير صحيح فيما نرى.
وقد عَنَّ لنا أن نرقم شيئًا خطر بالبال عند قراءة ما جاء في المنار، فنقول:
أولاً - إن الأعمال ما لم تكن خالصة لله تعالى - لا تُقبَل، وما لا يُقبَل فلا
ثواب فيه، فقراءة المستأجر أو صاحب الوقف إنما هي من باب طلب الدنيا بعمل
الآخرة، وهو مذموم، فأي ثواب يهبه هذا المغرور؟ !
ثانيًا - بعض أعمال المكلف لا يمكن أن ينفك عنه ثوابها، ولا يمكنه أن
ينتفع بأمر آخر بدونها، وذلك الإيمان، وأعني به المقدار الذي لا يخلد في النار مَن
اتصف به، وقريب من هذا ما تنصبغ به النفوس من آثار الأعمال.
ثالثًا - يدور كلام المنار في منع الإهداء للثواب على شبهتين:
(أولاهما) ما فهموه غلطًا من الحصر في نحو قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ
لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) ، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: ٢٨٦) ، ومن الأحاديث الواردة في هذا المعنى، وهذا الحصرُ إنما معناه
قصر الاستحقاق على سبيل الوجوب فيما ذُكر طبق العدل الإلهي، والأمر في الدنيا
هكذا أيضًا، لكل مكلف ربحُ عمله، وعليه تبعتُهُ، ولكن ليس في شيء من الأدلة
ما يمنع أن يتكرَّم الله سبحانه وتعالى بجود منه، وفضل على عبد من عبيده ابتداءً.
منه طولاً ورحمة، لا بسابق عمل ولا سعي، وهذا غير التضعيف الذي نواتُهُ
صالح الأعمال، كما أنه ليس فيها ما يمنع أن يفوز المؤمن بشفاعة مَن يأذن له
بالشفاعة ثوابًا ودرجات، وأن ينال بسبب دعاء مَن يقبل الله دعاءه - ما لم يسعَ فيه،
أو يخطر له ببال، وكذلك ليس فيها أنه لا يصل إليه من الثواب ما يهديه إليه
إخوانه من عمل صالح مقبول.
والشبهة الثانية أن أعمال المكلف ليست من ممتلكاته كعروض التجارة ... إلخ،
والجواب عليها أننا نعلم أن ثواب الأعمال الصالحة لا يجري مجرى عروض
التجارة، ولكنه مع ذلك قابل للانتقال من شخص إلى آخر، فينتفع به غير عامله -
أي ما خلا ما استثنيناه آنفًا - كما ورد من أخْذ حسنات الظالم، وإعطائها للمظلوم،
وأخذ سيئات المظلوم، ووضْعها على الظالم، وهل هذا إلا من التصرف؟ ! ، وأما
دليلنا - فيما استثنيناه - فهو أننا لم نطلع على نص يفيد سلب إيمان أحد ليُعطَى
لآخر، فيدخل هذا في النار، وذاك في الجنة بخلاف ثواب الأعمال وعقابها، وأما
مطلق المنع فعليه - فيما أفهم - شمة من قول الوعيدية.
ويوضح ما رجحناه - من جواز الهبة وانتفاع المكلف بعمل غيره - آية
الإلحاق {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور: ٢١) ، والأحاديث الواردة في ذلك
المعنى، وفي بعضها: (كنت أعمل لي ولهم) ، وإذا صح أن ينتفع الشخص بعمل
قريبه - من أصل أو فرع - صح أن ينتفع بما وُهب له، فذاك كالميراث، وهذا
هو الهدية أو الهبة أو الصدقة أو الصلة أو ما شئت.
جعلنا الله ممن غمره جود جوده في الدنيا والآخرة بِمَنِّه وكرمه، وصلاته
وسلامه على سيدنا محمد وآله. اهـ.
(المنار)
إننا بسطنا أدلة ما قررناه في هذه المسألة، وبيَّنَّا بالبراهين الصريحة من
القرآن أن من أصول دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٨-٣٩) ، وأن أصل الأديان
الوثنية التي سرت عدواها إلى كثير من أهل الكتب السماوية - هي أن المجرمين
إنما ينجون بعمل الصالحين أو بجاههم، لا بأعمال أنفسهم، وبينا أن الله تعالى
ألحق بالمؤمنين ذريتهم، وأنه شرع للمؤمنين أن يدعو بعضهم لبعض، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم أذن لبعض الأولاد - بناءً على إلحاق الله إياهم بوالديهم - أن
يقضوا عنهم بعض حقوقه تعالى عليهم ... إلخ، فما قررناه مبني على الأخذ
بصريح النصوص الثابتة في الكتاب والسنة، مع مراعاة القاعدة المعروفة وهي:
أن أمور الآخرة لا تُعلم إلا من كلام الله وكلام رسوله، وأنه ليس للآراء العقلية حُكم
فيها، ولا هي مما يعلم بالأقيسة الاجتهادية كمسائل البيع والإجارة، فظنون
المجتهدين لا مجال لها في عالم الغيب، ولا في شيء من مسائل العقائد.
وصاحب هذه الرسالة قد زعم أن كثيرًا - مما قلناه وما نقلناه - غير صحيح،
فأما النقل فلم يستطع إثبات زعمه في شيء منه ألبتة، وأما غيره فقد وافقنا فيه في
أمور، وانفرد بمسائل ليست من موضوع البحث كقوله: ليس في النصوص ما
يمنع أن يتكرم الله على عبد من عبيده ... إلخ، وهل يمكن لعبد أن يحجر على ربه
أن يتكرم؟ ! ، لا، وليس لعبد أن يفتات على ربه بمحض رأيه أيضًا، فيخبر عنه
بما لم يخبر سبحانه به عن نفسه في كتابه ولا على لسان رسوله، أو يقيد ما أطلقه،
وهو يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: ٣٦) ، ويقول - في
بيان أصول الجرائم والكفر -: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة:
١٦٩) .
وهو قد حصر - ما زعمه من تخطئة المنار - في شبهتين:
إحداهما: الأخذ بما فهمه المحققون من العلماء - كالإمام الشافعي رحمه الله
تعالى - من الحصر في آيه النجم، وما في معناها من الآيات والأحاديث، وزعم
أن هذا الفهم غلط، قال: وإنما معناه قصر الاستحقاق على سبيل الوجوب ... إلخ،
وهو تقييد لحصر مطلق لا دليل له عليه، ولا سلف له فيه، وهو في آيات كثيرة
وردت في بيان الجزاء الذي يجب الإيمان به، كقوله: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} (الطور: ١٦) ، لا في بيان ما يجب عليه تعالى منه، وما لا يجب،
والحق أنه تعالى لا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه على نفسه، أي أثبته، وأكده في
وَحيه بمشيئته التي لا تتعارض مع حكمته، ومسألة الوجوب على الله تعالى عقلاً يقول
بها المعتزلة، وينكرها أهل السنة.
والشبهة الثانية - التي زعمها -: مسألة جعْل عبادات المؤمن كعروض
التجارة يتصرف فيها وفي ثوابها المجهول في الآخرة، فهو قد ادعى أن ثوابها قابل
للانتقال، وللعامل أن يتصرف فيه قبل أن يملكه بأن يهبه وهو في الدنيا، أو
يتصدق به، واستدل عليه بأخْذ الله تعالى من حسنات الظالم للمظلوم دون أخذ إيمانه،
وجعْله لغيره، وهو استدلال باطل؛ لأنه قاس فيه تصرف العبد في الدنيا بما لم
يملكه - ولا يعلمه من أمر الغيب - على تصرف الرب في الآخرة: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: ١٩) ، كما قاس عمل كل عامل
على عمل الوالدين للأولاد الذين ألحقهم الله بهم، وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم
عملهم من عملهم؛ لأنه سبب وجودهم، وما تبعه من أعمالهم، وكلاهما من القياس
مع الفارق، والفرق مثل الصبح ظاهر، ولو صح أن القصاص يوم القيامة
معارض للآية لم يكن حجة علينا؛ لأنه خارج عن محل النزاع؛ ولأننا نحن
نستثني من عموم النصوص ما خصصها من كتاب أو سُنَّة صحيحة بالشروط الثابتة
في تخصيص العام من الأصول لا بالرأي وهوى النفس، ولولا الشرع لكنَّا نهوى
أن نقدر على نفع أمواتنا، وأن يقدر أحياؤنا على نفعنا بعد موتنا، وهل عمم هذه
البدعة إلا كونها موافقة للأهواء؟ ! ، والصواب أنه لا تعارُض، وأن المقاصة في
الآخرة كحكم الشرع في الغرامات في الدنيا، فهو لا ينافي أن لكل إنسان ملكه، ولا
حق له في ملك غيره، وأنه لا يملك إلا ما جعله الشرع مالكًا له، ولا يؤخذ منه
باختياره وبغير اختياره إلا ما أذن به الشرع، قال الإمام المازري - في حديث
مسلم في المقاصة بالحسنات والسيئات الذي نقلناه في تفسير هذا الجزء -: (وزعم
بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} (الأنعام: ١٦٤) ، وهذا الاعتراض غلط منه وجهالة بيِّنة؛ لأنه إنما
عُوقب بفعله ووزره وظلمه، فتوجَّهت عليه حقوق لغُرمائه، فدفعت إليهم من
حسناته، فلما فرغت، وبقيت بقية - قُوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى
في خلقه وعدله في عباده، فأخذ قدرها من سيئات خصومه، فعوقب به في النار،
فحقيقة العقوبة إنما هي بسبب ظلمه، ولم يعاقَب بغير جناية، وظلم منه، وهذا كله
مذهب أهل السنة) ، والله أعلم. اهـ من شرح النووي على صحيح مسلم.
***
انتقاد آخر في الموضوع
من صاحب الإمضاء الرمزي في بيتن زورغ (جاوه) في ٢٢ شوال ١٣٤٠
حضرة الفاضل المحترم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله.
بعد السلام والتحية والإكرام
إني اطلعت على ما ذكرتم في عدد ٨١ من المنار في مسألة انتفاع أموات
المسلمين بما يُهدَى لهم من ثواب قراءة أو ذكر، وذكرتم أن جواب ابن القيم عن
هذه الحجة ضعيف جدًّا، وأطلتم الكلام في ذلك، وهذا الشيء معمول به في سائر
الأقطار الإسلامية، بل يُؤَجِّرون على ذلك لمَن يقرأ القرآن على الختمة شيء
معلوم (كذا) ، وعلى التهليل مَن جاب ٧٠ ألف مرة فله كذا وكذا، ويهدي ذلك إلى
أرواح الأموات، ولا أحد يعترض عليهم في ذلك؛ لأن وصول ثوابه إلى الأموات -
وعدم وصوله وقبوله عند الله تعالى - من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله،
وأنتم تقولون: إنه لا يصل إليهم ثواب القراءة والذكر، فمَن أطلعكم على ذلك،
وفضل الله واسع، والظن بالله جميل؟ !
ومع ذلك أنكم خطَّأتم ابن القيم، وأكثرتم الأدلة والتأويلات في هذه المسألة،
ولو فرضنا أنها بدعة - كما ذكرتم - فهي من البدع الحسنة، وليس يأثم مَن قرأ
القرآن والذكر، وأهدى ثوابه للأموات، بل يُثَاب، وليس هي من البدع المضرَّة
في الدين، وقد ورد في الخبر: (مَن سَنَّ سنة حسنة فله أجرها، وأجر مَن عمل
بها إلى يوم القيامة، ومَن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم
القيامة) ، أو ما هذا معناه.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: البدع بدعتان، بدعة محمودة وبدعة مذمومة،
وتنقسم البدع إلى خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، وهذه
المسألة ترجع إلى أي قسم من هذه الأقسام.
أفيدوني، وأجركم على الله، وأرجو أن تنشروا جوابكم في المنار على ما
ذكر.
أ. ح. ب. ر
(المنار)
اعلم - أيها الأخ المستفهم - أن أصول دين الله تعالى وفروعه مبنية على
أساسين: (أحدهما) أن لا يُعبد إلا الله تعالى، (ثانيهما) أن لا يُعبد إلا بما شرعه،
ونحن قد بنينا على هذا الأصل، ولم نتجرأ على عالم الغيب، وإنما وقفنا عند
النصوص، فعبادات الدين لا تثبت إلا بنص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يزيد فيها برأيه شيئًا؛ فإن الله تعالى قد أكمل
دينه على لسان رسوله بنص الآية المشهورة، وكل بدعة في الدين فهي ضلالة
بنص الحديث الصحيح، وإجماع علماء الأمة، وأما البدعة التي قالوا: إنها تكون
حسنة وسيئة المشار إليها بحديث: (مَن سن سُنَّة حسنة ... ) - فهي في
المستحدثات الدنيوية، فالحسن منها هو النافع كبناء القناطر والمدارس والمستشفيات
وتدوين العلوم والصناعات والحرف، والقبيح منها هو الضار في الدين أو الدنيا،
والحسن يكون واجبًا أو مستحبًّا، والقبيح يكون حرامًا أو مكروهًا، وما ليس من
هذا ولا ذاك فهو المباح، كمستحدثات الزينة غير المحرمة والطيبات من الرزق،
وهذه إنما تسمى بدعًا في اللغة، لا في عرف الشرع، وممن صرح بأن البدعة
اللغوية هي التي تعتريها الأحكام الخمسة، والبدعة اللغوية لا تكون إلا ضلالة: ابن
حجر المكي الهيتمي (في ص ٢٠٦ من الفتاوى الحديثية المطبوعة بمصر) ، ولو
أبيح للناس أن يزيدوا في العبادات لضاع الإسلام، كما ضاعت أديان الرسل
السابقين بتصرف أتباعهم فيها، وكل هذه المسائل مبينة في مواضع كثيرة من
المنار بدلائلها التفصيلية، ويمكنكم مراجعتها مستدلين عليها بالفهارس.
ثم اعلم - أيها الأخ - أن عمل الناس بغير المشروع، وسكوتهم على إنكار
المنكر لا يغير حكم الله في ذلك، ولعلكم رأيتم ما حققه في هذه المسألة السيد محمد
إسماعيل الأمير في رسالته (تطهير الاعتقاد) ، التي نشرناها في الأجزاء الأخيرة،
وهو أن الناس يعملون منكراتٍ كثيرةً مجمعًا على تحريمها، وقد صارت فاشية
في جميع بلاد الإسلام، ولكن الأمة لا تُجمِع على السكوت على المنكر؛ ولهذا
تجدون في كل عصر مَن ينكر كل بدعة تحدث، وقد نقلنا عن العلماء إنكار هذه
البدعة، ومَن لم ينكرها اجتهادًا فهو معذور.